حين يتوقف الزمن في مدرجات "كرة القدم"
ميشيل كوكا.. "التمثال الحي" الذي أعاد إحياء باتريس لومومبا في ملاعب المغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
إيلاف من الرباط: في خضم الأهازيج الإفريقية الصاخبة التي تملأ مدرجات الملاعب المغربية المحتضنة لكأس أمم إفريقيا "المغرب 2025"، يبرز مشهد استثنائي يكسر كل طقوس التشجيع التقليدي، ويحوّل لحظة رياضية عابرة إلى فعل رمزي كثيف الدلالة.
في المدرجات، وتحديدا خلال مباريات منتخب جمهورية الكونغو الديمقراطية، يقف رجل بلباس أنيق، ثابت كأنه خارج عن الزمن، رافعا ذراعه اليمنى إلى الأعلى طوال تسعين دقيقة، دون حركة أو انفعال.
ذلك الرجل ليس مجرد مشجع استهوته عدسات الكاميرات، بل هو ميشيل كوكا مبولادينغا، الذي اختار أن يحوّل جسده إلى "بيان سياسي" صامت، وإلى تمثال حيّ يستحضر روح الزعيم الكونغولي الراحل باتريس لومومبا، أحد أبرز رموز التحرر في إفريقيا.
خلال تشجيع لمباراة منتخب الكونغو بوتسوانا أمس بالرباط
في المدرجات، يبدو كوكا كصخرة منحوتة بعناية، أو كشاهد تاريخي أُسقط فجأة في قلب الحاضر. حضوره لا يقوم على الصراخ ولا على الرقص، بل على السكون، ذلك السكون الذي يحوّل المدرجات من فضاء للفرجة إلى محراب لاستدعاء الذاكرة الوطنية الإفريقية.
اختار كوكا تكثيف ظهوره في ملاعب "كان المغرب 2025" عن قناعة راسخة بأن المغرب يشكل بوابة إفريقيا، وجسرا حضاريا بين القارات، وأن ملاعبه الحديثة، وما تحظى به من تغطية إعلامية دولية، تمثل المنصة المثالية لإيصال رسالته الرمزية إلى العالم.
ميشيل كوكا… سيرة حارس أمين للذاكرة
يبلغ ميشيل كوكا مبولادينغا من العمر 53 سنة، ولد في كينشاسا، المدينة التي تشرب فيها مبكرا قصص التحرر والنضال الإفريقي، بكل ما تحمله من مرارة وإلهام. في بلاده، لا يُنظر إليه كوجه تلفزيوني عابر، بل كمناضل وعضو مؤسس وفاعل في "مجموعة التنشيط الرسمية لمنتخب الفهود".
رافق كوكا المنتخب الوطني الكونغولي لعقود، متنقلا خلفه حيثما حل وارتحل. غير أن نقطة التحول في مسيرته كمشجع جاءت حين أدرك أن الهتاف ودق الطبول لم يعودا كافيين لنقل عمق المأساة الكونغولية ولا حجم الملحمة التاريخية لبلاده. من هنا، وُلد لقبه الشهير "لومومبا فيا" (Lumumba Via)، في إشارة إلى أن روح الزعيم الراحل تسكنه وتعبر من خلاله.
كوكا ليس مقلدا عابرا، بل باحث دؤوب في التاريخ، يدرس تفاصيل شخصية باتريس لومومبا بدقة لافتة، ليقدّم للجمهور نسخة حية من "أب الاستقلال"، تتجاوز التنكر إلى التقمص الواعي للرمز والمعنى.
جمالية التفاصيل
يحرص ميشيل كوكا على بناء صورته البصرية بعناية شديدة، لتكون "مرآة زمنية" تعود إلى سنة 1960. ويختار بدلته الرسمية الكلاسيكية بعناية، بألوان رصينة تعكس هيبة الدولة الكونغولية الوليدة آنذاك. ويضع نظارات طبية بإطار أسود سميك، العلامة المميزة للومومبا، رمز المثقف الإفريقي الثائر، مع تسريحة شعر تبرز الفرق الجانبي المعروف عنه.
لكن الذراع المرفوعة تبقى العنصر الأبرز في هذا المشهد، في محاكاة مباشرة لتمثال لومومبا وسط كينشاسا. إنها حركة تختزل معاني الحرية، والسيادة، والاعتزاز بالذات، وترفض الانكسار أو الانحناء.
السكون كأقصى درجات الاحتجاج
اختار كوكا السكون إيمانا منه بأنه أبلغ أشكال الاحتجاج، ووقوفه بلا حراك رسالة صمود تقول إن الكونغو، رغم الحروب والأزمات والتدخلات الخارجية، تظل واقفة كتمثال لا ينكسر.
هذا "الجمود" هو أيضا وفاء للمبدأ، إذ يعتبر أنه "كما لم ينحني لومومبا أمام الاستعمار البلجيكي حتى في لحظاته الأخيرة، يرفض كوكا أن يجلس أو يستريح ما دام لاعبو الفهود يقاتلون فوق المستطيل الأخضر". إنه تماهي عميق بين الجهد الرمزي للمشجع والجهد البدني للاعب كرة قدم في الميدان، في صورة نادرة من الانسجام بين المدرجات وما يجري في المستطيل الأخضر للعبة.
من ظاهرة محلية إلى أيقونة قارية
تحت أضواء الملاعب المغربية العصرية، وفي ظل تغطية إعلامية دولية مكثفة، تحوّل ميشيل كوكا من ظاهرة محلية إلى أيقونة إفريقية. وجد في الرباط وطنجة والدار البيضاء جمهورا متذوقا للرمزية، يحترم التاريخ ويحتفي بالمعنى، ما شجعه على المضي قدما في أدائه التعبيري.
وفي كل حواراته على هامش البطولة، يحرص كوكا على الإشادة بالمغرب، واصفا إياه بـ "أرض الكرامة" (Terre de Dignité)، ومنوها بـ "دفء الاستقبال" وجودة التنظيم، معتبرا أن نجاح المغرب في تنظيم "كان 2025" هو انتصار لكل إفريقيا، ويتقاطع تماما مع رؤية لومومبا لقارة قوية، منظمة ومستقلة.
مدرجات تتحول إلى فصول دراسية
لم تمر ظاهرة "الرجل التمثال" دون أن تشعل منصات التواصل الاجتماعي، حيث انتشرت آلاف الصور والمقاطع التي توثق ثباته وسط جمهور يقفز فرحا أو حزنا. غير أن "كوكا" لا يرى في ذلك شهرة شخصية، بل وسيلة لإيصال رسالة أعمق إلى الأجيال الإفريقية الشابة.
بهذا المعنى، يتحول من مشجع إلى "مربي" و"معلم"، يستخدم المدرجات كفصول دراسية مفتوحة، ساعيا إلى غرس ثقافة الاعتزاز بالهوية الإفريقية في جيل "التيك توك"، ومؤكدا أن المستقبل لا يبنى دون ذاكرة صلبة.
تكريم رمزي مغربي لذاكرة لومومبا
تحتفي العاصمة الرباط بباتريس لومومبا من خلال شارع يحمل اسمه في حي حسان، أحد أبرز الشرايين الحضرية والتاريخية، في تجسيد واضح لعمق العلاقات المغربية-الإفريقية، وتقدير المملكة لرموز التحرر بالقارة. اختيار هذا الاسم لم يكن اعتباطيا، بل يعكس التزاما تاريخيا مغربيا بدعم حركات التحرر الإفريقية وتخليد رموزها.
بين الرياضة والسياسة تقف "الكاف" في مفترق الطرق
أفادت معطيات متداولة بأن الاتحاد الإفريقي لكرة القدم "الكاف" وجّه تعليمات إلى فرق الإخراج التلفزيوني بعدم الإكثار من إظهار صور جماهير ترفع رموزا أو شعارات ذات طابع سياسي، حرصا على الحفاظ على الطابع الرياضي الخالص للمنافسة، وتفادي أي تأويلات سياسية قد تخرج عن روح البطولة.
ويهم هذا التوجيه أساسا التغطية الإعلامية، دون المساس بحق الجماهير في الحضور والتشجيع، في إطار القواعد المعمول بها إفريقيا ودوليا للفصل بين الرياضة والسياسة داخل الملاعب.
صورة لا تُنسى
في "كان المغرب 2025"، قد يفوز منتخب ويخسر آخر، وقد ترفع الكؤوس وتوزع الميداليات، لكن صورة ميشيل كوكا، الرجل التمثال، ستبقى واحدة من أعمق الصور الإنسانية في تاريخ البطولة. صورة لرجل قرر أن يكون صوتا للذاكرة، مستخدما لغة الصمت، في حضرة كرة القدم، وتحت سماء المغرب المضيافة.