السَّحُور وفانوس رمضان حكاية لا تخلو من طرافة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
محمّد رجب السامرّائي من أبو ظبي: لعلّ ممّا يتفرد به شهر الطاعة والغفران، لياليه الجميلة، وإحياءها بالذكر والعبادة، حيث يستيقظ الصائمون في هزيع الليل المتأخر طيلة أيام رمضان لتناول طعام السَّحور، كي يسدوا رمقهم لأداء صيام يوم جديد. فالٍسَّحور في لغة العرب هو: طعام السَحَر وشرابه، وما يتسَّحر به الصائمون من طعام أو شراب. يقول ابن الأثير: السَّحور اسم ما يتسَّحر به من الطعام والشراب، ونقول في كلامنا: تَسَحَرَّ بمعنى أكل السَّحور. والسَّحور المصدر والفعل نفسه. وقال الأزهري :" السَّحور ما يتسَّحر به وقت السَحَر من طعام أو لبنٍ أو سُويق". والسحر: الكبد وسواد القلب، ونواصيه، وقيل بل هو القلب.
أيام النبيّ الكريم.
والسِحْر هو البيان والوضوح في فطنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنّ من البيان لسحرا". وورد في حديث السيدة عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها - قولها: " مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سِحري ونَحري". فالسِحر: الرئة، أي مات عليه الصلاة والسلام وهو مستند إلى صدرها بما يحاذيه.
وحثّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائمين على السحور لما فيه من البركة بقوله الكريم:" تسحروا فإن في السحور بركة". وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان لرسول الله مؤذنان بلال وابن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنّ بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم. قال ولم يكن بينهما إلاّ أن ينزل هذا ويرقى هذا". وورد في حديث عمرو بن العاص- رضي الله عنه -أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -قال: " فعل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور". والفطور والسحور كلمتان تذكران طيلة أيام رمضان المبارك، إذ هما موعد بدء الإفطار والإمساك عن تناول الطعام قبيل صلاة الفجر بعد أن يستيقظ الصائمون في آخر الليل ليسدوا به رمقهم لليوم التالي من صيامهم. وللسحور أحاديث مروية، قال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في حديث شريف: " تسحروا فإن في السحور بركة".
المسَّحَراتي و إيقاظ الناس
وتحدث ابن القيم عن إفطار النبي عليه الصلاة والسلام فقال: " كان عليه الصلاة والسلام يعجل الفطر ويحض عليه ويتسحر ويحثُّ على السحور ويؤخره ويرغب في تأخيره" كما أنّه - عليه الصلاة والسلام- كان يعتد بأكلة السحور الخاصة بأمته، وعن عبد الله بن الحارث قال:" دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليه فوجده يتسحر، فقال: إنها بركة أعطاكم الله إياها فلا تدعوها"
ولما كان السحور يقع في أخريات الليالي، فقد اتخذت منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وسائل لتنبيه الصائمين لوقت التسحير، حيث كان المسلمون يعرفون جواز الأكل والشرب بآذان بلال بن رباح، ويعرفون الامتناع عنه بأذان ابن أم مكتوم، وفي الحديث الشريف:" أنّ بِلالاً ينادي بليل، فَكُلُوا واشْرَبُوا، حتى ينادي ابن أم مكتوم". وعُدّ الصحابي بلال بن رباح أوَّل مَنْ نَادى للسَّحُورِ في الإسلام.
نداءات التسحير
وعُرفت المآذن في بيوت اللهhellip; كمفردة رمضانية ومصدر إعلامي يستقي الصائمون منها بلاغ المؤذنين حول بدء السحور والإمساك عنه، وان اختلفت صيغ النداء منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما تلا ذلك من حقب وعصور، لكنّ نداء التسحير بقيَّ طقساً راسخاً في ذاكرة الناس الجمعية، وتميز هذا الطقس بقيام المؤذنين بأداء أربعة نداءات وتذكيرات للمتسحرين، إذ كانوا يقولون في أول النداء:
أَيُّها النُوّام قوموا للفلاح
واذكروا الله الذي أجرى الرياح
إنّ جيش الليل قد ولّى وراح
وتدانى عسكر الصبح ولاح
اشربوا عجلى فقد جاء الصباح
معشر الصوّام يا بُشراكم
ربّكم بالصوم قد هنّاكم
وجوار البيت قد أعطاكم
فافعلوا أفعال أربابِ الصلاح
اشربوا عجلى فقد ولى الصباح
- ثم يذكر المؤذنون في النداء الثاني:
كُلوا رضيّ الله عنكم،
كُلوا غفرَ الله لكم،
كُلوا ممّا في الأرض حَلالاً طيباً،
كُلوا من الطيبات واعملوا صَالحاً،
كُلوا من رزق ربِّكم واشكروا له،
بلدةٌ طيبةٌ وربّ غفور.
- أما التذكير الثالث فينادون فيه:
يا مدبر الليالي والأيام،
يا خالق النور والظلام،
يا مُلْجِأ الأنام،
ياذا الطول والإنعام،
رَحِمَ اللهُ عبداً ذكرَ الله،
رَحِمَ اللهُ عبداً شكرَ الله،
رَحِمَ اللهُ عبداً قال:
لا إلهَ إلاّ الُله محمدٌ رسول الله.
ثم يرددون مكررين في التذكير الأخير:
اشربُوا وعَجِّلُوا،
فقد قَرُبَ الصَباح
وكان الناس يدعون ربّهم في الأسحار لأن دعائهم مستجاب من الخالق الجليل نحو دُعائهم:
اذكروا الله في القُعُودِ والقِيَام،
وارغبُوا إلى الله تعالى بالدُعاء والثَناء،
اشربُوا وعَجِّلُوا فَقَد قَرُبَ الصَباح.
الزمزمي في مكة
عُرف المسحراتي عبر مراحل مختلفة بصور ومظاهر متنوعة، سواء من حيث الترديدات الكلامية، أو من ناحية هيئته وأدواته التي يستخدمها في تأكيد هذه الحالة الرمضانية التي تشير إلى الروابط الحميمية بين الصائمين، وهذا الرجل الذي أخذ على عاتقه ترسيخ هذا التقليد في هزيع الليل الأخير من أيام الصيام.. ولا سيما وأنّ المسلمين في عصورهم المتعاقبة قد عرفوا المسَّحراتي، واهتموا به، ووضعوا له مكانة رفيعة حتى عند عِلْيَةِ القَوْم، فقد اشتهر بالتسحير الزمزمي في مكة والذي تولى التسحير في منارته في الركن الشرقي من الحرم ومعه أخوان صغيران فيقاولانه فيقول:
نياما قوما
قوما للسحور
- فيردد الطفلان ما قاله الزمزمي ثم ينشد السابق ذكره:
أيّها النوّام قوموا للفلاح.
وفي كل مرة ينادي الزمزمي بهذا النداء ثم يرخي طرف حبل جمعه في يده فينخفض فيتدلى منه قنديلان كبيران معلقان في أعلى المنارة، فمن لم يسمع نداء التسحير يبصر القنديلين ينزلان فإذا لم يشاهدهما علم أن وقت السحور قد فات.
ابن نقطة في بغداد
يُعد القوما من الفنون السبعة الشعرية عند أهل العراق والجزيرة. وكان الفن موسمياً رمضانياً أريد به إحياء لياليه حتى السحور وإنّ النساء كُنّ يشاركنّ في قوله إضافة للكان وكان، وكانت عملية التسحير بالشعر والغناء والدعاء نوبة أو دوراً يجري على فرقة المُسَحِرين واحداً واحداً لكنّ ختامها يكون بالقوما. وكان ابن نقطة من مُسَحِري شهر رمضان في العصر العباسي، إذ كان يوقظ الخليفة الناصر لدين الله في بغداد، وكان ينادي في تسحيره بأشعار القوما قائلاً:
قوما تسحر قوما
فلما مات ابن نقطة ذهب ابنه، وكان له صوت جميل ووقف تحت قصر الخليفة الناصر لدين الله ثم أنشد بصوت مرتفع:
يا سيّد السّادات
لك في الكرم آيات
أنا ابن أبو نقطة
تعيش أبويا مات
فأعجب الخليفة الناصر لدين الله بسلامة ذوقه، ولطف إشارته، وحسن بيانه مع إيجازه، فأحضره وخلع عليه ورتب له ضعف ما كان لوالده. ولم يقتصر التسحير على الرجال إذ عملت في هذه الحِرفة الرمضانية بعض النساء،وقد أنشأ الشيخ زين الدين بن الوردي في إحدى المُسَحِرات في ليالي رمضان قائلاً:
عَجِبْتُ في رَمضانٍ مِنْ مُسَحَّرَةٍ
بَديعةِالحُسْنِ إلاّ أنّها ابتَدَعَتْ
قامَتْ تُسَحّرُنا لَيْلاً فَقُلْتُ لَها:
كيفَ السَّحورُ وهذي الشَّمْسُ قَدْ طَلَعَتْ
ابن عنتبة في مصر
وتشير أغلب الروايات إلى اهتمام الولاة والحكام بهذا التقليد الجميل، إذ يُعد عنتبة ابن اسحق ( ت 238هـ) والي مِصْر، أول من صاح بالتسحير في طرقاتها. إذ كان يخرج بنفسه ويسير على قدميه من مدينة العسكر بالفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص وكان ينادي بطريقة للسحور.
و تنوعت طرق وأساليب المسحرين في إيقاظ الصائمين النائمين، إذ كان التسحير في غير الجوامع يتم بوساطة الطبلة المعروفة لدينا الآن، يطوف بها أصحاب الأرباع وغيرهم على البيوت، ويضربون عليها، فيما كان أهل الإسكندرية واليمن وبعض أهل المغرب يسحرون بدق الأبواب على أصحاب البيوت، وينادون عليهم: قوموا كلوا، ويسحر أهل الشام بدق الطار أو الدف كما يعرف اليوم، وضرب الشبابة والعزف على العيدان والطنابير والصفافير وغناء بعض الأشعار والأهازيج الداعية إلى التسحير. وكان المغاربة يضربون بالنفير -البوق- على المنارة، ويكررونه سبع مرات، ثم يضربون بعده بالأبواق سبعاً أو خمساً، فإذا انتهوا حُرِّم على الصائمين تناول طعام السحور.
عند ابن جبير
ويرجح الباحثون بأنّ فكرة فانوس السحور كأحد مظاهرها التقليدية والمنتشرة في مدن الإسلام قد ظهرت أولا في مكة المكرمة وفي المدينة المنورة، ومنها انتشر الفانوس سريعا إلى كل الأقطار الإسلامية. وأشار الرحالة العربي ابن جبير إلى فانوس رمضان في مكة المكرمة، عند زيارته لها في شهر رمضان للعام 578 هجرية، إذ كتب: " بأن التسحير خلال شهر رمضان كان يتم من خلال المئذنة التي في الركن الشرقي للمسجد الحرام وذلك بسبب قربها من دار شريف مكة، فيقوم المؤذن الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعياً ومذكراً على السحور ومعه أخَوانِ صغيران يجاوبانه". وأضاف ابن جبير عن الفانوس: " ونظرا لترامي الدور بعيداً عن الحرم المكي حيث يصعب وصول صوت المؤذن كانت تنصب في أعلى المئذنة خشبة طويلة في رأسها عمود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يوقدان مدة التسحير، فإذا قرب تبين خطا الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالأذان وثوب المؤذنون من كل ناحية بالأذان" وعندما يرى أهل مكة من سطوح ديارهم المرتفعة أنّ القنديلين قد أُطْفِئَا علموا أنّ الوقت قد انقطع".
هورنيكا وسحور مكة
أما الرحالة الغربيون فوصفوا طقوس شهر رمضان حيث وصف الرحالة سنوك هورنيكا السحور في مكة بقوله: " بعد منتصف الليل بحوالي نصف ساعة وطوال أيام السنة يعتلي المؤذنون منارات الحرم السبع ويقومون.. ولمدة ساعتين بالتذكير". والتسحير الذي تكون أجزاء منه بالشعر وأخرى بالنثر المسجوع ثم ينهون ذلك بالآذان الأول للصلاة.. وبعد نصف ساعة من هذا الآذان يلقون بنبرات رنانة بالإنذار الأخير.. حتى لا تفاجئ خيوط الفجر الأولى للصائمين.. وهنا تتردد في أسماعهم صيغ كثيرة منها قولهم:
أيها النُوّام قوموا للفلاحhellip;
بعدها يسير المُسحرون في الشوارع وهم يقرعون طبولهم أمام كل منزل كبير حاثين ساكنيه بالصيغة التقليدية على الاستيقاظ من النوم: ويأتون في يوم العيد إلى أصحاب هذه المنازل كل على ظهر جحش ويتسلمون هدايا نقدية من بعضهم وعينية كبعض الحبوب من بعضهم الآخر. ويعطيهم الكثيرون هدية الإفطار -زكاة الفطر أو الفطرة- وهي كمية محدودة من وجبة مجهزة من دقيق القمح، وأضاف: إثر ذلك يمهد الترحيم لمدة عشر دقائق للأذان ويؤدي هذا الترحيم طوال أيام السنة وهو مثل التذكير، والتنبيه -الأذان الأول- علامة دقيقة والترحيم التضرع إلى رحمة الله:
" الصلاة يا عباد الله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد وله الملك يُحيي ويميت وهو حي لا يموت أبدا إليه المصير وهو على كل شيء قدير أفلحَ من يقول: لا إله إلا الله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله".
ويمر في الوقت نفسه بعض المتطوعين في شوارع مكة الرئيسة ويقفون عند ركن كل شارع يحثُّون النائمين على الاستيقاظ، منشدين بصوت عالٍ:الصلاة يا عباد الله، ويكتفي بعضهم بذلك بينما يستمر آخرون في إنشاد صيغ أخرى".
الشعراء والفانوس
وقد حظي فانوس السحور بنصيب وافر من اهتمام الأدباء والشعراء الذين وجدوا فيه رمزا أثيرا محببا إلى النفس، فقد جلس بعض الأدباء بصحن جامع عمرو بن العاص في أوائل القرن السابع الهجري - الثالث عشر الميلادي- في إحدى ليالي رمضان وقد أوقد فانوس السحور، وقد حكى علي بن ظاهر الأزدي حكاية عن فانوس السحور فقال:
اجتمعنا ليلة في رمضان بالجامع فجلسنا بعد انقضاء الصلاة للحديث وقد أوقد فانوس السحور. فاقترح بعض الجالسين على الأديب أبي الحجاج يوسف بن علي أن يصنع في الفانوس طلبا لتعجيزه ولكنه أنشد قائلاً:
وَنَجْمٍ مِنَ الفَانُوسِ يُشْرِقُ ضَوْؤُهُ
ولكنّهُ دُوْنَ الكَواكِبِ لا يَسْرِي
وَلَمْ أرَ نَجْماً قطُّ قَبْلَ طُلُوعِهِ
إذا غَابَ يَنْهِي الصَائِمِينَ عَنْ الفِطْرِ
فعارضة علي بن ظافر مؤكداً أن هذا تعجبٌ لا يصح لأنه والحاضرين قد رأوا نجوماً لا تدخل تحت الحصر إذا غابت تنهي الصائمين عن الفطر وهي نجوم الصباح، وهنا شحذ أبو الحجاج فكره وأنشد:
هذا لِوَاءُ سَحُورٍ يُستضاءُ بهِ
وعَسْكرُ الشُّهبِ في الظّلماءِ جَرّارُ
والصَّائِمُونَ جَمِيْعاً يَهتدُونَ بهِ
كأنَّهُ عَلَمٌ في رَأسِهِ نَــارُ
ويقول: فلما أصبحنا سمع من كان غائباً من أصحابنا في ليلتنا ما جرى، فصنع الرشيد أبو عبد الله محمد وأنشد:
أحْبِبْ بفانُوسٍ غَدا صَاعِدا
وضَوؤُهُ دَانٍ مِنَ العَيْـنِ
كذلك أنشد القاضي أبو الحسن بن نبيه في فانوس السحور:
حبّذا في الصِّيامِ مِئْذَنَةُ الجا
مِعِ واللّيلُ مُسْبِلٌ أذيَالَهْ
خِلْتُها والفَانُوسُ إذ رَفَعَتْهُ
صَائِدا واقِفاً لِصَيْدِ غَزَالهْ
وقال أبو الفضل جعفر في الفانوس:
كأنّما الفَانُوسُ في
صَارِيَةٍ مااتّقـَـدَا
لِوَاءُ نَصْرٍ مُذهّبٍ
فِي رَأسِ رُمْحٍ عُقِـــدَا
حكاية الفانوس؟
ولذا يعد فانوس رمضان ابتكاراً عرفه المسلمون نتيجة تباعد الأحياء عن المسجد الجامع، فإذا بعد الصوت من المنائر للتسحير، فإنّ الضوء الذي يشع من فانوس السحور ويعلق بأعالي المآذن هو الطريقة المثلى لإيقاظ الصائمين ودعوتهم للسحور ومن ثم إمساكهم عن الطعام، إذ كان الفانوس يضاء منذ دخول صلاة المغرب وقت الإفطار ويبقى حتى قبيل أذان الفجر عند الإمساك، فإذا ما أنزل الفانوس من المآذن فإنّ الصائمين يعرفون أن الصيام ليوم رمضاني جديد قد بدأ. وأجواء الشهر الكريم وعلى الرغم من اقتحام التقنية الحديثة لكل مناحي الحياة عندنا، فقد ظل- الفانوس- بملامحه وتكوينه والاحتفاء الشعبي به محافظاً على خصوصيته وتأثيره الجمالي في عموم الصائمين صغاراً وكباراً.
ومع تطور مناحي الحياة الاجتماعية فقد اقتصر حمل الفانوس والابتهاج بمنظره على الأطفال، وأصبح عندهم اليوم وفي الكثير من أرجاء الوطن العربي بمثابة رمز تراثي، وتقليد رمضاني سنوي، ينتظرونه، ويتباهون بألوانه بين أقرانهم ويجوبون الشوارع والحارات والأزقة مرددين بعض الأغاني والأناشيد الرمضانية التي عرفت لدى آبائهم وأجدادهم مثل الأغنية المشهورة وحوي يا وحوي.
وإنّ تواصل هذه الأنغام والأناشيد الشعبية الرمضانية ذات الترديدات الحوارية الجماعية.. وكأنها المشهد والصورة في إطار طقس له معالمه ومفرداته، يؤكد أن جملة ما تتضمنه الأيام الرمضانية من مفردات يتسيدها المسحراتي وأناشيده وعلاقاته بالناس.. مازالت محفوظة في ذاكرة الأجيال باعتبارها جزءاً من تراثهم وموروثهم الديني والشعبي، وينسحب القول على المسحراتي نفسه، كإنسان وقيمة زمانية ومكانية، لم تتمكن الأيام وحتى زمن العولمة الجديد من محوها من الذاكرة الجمعية لأنّها ترتبط بالأصالة وتستمد ديمومتها من ثقافة إنسانية عريقة لها جذور راسخة في الوجدان العربي.
وتشهد الأسواق التقليدية في عدد من العواصم والمدن العربية حركة دؤوبة تتمثل في التفنن في تجهيز وصناعة نماذج متنوعة من هذا الفانوس، وإذا عدنا إلى الوراء قليلاً عرفنا بأن حكاية فانوس رمضان قد بدأت متزامنة مع دخول الخليفة المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر، ففي اليوم السادس من شهر رمضان من عام 362هـ، استقبله الناس ليلاً على مشارف صحراء مدينة الجيزة وهم يحملون بأيديهم الفوانيس المزدانة لينيروا له الطريق حتى وصل إلى مقر الخلافة الذي أعدّه قائد جيوشه جوهر الصقلي، وما لبث الأطفال والصبية الذين حملوا الفوانيس مفتونين بنورها، حتى سارعوا يغنون الأغاني الدينية في الشوارع والطرقات لِنَيْلِ الهدايا.
ومن العادات التي ارتبطت بالفانوس آنذاك، تمثلت في عدم خروج المرأة ليلاً في شهر رمضان أو غيره من الشهور إلا ويتقدمها صبي يحمل في يده فانوساً مضاءً ليعلم المارة أن إحدى السيدات تسير كي يفسحوا لها الطريق. ووصف المقريزي في خططه سوق الشماعين الذي كان يمتد من جامع الأقمر إلى سوق الدجاجين في القاهرة، وكانت تعلق فيه الفوانيس المضاءة ليلا من مختلف الألوان البهيجة، وكانت مشاهدته في الليل من الأشياء المحببة للصائمين. ووصف المقريزي فانوس رمضان بقوله:" كان البعض منه يزن عشرة أرطال 5،4كغم- تقريبا، وكان البعض الأخر من الضخامة بحيث ينقل على مِحْجل إذا وصل وزنه إلى قنطار. وكانت منطقة تحت الربع منذ القدم وحتى اليوم المركز الرئيسي لصناعة فوانيس رمضان في مدينة القاهرة.
التعليقات
طريف
جواد -حقاً موضوع طريف وشامل عن السَّحُور وفانوس رمضان ، شكراً لك أيّها الكاتب المبدع ومزيداً من هذه المقلات الجميلة، وشكراً لأيلاف وللسامرائي
شكراً
بشار -المقال جميل وفيه جهد بير من الكاتب الفاضل، شكراً لأيلاف بأتحافنا بهكذا موضوعات ونحن في الشهر الفضيل بدلاً من نشر الصور الغير حلوة، شكراً للكاتب
مرحى
ليلى -نرجو من إيلاف ونحن في الشهر الكريم أن تتحفنا بمقالات عن تراث رمضان، مثل هذا المقال البديع، بدلاً من حشونا بأخبار الفنانين والفنانات والراقصين والراقصات، فأما ماينفع الناس فيمكث في الارض، تحياتي للجميع