فن الترجمة

استفتاء: ترجمة الشعر بين الاستحالة والأثر

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

استفتاء:
كيف يترجم الشاعرُ شاعرا

يكاد أن يُجمع جل المترجمين العرب على مقولة صلاح الصفدي، كما وردت في كشكول العاملي: "للترجمة في النقل طريقتان إحداهما أن يُنظر إلى كل كلمة مفردة من الكلمات الأجنبية وما تدل عليه من المعنى فيأتي الناقل بلفظة مفردة من الكلمات العربية ترادفها في الدلالة على ذلك المعنى فيثبتها وينتقل إلى الأخرى حتى يأتي على جملة ما يريد تعريبه... الطريق الثاني: أن يأتي الجملة فيحصل معناها في ذهنه ويُعبّر عنها من اللغة الأخرى بجملة تطابقها سواء ساوت الألفاظ أم خالفتها".
بصفتك شاعرا ومترجما في آن:
أولا: أتعتقد أن هناك طريقة ثالثة، ما هي، وأيٌّة هي الأفضل في نظرك، لإنجاز ترجمة ناجحة؟
ثانيا: ألا تعتقد أن ترجمتك لشاعر ما قد تؤثر على قولك الشعري diction، ثم ألا تخشى أن يؤثر الإكثارُ من الترجمة في أسلوبك الخاص؟
ثالثا: يقينا أنك تترجم شعرَ الآخر لإفادة القارئ العربي... لكن هل ثمة دافعٌ (شخصي – شعري) غير هذه الخدمة الثقافية، يدفعك إلى ترجمة هذا الشاعر وليس ذاك؟
رابعا: كيف تأتي إلى الشعر المراد ترجمته - هل تستفيد مما كتب من دراسات عن هذا الشعر وصاحبه..؟
خامسا وأخيرا: كتب عبد القادر الجنابي في العدد الثاني (2001) من مجلته "ارابويتيكا" الفرنسية ما يلي "الشعر العربي المعاصر مدين إلى ما تراءى من نماذج عبر ترجمات مجلة "شعر" أكثر مما هو مدين للإنتاج الأدبي العربي الحديث نفسه"... ما رأيك في هذا التصريح؟

(1): سهيل نجم شاعر ومترجم يقيم في بغداد:

أولاً قبل صلاح الصفدي عرف العرب الطريقة الحرفية في الترجمة على يد المترجم الأول إبن ناعمة الحمصي الذي كان يترجم كلمة بكلمة وعرفت الترجمة بالطريقة الثانية تقريباً على أهم المترجمين الأوائل وهما البطريق وابنه يحيي (أو يوحنا) بن البطريق اللذان اهتما بنقل أهم كتب الطب والفلسفة اليونانية إلى العربية في العصر المزدهر للحضارة الإسلامية. وإذا كان المنطق الأدبي واللغوي يقتضي حتماً الانحياز إلى الطريق الثاني فإن ترجمة الأدب تحتاج إلى طريق ثالث يهتم بنقل ما هو أبعد من الجملة ألا وهو النص بكل تعبيريته وقدرته على الإيحاء الذي ينقل رؤية المؤلف، وهذا يعني أن المترجم في هذه الحالة يقف أمام تحد لغة للغة. كثيراً ما يرتبك النص الأدبي المترجم لدى بعض المترجمين لإغفالهم التماسك بين كيانات النص ولا أقول الجمل. كما يغفل المترجم غير الأديب إن ثمة إيقاع داخلي يحتاج إلى إحساس ترجمي خاص كي يتمكن من نقل ذلك الإيقاع بدراية وجمالية مخلصة للنص مثلما هي في الوقت ذاته تخلق نصاً جديداً ولهذا أؤيد المقولة التي ترى أن المترجم مؤلف ثان للنص الأدبي، يدقق في رسالته ولغته، هذه اللغة التي لابد أن تأخذ دورها الفعال والبالغ الإنفعالية، كون النص المترجم عملاً إبداعياً، لذلك تكون اللغة هنا غاية أيضاً وليست وسيلة. أما ترجمة الشعر تحديداً، فهذه تحتاج، حسب تقديري، إلى طريقة رابعة ربما. وهذه الطريقة فنية بحتة وقد لا تحتاج إلى قواعد بقدر ما تحتاج إلى عاطفة شعرية تتواصل مع النص الشعري، ولذلك لا يمكن تخيل أن يقوم بترجمة الشعر إلا من امتلك القدرة على التعبير الشعري بنموذجه المتميز، ذلك لأن ترجمة الشعر تكاد تكون مستحيلة كما قال جاكوبسن والممكن هو إعادة كتابة النص والمهم هو الأثر الذي يتركه النص في المتلقي ولا يشعر هذا المتلقي باغتراب إزاء النص. ومن هنا يبرز أمامنا ما يمكن أن نسميه الصوت الإبداعي للمترجم ويتضح من خلاله دور الذات الفعال في العمل المترجم.ثانياً، الترجمة في اعتقادي قراءة دقيقة لنص أجنبي مهما كان، وهي فرصة كبيرة لتحليل هذا النص وإدراك أسراره الفنية قد لا تحصل في ظروف أخرى. وقد تقود هذه القراءة إلى تأثر ما مثلما هو التأثر من قراءة متمحصة لنص عربي. إن هذه القراءات من المفترض أن تؤدي دوراً ثقافياً إيجابياً من الأحرى أن لا يخشى فيها الشاعر الأصيل من التأثير السلبي على قوله الشعري أو أسلوبه بل على العكس من ذلك أعتقد أن ذلك يؤدي إلى صقل تجاربه الشعرية إذا كان هذا الشاعر، الذي اقترف العمل الترجمي، واعياً لتلك القراءات من خلال اطلاعه القريب جداً من التجارب الشعرية الأخرى وكيفية توظيفها في تجاربه الكتابية. أعتقد أن الشاعر-المترجم هو الأوفر حظاً من غيره من الشعراء إذ واتته الفرصة كي يعيد خلق وكتابة تجارب غيره ممن كتبها بلغة أخرى وسنحت له الفرصة الكاملة دون غيره من أن يكون قريباً من نبض وسر جمال الأعمال التي يقوم بترجمتها. لقد عملت وقتاً طويلاً في ترجمة شعر شعراء يكتبون بالإنكليزية مثلاً وتلمست حرفيات كتابتهم لقصائدهم بكل تحولاتها ودقائقها لكن ذلك لم يؤثر على توجهي في الشعر أو أسلوب كتابتي للقصيدة على الرغم من إعجابي بإنجازات هؤلاء .

ثالثاً، أعد الترجمة مسألة ممارسة عمل إبداعي في حالات الغياب الموقت لهاجس الكتابة الشعرية لدي وقد يطول هذا الغياب أو يقصر حسب الظروف. لذلك فهي تخضع كذلك لمزاجي الخاص. ويصفو هذا المزاج إزاء الجمال الشعري الذي أصادفه عند قراءة مختارات لمجموعة من الشعراء أو عمل شعري كامل لشاعر ما سيجرني ربما بعدئذ إلى أعماله الأخرى. ولهذا فمن وجهة نظري أفترض أن هنالك علاقة سرية أو سحرية تنشأ بيني وبين النص الشعري الذي أنوي ترجمته. وقد لا تنشأ هذه العلاقة مع قصائد أخرى للشاعر نفسه، ذلك لأن ثمة نصوص لا تمنح نفسها للترجمة مهما كان وإن تمت ترجمتها فذلك يعني أن ذلك قد تم قسراً مما يترتب عليه ولادة مشوهة. لقد وجدت نفسي منجذباً إلى ترجمة تيد هيوز ولم أنجذب إلى ترجمة فيليب لاركن مثلاً، ذلك لأن عالم هيوز قد تكشف لي أنه أكثر قرباً من كياني النفسي، لقد رأيتني في ترجمتي له كأنني أكتب قصائدي الذاتية رغم أن عالم هيوز واضح ومتميز في حرصه الفريد على اكتشاف الحياة البرية شعرياً. أن من المحتم أن تكون هناك حساسية خاصة تجذب الشاعر إلى أن يترجم لشاعر آخر دون غيره، تتجسد هذه الحساسية في الأسلوب الخاص الذي يتعامل فيه الشاعر الأجنبي مع الموضوعات والكلمات والصور والاستعارات والمجازات وكل ما يؤسس لرؤيته الشعرية.

رابعاً، بالإضافة إلى الدافع الشخصي – الشعري (الغريزي) الذي يضم من بين طياته الدافع الجمالي فضلاً عن دافع الرؤية الشعرية ومن بعد ذلك الرسالة التي يبثها الشاعر عبر نصوصه، تكون قراءة الدراسات النقدية حول هذا الشاعر ضرورة ملحة للاقتراب أكثر من عالمه الشعري ونظريته الشعرية. إن الدراسات النقدية ، وخصوصاً التطبيقية منها، تكشف زوايا في الإبداع الشعري لا غنى للمترجم عنها وهي تضع بين يديه مفاتيح للنص قد يحصل من دونها سوء فهم أو سوء قراءة تغفل عن جوانب حيوية في النص المراد ترجمته. إن المترجم كما يقال يقف في بين الضفتين ومطلوب منه العمل على عبور النص الشعري من ضفته الأصلية إلى الضفة "الهدف" من دون أن يفقد من أوصافه وتأثيره وسحره ما يجعله مبتوراً أو مشوها. ولن يتم للمترجم ذلك إلا بالتسلح بحدسه الشعري أولاً وخبرته في اللغة الأجنبية وأساليبها التعبيرية وكذلك وعيه النقدي واطلاعه على دراسات معمقة تدرس الإنجاز الشعري لشاعره.
لا أختلف كثيرا مع عبدالقادر الجنابي فيما ذهب إليه وأرى أن ترجمات مجلة "شعر" قد لعبت دوراً مهما وحاسماً، ولا أرى في ذلك عيباً أو نقصاً في أصالة الشعر العربي المعاصر، بل ربما يكون الأمر على العكس من ذلك، فهو دلالة رحابة شعرية وفكرية ثبت من خلالها أن الشعرية العربية ليست منغلقة على نفسها مثلما هو حال الجوانب الأخرى من الحياة العربية التي ارتبكت في موقفها إزاء الحداثة. تلك الجوانب ربما تكون هي الأشد ضرورة من الناحية الحياتية والحضارية، فأدى بنا الحال أن نكتب شعراً عربياً حديثاً ونعيش حياة متخلفة. على أن الشعر العربي من الناحية الأخرى لم يعدم محاولات غير قليلة في التمرد على صنمية العروض الخليلي والنظام الهندسي الكلاسيكي للشكل الشعري، مما يعني أن الشاعر العربي المعاصر قد سبقته إرهاصات عربية الطابع كثيرة جعلته مستعداً للانقلاب الثوري الجديد وقد حسم أمره تماماً بعد اطلاعه على نماذج الترجمات الشعرية في "مجلة شعر".

يتبع

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف