فن الترجمة

آثار جورج حُنين في مجلد ضخم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

وأخيرا صدرت، عن دار دينويل الفرنسية، معظم ما كتبه الشاعر السوريالي المصري جورج حنين، من مقالات، قصص، قصائد وتقارير صحافية في مجلد واحد من الحجم الكبير (1062 صفحة)، مع مدخل بقلم الشاعر الفرنسي ايف بونفوا الذي بذل جهدا كبيرا لكي يظهر هذا الكتاب، ومقدمة لبرتو فرحي.. وقد قام باعداد الكتاب وتحقيق المواد كل من الصديقين مارك كوبر ودانيال لانسون باشراف بيير لافال.

الكتاب هذا حدث ثقافي كبير يعاد فيهالاعتبار إلى كاتب بقي حتى أخر لحظة محافظا على كرامته وموقفه ككاتب لا يتنازل أمام مغريات الظروف واضطهاداتها. كان المؤسس الأول لحركة "الفن والحرية" اواخر ثلاثينات القرن الماضي. لعب دورا في الحركة السوريالية وتحالفات هذه الحركة مع تروتسكي...لكن باستقلالية فريدة جعلتهدائما فيصلب الرؤيا النقدية.ترك مصر بعد ان اكتشف خلال السنوات الأولى خطورة النظام الناصري، الى ايطاليا ثم الى فرنسا حيث استقر حتى وفاته بمرض السرطان في الحنجرةتموز 1973.

في هذا الكتاب نجد كل المقالات الأصلية كاملة التي اقتبست منها زوجته بولا حنين مقاطع قصيرة واصدرتها في كتاب عام 1980 تحت عنوان "الروح الطارق"، كيوميات. بينما الحقيقة هي أن جورج حنين لم تكن له يوميات ولم يفكر يوما أن يترك دفتر يوميات، إذ كان يعمل صحافيا في جون افريك والاكسبريس، وكل ما كان يشعر به من افكار وتأملات يضمها في مقالاته الصحافية التي كانت تتناول الأحداث، والكتب والفعاليات الثقافية والفنية. وفي مقالاته، فهو الرائي الأكبر، واللاقط العميق لما كان يجري من احداث في العالم. فلم يكن العمل الصحافي مهنة نزييف وتضليل، بل ضوءا كان يسلطه على كل الجوانب المعتمة مما يتناوله موضوعا... سواء كان الموضوع كتابا شعريا، او روائيا، او حدثا ثقافيا، أو قضية اجتماعية كـ"جرائم الشرف" كما في مقاله "شرف العراق الباهظ" المنشور في "جون افريك" (آذار 1964) ناقدا بشراسة تشريع القوميين العرب والبعثيين لهذه الجرائم..
كما ضم الكتاب ما كتبه جورج حنين من تعريفات قاموسية لما يقارب 40 مصطلح في القاموس السياسي الذي ظهر عام 1969 في فرنسا، تعريفات لم تفقد بريقها الذكي وعمقها الثقافي: "العسكرية"، "الطوباوية"، "الساتيلايت"، "الديكتاتور"، الدعاية"، "العنصرية"، "التهديم"، "العالم الثالث"..الخ
أما كشاعر وقاص، فجورج حنين لم يصدر إبان حياته سوى ديوان واحد صغير، بل حتى لم يصدر مجموعة قصصية سوى واحدة لم تتجاوز الخمسين صفحة. كان يكره اصدار دواوين او كتب لأعماله، إذ لم يشعر لا بالمنافسة ولا الحاجة لجمع ابداعاته المتناثرة في الدوريات والصحف... تاركا اياها في قنينة الزمن لتجد ذات يوم من يخرجها للقارئ مستقبلا.. وقد قدم دانيال لانسون الـ 130 قصيدة التي ضمها المجلد، ومارك كوبر قدم 49 قصة بدراسة مقتضبة لها.
عندما ترى أن كاتبا عاش في صلب معمعان الحداثة الأوروبية العليا كالسوريالية، غير مبال لهذه القصائد والقصص ومقالاته التي لايزال تحليل بعضها آني ومعاصر، رغم كل تغييرات الاشكاليات الثقافية والاجتماعية... تشعر بقرف من هذا الكم من الشعراء الذين يتنافسون فيما بينهم باصدار اكبر عدد من الدواوين دون التفكير لحظة واحدة إذا كانت هناك تاريخية وأهمية لبضع قصائد كتبوها.
المحزن هو أن هناك ترجمة جد سيئة لأشعار جورج حنين بالعربية قام بها الصديق بشير السباعي ونشرها دار الجمل.
لم أشك يوما في نيّة بشير السباعي الصادقة إزاء جورج حنين.. بل عندي ثقة كاملة أنه قام بترجمة جورج حنين لغاية واحدة: هو إيصال تراث جورج حنين إلى أكبر عدد من القراء... لكن حسن النيّة لا تكفي في الترجمة إن لم يرافقها مبدأ كل ترجمة حقيقية: الشك والقلق وشغل البال... خصوصا ترجمة كتابات جورج حنين المتميزة بأسلوب أرستقراطي يحميها من كل سقوط في اللغة العمومية.

فأغلاط الترجمة موجودة في كل قصيدة، في مقطع، وفي كل عنوان. فمثلا العنوان التالي: Lrsquo;octroi de la vie ترجمه بـ"امتياز الحياة"، بينما الصحيح هو "عطية الحياة" أو "مِنحة الحياة". وفي هذه القصيدة، ترجم السباعي هذا البيت: drsquo;eacute;crire en retenant les mots بالتالي: " الكتابة مع صون الكلمات"! بينما الصحيح هو "الكتابة بحفظ (عن ظهر قلب) الكلمات". وترجم العنوان التالي: L'HOMME POSTHUME بـ"الإنسان المولود بعد موت الأب"!!!!! بينما المراد هو "إنسانُ ما بعدَ وفاتِه"، وفي هذا العنوان تتجلى عبقرية جورج حنين في الاستخدام الشعري للكلمات. فـ posthume لا تستعمل إلا على ما ينشر من مؤلفات كاتب بعد موته.. ويريد في هذه القصيدة الإنسان أي البشرية يعد ان تكون قد تلاشت وماتت.

بل حتى ما يبدو صحيحا مفخخ بالاغلاط. هذان البيتين مثلا:
Qui serait deacute;jagrave; au bout du monde
Si nous nrsquo;eacute;tions lagrave; pour lui parler de reflux
ترجمها على النحو التالي:
الذي سيكون بالفصل في اقصى العالم
ام لم نكن هناك لكي ندعوه الى الاياب

بينما الترجمة القريبة هي:
الذي لكان الآن في طارف العالم
لو لم نكن هنا نكلمه عن الجزر والانحسار

أو هذه العبارة في احدى الكتابات النثرية في آخر الكتاب: Meacute;lncolie ardente ترجمها بـ"الكتابة المبهمة الجسورة"!!!!! بينما المراد جد واضح: "منخوليا متقدة".

وايضا من كتاباته النثرية، هذه الفقرة: rendre lrsquo;home de demain difficile envers le langage ترجمها بـ"أن يجعل إنسان الغد عصيا على اللغة"!!!! بينما المعنى واضح هو "أن يجعل إنسان الغد متشددا تجاه اللغة" أي صارما معها لا يكتب ترّهات.

لست هنا بصدد نقد ترجمة الصديق بشير السباعي لمختارات من اعمال جورج حنين الشعرية والنثرية... فهذا يحتاج الى مقال تفصيلي وطويل.. لكن لاعطاء فكرة واضحة عما اقوله، هنا قصيدة لجورج حنين ترجمها السباعي، مع النص الأصلي الفرنسي للقصيدة، وترجمة لي قمت بها قبل ست سنوات ونشرت في العدد 24 من مجلة معهد العالم في باريس "قنطرة"/

L'HOMME POSTHUME

Nous eacute;tions neacute;s pour la froideur des armes
neacute;s pour contrarier le cours de la naissance
et pour tracer a l'inteacute;rieur des ecirc;tres
les signes du mauvais vouloir.
" Laissez errer le sang " nous disait notre Maicirc;tre
et nous ne sucirc;mes jamais
de l'errance ou de l'erreur
laquelle fut notre voie.
Sans cesse pourchasseacute;e
l'eacute;ternelle grimace de vivre
est loin de renoncer a nous
dans nos mouvements seacute;pareacute;s de la terre
un souffle secret introduit la discorde
comme on disperserait des oiseaux.
" C'est la volonteacute; des Absents " s'eacute;crie l'un de nous
et sous nos eacute;paulettes de roc
nous devinons que nous sommes nus
nous resterons, cette fois encore, d'improbables guerriers


ترجمة بشار السباعي:

الإنسان المولود بعد موت الأب

ولدنا لبرودة الأذرع
ولدنا لكي نغالب مسار الميلاد
ولكي نتعقب في باطن الكائنات
علامات سوء النية،
قال لنا مولانا "كفروا عن خطاياكم"
ولم نعرف قط
الزيغ أو الزلل الذي تنكبناه.
بعيدٌ عن أن يفارقنا
إرتسام الضجر الخالد من الحياة
الواقع تحت ملاحقة لا تتوقف
نفسٌ خفي يبث الفرقة
في حركاتنا المنفصلة عن الأرض
فيفرقنا كما نفرق العصافير
يهتف أحدنا "إنها إرادة الغائبين"
ونحن كتفياتنا الصخرية
نبقى، هذه المرة أيضا، محاربين غير مرجحين.

ترجمة عبدالقادر الجنابي

إنسانُ ما بعد وفاته

كنّا مولودينَ من أجل برودة الأسلحة
مولودين كي نعاكس مجرى الولادة
وكي نخطّ داخل الكائنات
علائمَ الإرداةِ السيّئة
"دعوا النسلَ يتيهُ"، قال لنا حكيمُنا
ولم نعرف أبدا أيّهما كان نهجُنا
الغيّ أم التيهان.

تجهّمُ الحياة الأزليُّ، المطلوبُ باستمرار
هيهاتَ أن يعزُفَ عنّا
ففي تحرُّكاتنا المنفصلة عن الأرض
نَفـَسٌ خفيّ يُحدثُ الخلافَ
كما لو أن سربا من الطير قد شــُتـّتَ
"هذه هي إرادة الغائبين"، يصرخُ واحدٌ منّـا
وتحت كتفياتنا الصخرية
نكتشف أننا عراة
هذه المرة أيضا، سنظلُّ بقليل من الاحتمال محاربين.

اقرأ أيضا:

جورج حنين: نهاية كل شيء تقريبا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف