أحفاد المرابطين في رحلة لعناق جبل طارق والاندلس

مضيق جبل طارق: أن تكون مسلما أو عربيا فذلك كاف لأن يتولد لديك شعور يحدوك إلى تلمس آثار الفاتحين الأولين من عظماء التاريخ الإسلامي، لتسير في "موكب" بن الوليد، وتركب "خيل" بن العاص،و"جمال" بن تاشفين، وتبحر خصوصا في "سفينة" بن زياد.
أما أن تكون من منبت بن زياد نفسه وممن ارتووا من لبن إبل بن تاشفين في الصحراء فذلك أمر يضاعف لديك الشوق إلى أن تتقلب في المدن الأندلسية ولو متجردا من السيف هذه المرة.
قررنا بضغط شديد من الشوق الشديد إلى الإطلاع على كل ماله صلة بالتاريخ الإسلامي والعربي هنا في الأندلس خصوصا، وفي إسبانيا عموما، حيث الحدود بين إسبانيا و جبل طارق الذي يتبع لبريطانيا، لنكون أول وسيلة إعلام موريتانية تقتفي آثار خيل بن تاشفين عشية عبورها المقدس إلى عدة المتوسط الأخرى.
اتفقنا مع زميل يقيم على مقربة جبل طارق أن ننظم رحلة إلى ذاك الجبل وكلنا أمل في أن نوفق في عناقين - ولو مجازيين- مع بن زياد عند اللقاء وعند الوداع إذا قدر لنا الوداع.

رحلة في بلاد "آلفونسو"

قبل أن يتم تعبيد هذا الطريق كانت خيول بن زياد وجمال بن تاشفين قد مرت من هنا لتصنع أروع حضارة عرفها التاريخ الإسلامي.

اتفقنا علي أن نذهب إلي مدينة مالقا، ومنها إلي إحدى ضواحيها تسمي بني المدينة، حيث سنقضي هناك ليلتنا، ومن ثم نأخذ السيارة لرؤية مالقا نهارا، ثم ننطلق بعد ذلك إلي جبل طارق.
انطلقنا إلي المحطة لحجز مكان في الحافلة التي ستنطلق عند الساعة الثامنة مساء، وكلي شوق إلي رؤية الجبل وتلمس حجارته، عسي أن تلامس يداي مكانا وطأه الفاتحون ذات مرة والعزة بالله تملأ قلوبهم. إنه طارق بن زياد الفاتح الإسلامي العظيم وجيشه المغوار. يشهد ذلك الجبل أن رجالا عظاما مروا عليه مرور الأبطال، لكن الأثر ما يزال أمامنا..

لا تكاد الجبال تفارق عينيك أثناء الطريق، و أنت أنظر بين الفينة و الأخرى من خلال زجاج الحافلة، لكن طلبتك ليست من بينها. إنك تتكبد عناء السفر من أجل جبل بعينه، حجارته تشبه حجارتها لكن التاريخ هو مكمن الفرق.

دامت الرحلة من غرناطة إلي مالقا ساعة ونصف وكان الظلام قد بدأ يسدل أستاره علي المدينه عندما وصلنا إلى المحطة في مالقا اتصلنا على الزميل الذي أرسل من يأخذنا بالسيارة إلي حيث تقيم العائلة الموريتانية التي سننام عندها تلك الليلة في حي يدعي بني المدينة، وفي الصباح ذهبنا لإلقاء نظرة خاطفة على مالقا، وانطلقنا إلي الجبل مسرعين.

الطريق إلى الفتح
يقع مضيق جبل طارق ما بين الطرف الجنوبي الغربي لأوروبا، والطرف الشمالي الغربي لإفريقيا. ويصل بين المحيط الأطلسي في الغرب والبحر المتوسط في الشرق. وتطل عليه من الشمال إسبانيا و منطقة جبل طارق ذات الحكم الذاتي، التابعة لبريطانيا، ومن الجنوب المغرب، و سبتة التابعة لإسبانيا، رغم غالبية سكانها المغاربة، وكان يسمي قبل ذلك جبل كالبي.
توجه طارق بن زياد لفتح الأندلس في اثني عشر ألف جندي، وعبر البحر في سفن يوليان، وفتح الجزيرة الخضراء، ودخل بجيشه بعد أن أحرق السفن، وخطب خطبته الشهيرة في معركة حامية الوطيس مع جيش لذريق دامت ثمانية أيام انتهت بهزيمة القوط. وفتحت هذه المعركة أبواب الأندلس على مصراعيها أمام الفتوحات الإسلامية، فوصلت جيوش طارق طليطلة سنة 93هـ دون مقاومة تذكر. ومن ثم تمكن طارق بن زياد من فتح قرطبة ومالقا وغرناطة ومرسية وغيرها.
وصلنا إلي مسجد بدر في المدينة، فوجدنا فيه جماعة من الدعوة و التبليغ، مكثنا معهم بعض الوقت، وكان من الصدفة أن بعض الشباب كانوا يريدون أيضا الذهاب للسباحة و رؤية الجبل، وهم القادمون من إقليم الباسك.

خرجنا سيرا علي الأقدام للتمتع بالجو الساحر الذي يميز تلك البلاد بما حباها الله من جمال الطبيعة وقد صدق الشاعر حين قال :
ثلاثة تجلي عن القلب الحزن *** الماء والخضراء والوجه الحسن

بدا الجبل ذو اللون الأبيض وكأنه رغم شموخه حزينا علي فقد الأحبة، فهو يجد ريحا غير ريحهم، و لا ينتظر مبشرا يأتيه بقميص طارق. فعلا لقد شيبته السنون و الحزن وحولت لونه إلي ما يشبه البياض.

كل ما تبقي من لسان أبي حيان
لا يزال الجبل يحمل اسم رجل ستبقي ذكراه محفورة بعمق في الذاكرة العربية و الإسلامية، لقد مر ذلك القائد العظيم من هنا، ومن منا لا يعرف الأثر!،
حتي الاسم بقي صامدا مستعصيا علي عوادي الزمن،فالإسبان لم يزيدوا على أن يحرفوا اسمه قليلا، فهم ببساطة يدعونه "خيبر التار".
لكن أذن المتلقي العربي سرعان ما تفكك الشفرة و تحدد المقصود منها دون كبير عناء، وما أكثر الكلمات العربية التي توجد في اللغة الإسبانية غير ذلك، وإن طمستها أحيانا لكنة الإفرنج !
لا أعرف لماذا هتف أحد المارة من الأسبان بالتكبير، الله أكبر الله أكبر، وذلك عندما رأي ملابس رفاقي وهم يرتدون الزي العربي وجميعهم ملتحون، فكان أن تبسمنا و كبرنا معه ملوحين له بأيدينا، فالمنطقة علي ما يبدو مع كونها ملتقي البحرين و القارتين، فهي أيضا ملتقي الثقافات والحضارات، فالبعض ممن لقينا يعرف كلمات مهما قلت من العربية، وهنا أتذكر المجنون العاقل الذي التقيناه عند الشاطئ وهو يمارس هواية الصيد، هو الآخر أثار انتباهنا بالسلام، السلام عليكم..السلام عليكم، فاقتربنا منه فطال الحديث معه، وهو يدعي أنه مواطن عالمي ويعرف كثيرا من اللغات، الرجل مقتنع بأن الإسلام دين حق، و أن عيسي رسول الله و ليس إلها، و أن الله واحد لا شريك له، ورغم كونه كاثوليكيا فهو لا يؤمن بنظرية الثالوث، أي الآلهة الثلاثة، وكان متفهما ومتسامحا، ولا يكف في حديثه لنا عن ترديد كلمة خاي المغربية بمعني أخي، لكنه يتبعها بمرادفتها من الإسبانية أرمانو ليطمئن قلبه، ما شجع أحد الإخوة في النهاية على سؤاله عن ما إذا كان يرغب في اعتناق الإسلام، فرد بالنفي و أنه كاثولوكي ولكنه رغم ذلك يحب الإسلام.

كيف السبيل إلى ليلى؟
شعرنا بالأسف كوننا لم نستطع الدخول إلي الجبل، علي قربنا منه، ذلك أنه لا يكفي كوننا مقيمين في إسبانيا للدخول إليه، إذ لا يدخل إلا المقيمون في بريطانيا أو من يحملون الجنسية الإسبانية، ما يؤكد سيطرة الإنجليز عليه.
نظرنا إليه طويلا متأملين مستذكرين دهرا مضي من تاريخنا الغابر، وجلسنا على شاطئ البحر الأبيض وعيوننا منشوبة في الجبل الأبيض و حالنا كما قال الشاعر:
أمر علي الديار ديار ليلي *** أقبل ذا الجدار و ذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي *** و لكن حب من سكن الديارا.