إيلاف+

تداعيات، في طريق الى معبرربيعة 2-2

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

خالد السلطاني: لاتزال سيارتنا تنهب الارض بسرعتها العالية. يصادفنا احيانا من الجهة الاخرى رتلا من آليات امريكية، باضويتها القوية المنارة حتى في النهار، واشكالها المميزة. وعلى السائق في حال رؤيتها من بعيد ان يتوقف على حافة الطريق، ليمر الرتل مسرعا من الجهة الاخرى. كانت المرة الاولى التى اشاهد بها الجنود الامريكان، او ما يطلق عليهم " القوات المتعددة ". ثمة احاسيس كثيرة ومتباينة اثارتها لدي رؤية الارتال المارة. لا اريد ان اقول بان منبع تلك الاحاسيس امر آني، وليد لحظة مرور تلك الارتال عن قرب. فلكل عراقي، بضمنهم انا نفسي، تراكمت لديه انطباعات واحاسيس معينة عملت على تشكيل وصياغة مواقف محددة وقناعات خاصة تكونت تجاه ما آلت اليه الامور بعد سقوط نظام الطاغية. لكني اعترف بان فعالية تداعي الافكار تلك نشطتها حركة الارتال المارة المسرعة، وتوقفاتنا القسرية الصامتة على جانب الطريق. ثمة اراء، اذن، ومواقف متعددة وحتى متناقضة لدى الكثيرين ازاء ما جرى ويجري بالعراق. وتصيبني الدهشة عن مقدار الثمن الغالي الذي يتعين ان يدفعه الناس جميعا ويوميا لازالة نظام استبدادي، يدفعونه كضحايا لعمليات ارهابية وكفرائس لقسوة مفرطة لا تعرف الرحمة ولا تميز بينهم، فضلا على تحملهم تبعات فقدان الامان ومعاناتهم وتعايشهم جراء تخلف الخدمات بابسط صورها وفي احيان كثيرة فقدانها التى كان ينبغي توفرها منذ زمن بعيد، في بلد عظيم وغني كالعراق. كما ينتابني الاستغراب عن كم ونوعية الاخطاء القاتلة التى تقترفها قوات متعددة الجنسيات، واصاب بالذهول للاخطاء التى لا تغتفر التى ترتكبها النخب المسيطرة على الحكم واعوانها.

واعيد الاستفهام المحيرنفسه، واكررالتساؤل الملتبس ذاته : كيف دارت الامور بحيث وصل بنا الوضع الى مثل ما وصلنا اليه، بعد ظهور تلك الافاق غير المسبوقة التى فتحت امام العراقيين وبلدهم بسقوط النظام التوتاليتاري؟ بالطبع انا لا اذكر متعمدا دور قوى الارهاب الوافد ومتضرري التغيير وبقايا النظام الشمولي الاستبدادي في اذكاء نيران الارهاب والعنف والحقد والاجرام فضلا عن دور جميع الانظمة المجاورة المرعوبة من تبعات زلزال 9 نيسان 2003 التى تكالبت مع تلك القوي الظلامية في حلف غير مقدس لجهة تشويه ومن ثم التمني لاسقاط التجربة العراقية ؛ ذلك لان هذا الدور اعتبره بمثابة امر متوقع ومفهوم وحتى تحصيل حاصل لما جرى ؛ لكن الامر غير المفهوم وغير المنطقي ولا المتوقع، هو سرعة تقمص بعض ضحايا النظام الاستبدادي الدور المشين الذي كان يمارسه نظام الطاغية نفسه تجاه الاخرين، وانجرارهم سريعا وراء اداءه بذات الاساليب القمعية والتسلطية التى كانوا هم ضحاياها في الامس القريب. معتبرين كل من لم يقف معهم ومع شعاراتهم الشعبوية اعداءا لهم، اي تماما كما في ممارسات العهد المباد، بحيث " تحل " عليهم وعلى عوائلهم اللعنة اولا، ثم التصفية الجسدية تاليا!.

- ماذا يحصل لو لم نتوقف، في حالة مرور الرتل الامريكي؟ سألت " صديقي " السائق، محاولا ان ابعد الخوف الذي " سكن " فجأة سيارتنا، جراء كثافة مرور الارتال المسرعة العديدة بصورة لافته، في الجهة الاخرى من الطريق.

- سيصلوننا بطلقات رشاشاتهم لامحال!.
بلعت ريقي، ولم اعلق بشئ على كلامه ؛ لكن مخيلتي " قدحت " بصور سريعة ومتتالية عن حوادث الموت المجاني التى اصبحت جزءا من واقع ساكني هذا البلد المعذبين، الذي اسمه العراق ؛ والذي نكاد نحن العابرين المجتمعين صدفة داخل " جي. ام. سي " ان نكون نسخة مكررة لاحدى وقائع تلك الحوادث.

- هل تسنى لك مشاهدة حادثة واحدة من تلك التى تتحدث عنها؟ ؛ استفسرت منه بعد لأي ٍ، وبعد ان تمالكت نفسي اثر سماع ما قال، مبعدا شريط صور الحوادث المميتة المسرعة عن ذهني.
- لم اشاهد بنفسي تلك الحوادث، لكني سمعت عنها من معارف واصدقاء. هل ترى بقايا لهياكل سيارات محروقة هناك؟ ان مثلها قد مرّ علينا بالطريق وسوف نشاهد شبيها لها في مواقع آتية. ان بعضها حصيلة تلك الحوادث والبعض الاخر سببها الارهابيون والسراق الذين انتشروا سريعا في مثل هذه البقاع بعيدا عن اي نوع من سيطرة او التزام بنظام.
اثناء كلامه لمحت " اشارة " تدلل الى اتجاه مدينة " تلعفر ".
- ما سب وجود هذه الاشارة هنا؟ سألت السائق.
- انها تشير الى موقع مدينة تلعفر القريبة من هنا.
- " شنو"؟؟!!

خرجت تلك الكلمة المستفسرة من فمي سريعا وبتلقائية ردا َ على " المعلومة " غير المتوقعة باننا نسير بالقرب من تلك المدينة المنكوبة، التى جعل الارهاب التكفيري منها هدفا ً دائما لاعمالهم المشينة المفرطة في قسوتها وظلامية دوافعها. فقبل فترة قصيرة ماضية عرف العالم باسره فاجعة اهلها عندما فجر المجرمون الظلاميون القتلة شاحنة مليئة بالمتفجرات كانت مخفية تحت اكياس طحين صدّق اهلها المساكين بانها تحمل لهم " حصتهم " التموينية البسيطة. لقد كانت شدة ذلك التفجير لدرجة مدمرة وقوية، بحيث شبهها احد المطلعين بالخراب الشامل الذي يمكن ان يحدثه انفجار هائل شبيه بانفجار " قنبلة ذرية "!!.

كيف قيل لنا بان الطريق آمنة؟ ونحن بالتالي نمرّ بالقرب من بؤر الارهاب ومناطق جرائمهم المفرطة في عنفها وقسوتها؟. توقفت المخيلة عن تكرار " سيناريوهات " جديدة ومتخيلة، فالطريق المحاذي لتلك المدينة المنكوبة يمكن ان يكون حافلا بحوادث كثيرة، حوادث لا تخطر على بال..

... تبدو الفوضى " سيدة " الموقف في معبر " ربيعة "، انها تعكس بجلاء الفوضى العارمة ( والتى تسمى الان بالفوضى الخلاقة!) التى تضرب مناطق كثيرة من عراق اليوم. ليس ثمة نظام يمكن للمرء ان يتبعه وهو في فضاءات المعبر الحدودي العراقي. وكلمة " فضاءات " هنا لا تعني باي حال من الاحوال مدلولها المعماري الدال على مفهوم " الاحياز " المغلقة. ذلك لانها فعلا " فضاءات " مفتوحة وفسيحة. نقف في طابور طويل من دون ان نعرف الى اين تؤدي بدايته. لكننا سرعان ما نغيره الى طابور اخر يدلنا عليه احد " الحراس " العسكريين. بيد ان ارشاده لنا يرافقه اظهار مفتعل لتبجح سلطوي زائد، وصراخ عال من دون داع ٍ يقطعه بين الفينة والاخرى اتصالات لاسلكية يجريها مع مجهول عبر جهازه الاسود الكبير. لكن ما اثارني هناك، في معبر " ربيعة " ليست الفوضى، التى لم تكن قطعا خلاقة ؛ اثارني العدد الكبير من صور المطلوبين المعلقة على جدران منشاءات المعبر الحدودي. انها صور لاشخاص جلهم من الشباب واكثريتهم من الهاربين حديثا من سجن بادوش القريب من الموصل. ان سيماء خلقتهم المتنوعة وتعابير وجوههم المختلفة تشير الى بلدانهم المتعددة التى اقرأ منها : السعودي والمصري والسوري والفلسطيني والاردني والسوداني والموريتاني والتونسي والجزائرى واليمنى والمغربي وحتى.. الافغاني والباكستاني وصولا الى.. الاندينوسي. تبدو وجوههم كالحة من دون رأفة ولا تحمل اية شفقة.

ياالهي! ما الذي اغراهم في المجئ الى هذا البلد المنكوب؟ اما يكفي عقودا كثيرة من الظلم والحورب العبثية والقسوة والفواجع والارهاب الذي رزح العراق به طويلا اثناء الحكم الاستبدادي الشمولي؟ الا يكفي هذا؟ هل حقا انهم اتوا الى هنا دفاعا ً عن " استقلال " العراق من الامريكان " المحتلين "؟ ؛ لا اظن هذا هو السبب. فالامريكان متواجدون في معظم اراضي بلدانهم، وهم يحظون في رعاية وحماية واحترام حكومات تلك البلدان، وهم هناك بطلب وبالحاح منهم. اذن لماذا يأتون ليفجروا انفسهم وسط العراقيين التعساء، بحجة الدفاع عنهم؟ اي فكر هذا، واية عقيدة تبيح قتل الناس بالعشرات وبقسوة ما بعدها قسوة : من سيارت مفخخة وذبح رقاب امام عدسات الفيديو؟.

اي فكر؟ الفكر ذاته : الفكر المرعوب من " الاخر " من المختلف، المتقوقع على نفسه والمهوس باكذوبة الذات المتعالية، التى تجعل من الاخرين المختلفين اشخاصا اقل شأنا يتعين اقصائهم فهم لا يستحقون الحياة!. في " اطروحات " ذلك الفكر المغلف بتمركزات عقائدية واهية، ليس ثمة مفهوم يشير الى " اخر "، هناك مسمى بدلا منه يدعى " كافر ". وعندما يقوم ذلك الفكر باسقاط مثل هذا التعميم على المختلفين، تجيز تلك العقائد الغارقة في ظلمها وظلاميتها كل انواع الانتهاكات للاخر بل وترتقي تلك الممارسة الاجرامية لديهم الى مصاف الواجب الشرعي، الذي يتعين على " المؤمنـين " جميعـهم الاحتذاء به!.

ثمة اموال كثيرة تنفق، يرافقها اكاذيب وافتراءات جاهزة تبثها فضائيات عديدة ليل نهار، جعلت من نفسها اداة طيعة لجهة تسويق ونشر وتكريس هذا الفكر الظلامي في الحياة العامة العربية والاسلامية ؛ ذلك الفكر الذي " يكفر " الاخر ولا يقبل بالاختلاف، جاعلا من تلك الاكاذيب التى تدعى ظلما بـ " الفتاوي " بلغة الاقصائيين المتحجرين، " خبزا يوميا " يملأون به بطون اتباع الفكر الظلامي. ان مجرد رؤية وجوه اصحاب الصور المعلقة، والحكم انطلاقا من اعمارهم، على نوعية " خبرتهم " الحياتية، يجعل المرء يتساءل عن حقيقة البرنامج او مغزى الرسالة التى بمقدورهم ايصالها الى العراقيين؟ لا شئ سوى القتل والدمار وجعل حياة الناس جحيما لا يطاق!.
لم تعرف البشرية - حسب علمي - على طول تاريخها الطويل خداعا وتظليلا شاملين مثلما يحدث الان بالعراق. فتنقلب الحقائق والحوادث رأسا على عقب في هذا البلد المنكوب، ويضحى الاسود ابيضا، والابيض اسودا، ويصار الى تسمية الاعمال الاجرامية عكس مسمياتها، ويطلب من الناس التصديق بان ضحايا موجات الارهاب والفتن هم المسؤولون وحدهم عنها، وتبرئة منفذيها الحقيقيين واعتبارهم، هم وحدهم، من يدافع عن العراق ومعتقداته!.

يقال ان حبل الكذب لقصير. لكنه بالعراق يبدو اليوم غير ذلك ؛ فالكمية الهائلة من الاموال المتدفقة والتضليل الاعلامي المبتكر ووجود كثر من يصدق افتراءات واهية، يزيد، مع الاسف، من طول ذلك الحبل يوما بعد آخر.
زال الخوف بغتة عنا، نحن ركاب " سيارة " الجي. ام. سي. " بعد ان تركنا وراءنا معبر " اليعربية " السوري،، انقشعت تلك الغمة الثقيلة التى كانت مخيمة علينا طيلة السفرة ونحن في الاراضي العراقية. وعلى حين غرة سمعت اصوات الركاب الجالسين خلفي، ودهشت لساعات الصمت المطبق الطويلة التى مرت، من دون ان يتحدث احدا منهم. فماعدا تساؤلاتي القصيرة الى السائق التى كنت بها اقطع " حبل " السكوت، لزم الركاب الاخرين الصمت. وتبين باننا جميعا كنا " مشغولين " مع افكارنا برسم مشاهد مروعة لما يمكن ان يحصل لنا، مشاهد تغذيها مخيلة محصورة ببعبع الرعب و" سعالي " الارهاب المخيفة. ومع ابتعادنا عن المخفر السوري ومع ضجيج الاصوات المتداخلة لاحاديث الركاب المرحة المفاجئة، فقد ظل قلق عميق ملازما لي، قلق على مصائر اولئك الساكنيين الان في الجهة الاخرى من الحدود ؛ لكن سرعان ما امتزج هذا الشعور بهاجس قوي لاحساس داخلي يومئ بمجئ غدٍ آمن مفعم بالخير ينشر السلام في ربوع العراق ويمنح الطمأنينة لاهله الطيبيين، رغم قسوة الظروف والانتكاسات والمحن التى تبدو فاعلة بنشاط على سطح المشهد العراقي اليوم.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف