إيلاف+

البوقالة نشيد تراثي يلهب رمضان الجزائريات

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كامل الشيرازي من الجزائر: يشكّل فن " البوقالة " وهو نوع تراثي متوارث شفويا من الموشحات الأندلسية، أحد أهم مكنونات وروافد الرصيد التاريخي والثقافي الشعبي الجزائري، وهو تقليد جزائري قديم نشأ في مدينة شرشال (90 كلم غربي الجزائر) زمن العهد الفينيقي، وتقوم البوقالة على التباري بالحكم والأمثال الشعبية التي تتفنن النساء لا سيما المخضرمات في حفظها و المحافظة على نقلها للجيل الجديد من مواطناتهنّ.

ويشتق اسم " البوقالة " من الكلمة الأمازيغية "بوقال"، وهي عبارة عن إناء يصنع من الفخار للشرب كما يوضع به الحليب، والعلاقة الموجودة بين الإناء "بو قال " والموشح الشعبي، تكمن في استعماله أثناء جلسات القراءة، وتنتشر البوقالة في الوسط النسوي خلال سهرات رمضان الطويلة، حيث تتحلق النساء والصبايا لتعاطي ضروب السمر عبر لعبة البوقالة، وتضع العذراوات في الإناء شيئا من حليّهن ويغطينه بعد ذلك بقطع من القماش، وبعد استهلال "باسم الله بديت، وعلى النبي صليت"، تشرع إحدى الحاضرات في قراءة الموشح الشعبي، وإثر كل مقطع منفرد، تسرّب القارئة يدها إلى داخل "البوقالة" لسحب قطعة من الحلي الموضوعة فيه، ويتم تفسير طالع صاحبة الحلية المسحوبة على ضوء ما جاء في الموشح الشعبي المقروء وتسمى هذه الجلسة الترفيهية الأدبية بـ"البوقالة ".

ويشير عارفون لـ"إيلاف"، إلى أنّ إخراج لعبة البوقالة في قالب جيد، يتطلب من عرّابيها تحضير أجواء حميمية خاصة، تساعد بحسب الحاجة زهية (65 عاما)، على فتح مخيلة الهائمات بالبوقالة وفسح خواطرهن وشرح صدورهن تحسبا للفأل والأمل والرجاء والحلم، وكل جلسة تستجيب لهذه المقتضيات تأتي متميزة ومبهرة وتحوز مآلات جيدة.

وتبعا للزخم الذي يطبع الموروث الأدبي والثقافي الشعبي الجزائري الأصيل، وفرسانه الكبار، أمثال: "أحمد بن قيطون "، "سيدي الأخضر بن خلوف"، "ابن مسايب "، " ابن التريكي"، "ابن سهلة"، "مصطفى بن براهيم "، "سيدي سعيد المنداسي"، والشيخ " قدور بن عاشور الزرهوني "، تتعدد نماذج البوقالة، نذكر منها بوقالة "التويزة" وفحواها:

طفلــــــة امجـيحــة دلالي مـقواني* منها القلب زاد اعزابو
يامـــن ادرا أيـــــدور شـــرع الله * في ناسها ايعود ايصيبو
مشيــــت للقـــــاضـــي نشـــــكي * تما نعيد ليه اونحكــــي
لوصبت راحتي مهلكي محبوبـي * عــــازفــــــي قلبـــــي
ارحايلي عليها غابو * لله بالقاضي قدر

هذه البوقالة يشترك فيها عدد كبير من الجمهور وتؤدى على إيقاع نغمات المزامير ودق الطبول وزغاريد النساء، وتعبر عن تضامن وتكاتف أهل المنطقة، وهذا نتيجة للظروف الطبيعية التي تفرضها العوامل الطبيعية في المنطقة وهي تؤدى عندما تزحف الرمال والمياه على منطقة سكنية.

وتصطبغ طقوس " البوقالة " بديكور فانتازي فريد، إذ ترتدي النسوة أشهر الثياب والحلي التقليدية الشهيرة في الجزائر، كالقفطان، "القاط"، "سروال الشلقة "، "سروال المدور"، " الكاراكو المطرز بالمجبود"، "الأحجار الكريمة"، "المحزمة"، وطقم من الأحذية الخفيفة اللينّة التي لا تصدر أصواتا عند المشي.

واقترنت البوقالة برمضان الجزائر منذ القدم، حيث ترك الجزائريون القدماء ما يزيد عن مائتي مثل شعبي يجمع بين عمق المعنى وسلاسة المبنى، وعن طريق مجموع البوقالات وما تنطوي عليه من شعر ملحون، يمكن للمهتم بتاريخ الجزائر أن يتعرف ويقف إلى المراحل التي مرت بها الجزائر وواقعها الاجتماعي.

وظلّ الأجداد والآباء يتوارثون "البوقالة"، ويحيون لأجلها ليالي رمضان الطويلة، لما تمثله من أهمية في الحفاظ على ماهية الأمة وزخمها ومرتكزاتها، ففي " البوقالة " نعثر على عيون اللغة العربية وجواهر التراث الأمازيغي، وتمكّن البوقالة الغائص فيها، من إدراك أسرار الحياة الجزائرية وما يتصل باللباس، الطبخ، الصناعات التقليدية، الشعر والغناء الكلمات، الزوايا، وغيرها.

ويرى الباحث الاجتماعي " محمد بوكراس" أنّ البوقالة لم تعد تمارس بالشكل ذاته لكون المناخ الاجتماعي الحالي أصبح لا يشجّع هذا الفن، حيث غابت تلك السهرات الرمضانية الضخمة التي كانت تستوعب النسوة في أفنية المنازل وسطوحها، وتنحصر رقعة " البوقالة " حاليا على نطاق ضيق، حيث نادرا ما تشهدها المجالس النسائية في رمضان، عدا ما بقيت تشهده بعض الحومات (الحارات)، أو ما تقترحه القنوات الإذاعية المحلية في محاولة لحفظ هذا الموروث الشعبي وحمايته من الاندثار، بعدما صار هذا الفن " منكمشا " ومحصورا في وسط نسوي عرّاها من طابعها القائم على أبعاد الشعريات وتفسير الأحلام والتمنيات.

رغم كل شيء، يصرّ عشاق "البوقالة" على مصارعة الزمن، ويشكل رمضان رغما عن كل شيء، متنفسا، بهذا الصدد، يرى الباحث الجزائري "محمد أرزقي فرّاد"، بحساسية عدم ترك تراث "البوقالة" يتلاشى، طالما أنّ هذا الفن يحمل ذاكرة وكينونة وحياة المجتمع بأسره، ويحظى بالإجماع بمكانة عالية بين الجزائريين الذين يعتبرونه تراثا لا يستغنى عنه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف