فن الترجمة

جان دمو مترجما

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

تيد هيوز - مختارات ودراسة
ترجمة: جان دمو

اختيار وتقديم: زعيم نصار

جان دمو خائن الكلمات

1
حياة جان دمو تكاد تكون يومًا واحدًا يمتد من أربعينيات القرن الماضي إلى بداية الألفية الثالثة،و من كركوك إلى بغداد ومنها إلى عمان فالمنفى الاسترالي. حياته يوم واحد مقداره خمسون عاما مما نعد ونحصي، أما هو فلم يفرق بين لحظة وأخرى، كل لحظاته متساوية ومتجانسة، يشرب ليثمل، ويثمل لينام، وينام ليصحو ويصحو ليشرب، هكذا عرفته وعشت معه في طرقات بغداد، وحاناتها ومقاهيها، يقرأ في الحانات والفنادق ويكتب ويترجم فيها، لم يكن لديه أي عمل سوى القراءة والكتابة غير المنجزتين فهو لم يتم قراءة أي كتاب كما قال لي مرة. قبل الانتهاء من الكتاب الذي بين يديه يصرخ ما هذا الضجر ؟، ضجر قاتل، ثم يلوذ بصوته ليؤدي أغنيته المفضلة (أنت و بس إلي حبيبي، لفائزة احمد) بعد أن ينتهي من غنائه تخرج من أعماقه حسرة عميقة مع تفوه دائم وبصوت منخفض..آه... آه... يا......

2

جان لم ينجز نصا ً كاملا ً، فهو دائما يترك نصه بلا نهاية أو بلا عنوان فيرميه أو يعطيه لأصدقائه لينشر دون علمه. حياته: خمر، وشعر، وترجمة،وتفوهات نقدية ذكية، وشتائم ونوم. حياته هي ثلاثون قصيدة في أقصى تقدير، مجموعة (أسمال وقصائد أخرى) * وترجمات منشورة هنا وهناك هي: هذا العمل (تيد هيوز - مختارات شعرية ودراسة) وثلاث قصائد لاليوت، وثلاث قصائد لاوكتافيو باث، وقصيدة (مكانس) لشاعر أمريكي هو جارلز سيميك، و قصة قصيرة لسومرست موم ومذكرات سلفادور دالي الغرائيبية التي نشرت بعد رحيل دالي في مجلة الأقلام،وحوارات قليلة منشورة في الصحافة العراقية والعربية.

3
في قصائده وترجمته كان جان دمو يدون لحظته الطويلة، كتابته هي نوع من المذكرات اليومية التي تستمر بلا نهايات ولا إتمام، فهو لم يترجم من (كتاب - تسعة شعراء معاصرين) * للناقد الإنكليزي (ب. ر. كنك- -p.r.king) إلا جزء من الفصل الذي يعتني بشعرية تيد هيوز.جان عندما يبدأ بعمل ما لم يسطع إنجازه لا لأنه عاجز عن اتمامه، بل يصيبه الضجر والملل من كل شيء حتى انه ينتقل إلى أكثر من ثلاث حانات في اليوم الواحد، ويفارق جلاسه كثيرا ليعود إليهم مرة أخرى، وينتقل أيضا في الحانة الواحدة بين أكثر من ثلاث موائد في الساعة الواحدة، أريد أن أقول: إن جان دمو كان يكتب ليغير مزاج لحظته قسرا بالكتابة فهو يدون يومياته من خلال ما يترجمه أو يكتبه. أن عمل جان هو بحد ذاته كتابة وترجمة لأحداث حياته، يرصدها، ويعيشها، يتأملها،ويسجلها بوصفها ممارسة لزمن إنسانيته في المكان، جان كائن يستبد به القلق من كل جوانبه، القلق من الموت، القلق من الإفلاس، القلق من فقدان المأوى، أو المبيت،القلق من أشباح السلطة، وكان يعاني من وحشة شديدة، يقول جان في قصيدته (الظل):
هاأنذا في سبيلي إلى ممارسة إنسانيتي.
الغرفة مربعة، وكذلك القلب.
مع آخر سجائري يتخذ القلق مكانه الأشد توحشا ً.

ويقول أيضا في قصيدته (آه. لم القوارب هذه):

ماذا يفصلني، مالذي يمكن أن يفصلني عن المستقبل،
سوى النوم والارتخاء ؟
في مستنقع أوسع وأكثف من الذاكرة، تبدو ظلال
الفجر تتأرجح
بين الليل والليل.
يموت حاضري.

كأنه في كل كلمة يقولها يترجم لحظته أو أناه الشعري وقد تجرد عن فرديته ليتحدث بلسان الإنسان وهو يسير على حبل الحياة ومن تحته هاوية العدم. لقد انهارت لحظته الأبدية وتشظت، فهو يعانق عزلته وموته وقلقه ولديه القدرة العميقة على النظر في حقيقته، و في مرآة متاهته، لم يستطع أن يخترع حضوره إلا على بياض الورق، في روحه يمتزج الماضي والمستقبل ويندثرا في نقص لم يكتمل ابد ا ً. جان الشاعر كان يخون كلماته، يخونها ليدلي الملاك على المائدة مائدة الخمر والرغبة والمرح والرقص والغناء، ولا أتذكر من هو الذي قال: الشاعر هو من يدلي العاصفة على القيثارة، الشاعر هو من يغيـّر العزف على أوتار اللغة. جان دمو كان دائما يشكو من غباء اللغة وإنها مدنسة ومُـلاكة حتى الاجترار، وينوه عن خيانتها،عن خيانة الكلمة لمضمونها، خيانة الدال للمدلول، من هنا حاول أن يخلق له لغة أصلية صافية بلورية،وهذا ما يتضح في ترجمته لتيد هيوز وقصائده في أسمال، حيث تجد لغة أنيقة غير مترهلة، لغة جميلة لا لغو فيها ولا زوائد. وربما مقارنة بترجمات أخرى لنفس النصوص والمقدمة تكون ترجمة جان دمو أجمل وأفضل الترجمات، لقد ترجم هذه المقدمة أيضا المترجم ألشاعر سهيل نجم، وترجم بعض قصائدها المترجم مسلم جابر يوسف حيث تم نشرهما في مجلتي الأقلام والأديب المعاصر في العقد التسعيني بعد ترجمة جان دمو بخمس سنوات. (زعيم نصار)

أولا: الدراسة
قوة العناصر في شعر تيد هيوز

بقلم جان دمو

منذ طبع كتابه الشعري الأول (الصقر في المطر - 1957)،حظي تيد هيوز بكثير من المعجبين.واليوم غالبا ما يجريا الحديث عنه على انه شاعرنا الأفضل، معتبرا مع فيلب لاركن كممثلين لذلك الشعر الذي كتب في العقدين السابقين والذي يعتبر مرجحا ً أكثر على البقاء.
أصبح فليب لاركن معروفا على نطاق واسع كشاعر عندما كان شعراء ((الحركة)) في ذروة شهرتهم، وعندما كان الذوق يميل إلى الشعر الشكلي شكلانية متطرفة، والمحايد والساخر بشكل هادئ. قاوم تيد هيوز هذا النوع من الشعر بقوة وتابع اسلوبه هو المستقل اشد الاستقلال. وطبيعة هذه الاستقلالية يمكن البدء بتثمينها على نحو موجز بمقابلة عمله بعمل فيلب لاركن.
انهما يختلفان أوضح ما يكون الاختلاف في اختيارهما لموضوع بحثهما أو كتابهما، في معالجتهما للإشكال والأساليب، في نبراتهما المميزة وفي موقفهما من دور الشاعر. إن مواضيع لاركن تتضمن حوادث،أمزجة ولحظات الحياة اليومية وبخاصة في الآمال والمخاوف والإحاطات التي يمر بها الإنسان المعاصر الساكن الضاحية ((وثيماته)) تركز على الزمن، الذاكرة ومشهد مستقبل لا يؤدي إلا إلى الشيخوخة والموت، انه مهتم بالطرق المختلفة التي يلتقط بها إنسان ما ((عادات سيئة من الترقب))، وبالظل الذي يسقط بين الرغبة والحقيقة، وغالبا ما يعبر عن صور القوة المحيية لطقوس اجتماعية تقليدية معينة. أما هيوز،من جهة أخرى،فيكتب تكرارا عن حياة الحيوان، الطبيعية والقوى العناصرية للحياة اللابشرية والاضطراب الباطني للإنسان المعاصر المنظور إليه مقطوعا عن المصادر الغريزية لقوته. ((وثيماته)) تعبرعن الطاقات الجبارة والعنيفة في الأغلب للمادة وكذلك العلاقة ما بين هذه الطاقات والطبيعة المنقسمة على ذاتها للإنسان المعاصر.ولاركن يكتب عادة بأشكال تقليدية، ويؤثر نسبيا اللهجة العامية ويعمل كثيرا بنماذج إيقاعية ووزنية اصطلاحية. أما هيوز فقد كتب قصائد تقاسم هذه الصفات المميزة لكنه بصفة عامة أفاد من أشكال اكثر تحررا، معتمدا بصورة اقل على النظم الصارمة للإيقاعات الشعرية والتقنية وهو يميل اكثر نحو الغلو في البيان والصورة. والشاعران يختلفان اشد ما يكون الاختلاف في النبرة المميزة لصوت كل منهما. فلاركن عنده الشكية والسخرية المفرغة لمراقب إنساني، عقلاني وبالأحرى محافظ للشؤون البشرية، الذي يرفض الوقوع تحت أية أوهام فيما يخص حياة المجتمع حوله وعلاقته مع ذلك المجتمع. أما هيوز فعلى العكس انه يجازف بان يظهر وهو يتحدث بنبرة متغطرسة تقريبا في الأوقات التي يكون فيها يكافح للتعبير عن الطاقة الانفعالية والحضور المادي اللذين تخلقهما موضوعاته، ويرفض نبرة المراقب المحايد حيادا باردا، مؤثرا بدلا من ذلك التعبير عن حياة هذه المواضيع (أكانت بشرية أم لا بشرية). وهو يفيد دائما من المجاز والرموز ليخلق حسا بالطاقة الحية التي، حتى في اكثر حالاته عدمية،تنتج نبرة من الإلحاحية والأمر ستكون غريبة عن صوت لاركن الأكثر حذرا، والأقل إثارة. ويعكس هذا فارقا ابعد بين هذين الاثنين في الطريقة التي ينظران بها إلى دور الشاعر.
ينظر لاركن إلى الشعر على انه محاولة للإبقاء على ما رآه، فكر به وشعر. إن ربة شعره هي الذاكرة، وخياله باق بصرامة تحت السيطرة بواسطة عقلانيته وسخريته المفرغة.
أما هيوز فيعمل ضمن تراث الشاعر كرؤيوي ملهم أو شامان (شاعر وظيفته استخدام اللغة لاستحضار أرواح الآلهة التي تتحكم بوجودنا) وخياله يمتد ويتخلل موضوعاته ليعيد خلق حضورها من الداخل وحاسته العقلانية مبقي عليها تابعة للقوى العقلانية العليا للصورة، الرمز والأسطورة.

تؤكد هذه الفرو قات المنظورين المتضادين لعمل الشاعرين، وتفسر أيضا تلك الخلافات الكثيرة حول قيمة إنجازات كل منهما. في هذا الفصل ستبذل محاولة لشرح تطور أفكار هيوز قياسا إلى مجا ميعه الشعرية الرئيسية.
لحد الان نشر هيوز ثمان مجاميع رئيسية خلال العقدين الماضيين. وكتب كذلك شعرا ونثرا للأطفال،مسرحيات للإذاعة والمسرح، أقاصيص قصيرة، وبعض المقالات النقدية الرائعة جدا.ونشر في الشعر (قيد الصنع 1967) أيضا واحدا من اكثر البيانات إثارة ونفعا عن الشعر للقراء الشباب. وهذا مجال خصب من العمل ويمثل تنوعا كبيرا في الإشكال والمقاصد. وهناك ضمن المجاميع الشعرية الرئيسية الثمانية تنوع كبير في المواضيع والمعالجات. وهذه حقيقة يغفل عنها أحيانا القراء المتأثرون بإفراط بنعت (شاعر الحيوان) أو (شاعر الطبيعة) الذي كان ملصقا بهيوز في مطلع الستينات. إن اهتماما مفرطا جدا بهذا الجانب المبكر من شعره قد قاد إلى سوء فهم أو حتى كره لعمله المتأخر.
(الصقر في المطر) و (مهرجان الخصب) انهما ولاريب القصائد عن الحيوانات والطبيعة التي تترك اعظم الأثر فخلقه. للصقور، اليغاور، الخنازير وطيور السمان إنما هو تمارين حية ونشيطة في اخذ القارئ إلى جوهر مشاعر وافعال الحيوانات، ولابد إن تصنيف هذه القصائد كأروع القصائد التي من جنسها من (طيور،وحوش وأزهار)ل د.ه.لورنس (الذي يشاطره هيوز بعض الانشغالات). لكن النتاج الإجمالي لهيوز يشمل مواضيع ابعد بكثير من الحيوانات، وأمزجة وأفكار ابعد بكثير مما هو متضمن في هذه الأوصاف الحادة والفاعلة على نحو نشيط.وهو قادر كذلك على الكتابة برقة، أو بتناسق هادئ، وغنائي، أو بحس من العبث والفكاهة على آية حال فان الانطباع الغالب الذي تتركه قصائده على القارئ هو حس بالطاقات القوية العفيفة للعالم اللابشري والعالم الباطني لمشاعر الإنسان ذاته.
في الواقع ليس اهتمامه الخاص بالحيوانات ما يبدو انه جر هيوز للكتابة عنها بهذا التكرار في شعره. بل لكونه يجد فيها البيان الأكثر صفاء عن قوة -حياة هي لا بشرية - إلى بعد حد أو بالأحرى، لا عقلانية في مصدر قوتها. يلاحظ هيوز في الإنسان المعاصر نفورا من الاعتراف بأصول طاقته العميقة، الغريزية في وجوده ذاته، طاقة منسوبة ل (دورة القوة العناصرية)للكون والتي تكون الحيوانات اقرب إليها من الإنسان.فاهتمام هيوز، لذلك، كان دائما أوسع من نعته التبسيطي ب (شاعر الحيوان) صحيح انه بدأ في كتابيه الأولين باستكشاف الطاقات البدائية للعالم ومنذ ذلك فقد تقدم ليعبرعن حس بالعقم والعدمية في استجابة الإنسان المعاصر للحياة، استجابة يربط بينها وبين هيمنة تفكير الإنسان العقلاني، الموضوعي على حساب حياة المشاعر والخيال.في الغراب قام بخلق قصة أسطورية ليعبر عن هذا العالم العدمي وليظهر انه تحت مشاعر اليأس الشامل كان ومازال ثمة صوت فاعل من الطاقة العنيدة والبقاء- صوت الغراب. في كوديت مضى قدما ليستكشف في صيغ رمزية الطبيعة المنقسمة على ذاتها لروح الإنسان المعاصر وبحاجة للتوفيق بين الحياة الداخلية والخارجية إذ كان يعتمد ألا يصبح حسه بالألم والشر مدمرا للذات.
إن مناقشة الاستكشاف التالي لشعر هيوز هي انه من الممكن تصور رسالة متنامية في عمله.باختصار، تلك الرسالة هي الاستكشاف والتعبير عما سماه (الحرب بين الحيوية والموت) إنها حرب يراها دائرة بأوضح صورة في العالم الطبيعي حيث لا وعي بالذات يتدخل للتأثير في استجابة الحيوان لشروطه.أما الإنسان كنتيجة لقوة وعيه (تفكيره وخياله)، فقادر على الارتداد عن الحالة التي تجابهه وليس الاستجابة غريزيا وحسب مقدرته على فعل هذا هي قوة وضعف معا.فكأني بهيوز يوحي بأنها قد أصبحت في الإنسان المعاصر ضعفا خطيرا لانه قد سمح بنمو فجوة ضخمة بين وعيه واستجابته الغريزية لشرطه.انه قد تعهد برعاية قواه العقلانية، الادراكية بصورة حصرية جدا مهملا عالمه الباطني من المشاعر، الخيال والغريزة،وعليه فقد شطر.طبيعته ذاته، قاطعا نفسه عن القوى الطبيعية للكون في (الأسطورة والتربية)،وهي مقالة أساسية لفهم مواقفه، انه يكتب عن الطريقة التي ضيق بها الإنسان المعاصر رؤيته حتى غدا لا ينظر إلا إلى العالم الخارجي. انه ينظر إلى هذا كنتيجة لصعود المثال العلمي للتفكير الموضوعي ولكنه يرى إن اهتمامنا إلى ابعد حد بمثل هذا التفكير منتج لحماقة صارمة وانتحارية. "انه مثال علمي، وانه لمثال قوي، ولقد خلق العالم المعاصر. وبدونه،سيتداعى العالم: إن تعاسة لا نهائية ستتولد. إن الكارثة هي انه يتجه باستقامة نحو تعاسة لا نهائية لانه قد اقنع الكائنات البشرية بمطابقة أنفسهم مع ما هو ليس اكثر من صيغة ضيقة من الإدراك الحسي...
إن الموضوعية العلمية...لها أخلاقياتها،التي لا علاقة لها بالأخلاقية الإنسانية..وهذه هي الأخلاقية السائدة في عصرنا.إنها أخلاقية مجردة كل التجرد من أي وعي بمتطلبات العلم الباطني.إنها تحتقر العنصر البشري.إن هذا العالم الباطني لأجسامنا،لطاقتنا المماتة من الغريزة والشعور،تتم أضاعته سريعا بالنسبة لنا.إن الوسيلة التقليدية لاحتضان وأنسنة هذه الطاقات كانت الدين.بدون الدين أصبحت هذه الطاقات لاإنسانية وعالمنا الباطني " مكانا للشياطين " مقطوعون عن تلك القوى " كل ما نسجله هو الغياب الشاسع، الفراغ، العقم،الخلو من المعنى،الوحدة."وإذ رسم هذا الوضع، مضى هيوز بحثا عن وسيلة للتسوية مع تلك القوى الباطنية.الوسيلة التقليدية لمثل هذه التسوية كانت الخيال، الذي كان يسمى " خلاقا" و " إلهيا " لانه كان يملك القوى لمساعدتنا على التفاوض بين العالمين الباطني والخارجي كانت اللغة التقليدية لهذا التفاوض الدين، الأسطورة والرمز. في شعره المتأخر، يبدو هيوز مستغلا على نحو متزايد للأسطورة والرمز لاستكشاف الطبيعة المنقسمة على ذاتها للإنسان وللتعبير عن نوع ما، نوع من الحل. وليس هذا لأجل الإيحاء بأنه يتحرك باتجاه نوع معين من الموقف الديني (بالمعنى المسيحي) يظهر انه يرتد بنظره إلى ما بعد الأصول المسيحية نحو الأساطير التي كانت لها بدايات في الدورات الفصلية والطبيعية والمعبرة عن قبول جبري بالمعاناة بينما تحتفل بالقوى والطاقة الخالصتين لصيرورة الحياة ذاتها.إن الأداة لإعادة خلق فهم لهذه الأصول هي الخيال والفنان هو حارسها. إن الفنان وعمله هما بهذا المفتاح لحل هذه الصراعات:
(إن شخصية الأعمال العظيمة هي بالضبط هذا: انه فيها يتحد الحضور الكلي للعالم الباطني مع الحضور الكلي للعالم الخارجي ويذعن ويقبل به. وفيها نرى إن قوانين هذين العالمين ليست متعارضة مطلقا، إنها نظام واحد شامل شمولا...إنها، ببساطة، قوانين الطبيعة البشرية."
السؤال هو ليس إلى أي مدى يمكن أن تكون أفكار هيوز هذه نصيحة - في الأقل ليس في هذه المرحلة - بل، بالأحرى كيف يعكسها شعره وأية أنواع من النجاح الفني يحققها الشاعر في متابعته لرسالته.لئن كانت هذه هي الرسالة التي أناط هيوز بها نفسه، فهي رسالة صعبة بالنسبة لفنان يعيش في حضارة تؤثر عدم التفكير بلغة الأسطورة _ والتي تظهر، حقا، حتى متفاخرة بحمى نقضها للأسطورية. إن جسامة الرسالة والإيمان بالفنان كحارس أخير للحقائق الأساسية يمكن أن يفضيا إلى شعر ذي هدف ويمكن، في الواقع، إن يفضي إلى تنافر الصوت والنبرة الذي يشير إليه بعض النقاد في الشعر. لقد تحدث هيوز نفسه عن الكتابة من " ثلاث حالات للعقل مستقلة ومميزة، والتي هي مختلفة تماما،" وحالات العقل هذه قد تعكس إمكانات تعبير مختلفة وكذلك تجارب مختلفة. إن صوت العدمية في العديد من قصائد الغراب، صوت البحث المرتبك في ودوو wodwo وصوت الإنسان المنقسم على ذاته في (كوديت) هي فقط بعض من أصوات شاعر يسعى للتعبير عن حسّـنا المعاصر بذواتنا بوصفها متنوعة ومتناقضة *.

ثانيا: المختارات

حيوان الحب المدلل

ترى أحيوانا كان أطيرا كان ؟
كانت تضربه كان يكلمه بلطف.
كانت تجعل من صوتها غابته السعيدة.
كان يقدِّمه ببسمات ممزوجة بقطع السكر.
ما لبث أن صار يلحس قبلاتهما.

كانت تمنحه أوتار صوتها فيزدردها
كان يمنحه دم وجهه فغدا متلهفاً
كانت تمنحه عرق سوس فمها فبدأ ينمو بقوة
كان يفتح يانسون مستقبله
فعضّ وتجرّع ,أصبح وحشياً ,خطف
بؤرة عينيه
كانت تمنحه ثبات يدها
كان يمنحه قوة عموده الفقري كان يلتهم كل شيء

بدأ يلتمس أي شيء ممكن أن يهباه له
وهباه تقاويمهما كان يحكم إغلاق دفتر يومياتهما بالرتاج
وهباه نومهما فازدرد أحلامهما
حتى ساعة ينامان
كان يأكل جلدهما والعضل الذي تحته
قدما له نذوراً
من خلال كل كلمة كانا يتلفظان بها
كان يعثر على أفاع ٍ تحت الأرضية فيلتهمها
كان يعثر على عنكبوت مرعب
في راحات أيديهما فيأكله
كانا يعطيانه بسمات مزدوجة وصمتاً فارغاً
كان يمضغ ثقوباً في سجاجيدهما
كانا يعطيانه منطقا ً
كان يأكل لون شعرهما
كانا يعطيانه حجـّة تخطر ببالهما
كانا يعطيانه صيحات وصرخات يقصدانها

كان يأكل وجوه أطفالهما
كانا يمنحانه البومات صورهما كانا يمنحانه اسطواناتهما الفونغرافية
كان يأكل لون الشمس
كانا يمنحانه ألف رسالة كانا يمنحانه نقودا ً
كان يأكل مستقبلهما بكامله كان ينتظرهما
محد ّقـا ً وجائعا ً
كانا يمنحانه صرخات كان قد تطرف
كان ينهش مخيهما
كان يأكل السقف
كان يأكل حجرا ًمنعزلا ً كان يأكل الريح صارخا ًالمجاعة
رحل مهتاجا ً

بكيا صاحا به أن يعود أدراجه فبامكانه أن يحصل على كل شيء
عرّى أعصابهما مضغ بدون نكهة
عضّ على جسديهما الخدرين فلم يقاوما
عضّ في مخيهما الأجوفين كاد ألاّ يعرفا
رحل وهو يجأر
عبـْر خرائب من ضوءِ قمرٍ وآنية فخارية ٍ
انسحب في تمهل لم يقويا على التحرك
رحل بعيدا ً جدا ً لم يقويا على التكلم.

ملاحظات لمسرحية قصيرة

أولا - تدنو الشمس، نامية كل دقيقة.
بعد ذلك - تتمزق الثياب.
بلا وداع
تتبخـّر الوجوه والعيون.
تتبخـّر الأمخاخ.
الأيدي الأذرع السيقان الأقدام الرأس والعنق
الصدر والبطن تتلاشى
مع نفاية الكرة الأرضية كلها.

ويملأ اللهب الفضاء بأكمله.
التدمير شامل
باستثناء مادتين غريبتين باقيتين في اللهب
باقيتين على قيد الحياة، تتحركان
في اللهيب بصورة عمياء.
التحولات - في الداخل، في الوهج النووي.
الأهوال - مُشعرة ورابلة، لامعة وفجة
انهما يستشمان باتجاه أحدهما الآخر في الفراغ
انهما ممسكان ببعضهما البعض بأحكام.
يبدو كأنهما يأكلان بعضهما.
لكنهما لا يأكلان بعضهما بعضا.
انهما لا يعرفان ماذا يفعلان خلاف ذلك.
لقد أخذا يرقصان رقصة غريبة.
وهذا هو زواج هذين الكائنين البسيطين - يحتفلان هنا، في ظلمة الشمس، بلا
ضيف أو اله ٍ.

تلفزيون مطفأ

انه يسمع أشجارا لدنة وأوراقا أخيرة تضرب الزجاج بعنف - محدقا في اللهيب،
عبر مدرأة العمر
كسمكة متأخرة، يكسو وجهها الفطر،
مبقية فمها ضد التيار.

نادم على مالا يعاني منه احد بعد
تائق إلى ما لن يدفع بنسين كي يعاود رؤيته
مفعم بالأمل لما لن يفتقده عندما يخذل

الذي يضطجع ليلة ونهارا وليلة ونهارا
ذهبي الشعر، بينما صديقه إلى جانبه
يعنى بثقب صغير في جبينه
ناضج حد السواد.

تـذكـار

عثرت على عظم الفك هذا عند حافة البحر:
هناك، السراطين، وكلاب البحر، المسحوقة بفعل الأمواج المتكسرة على
الصخور أو المدفوعة لترفرف لنصف ساعة وتستحيل إلى قشرة خارجية تواصل البداية.الأعماق باردة:
ففي تلك الظلمة لا تدوم الصداقات الحميمة:
لاشيء يلامس بل، متشبث بالآخر، يلتهم والفكوك، قبل ان تشبع حاجتها أو يضعف عزمها الممطوط، تغرق في فكوك ؛ تنتهي مقضومة ظاهرة للعيان. تأكل لفكوك وتنتهي فيأتي عظم الفك إلى المنطقة الساحلية:
وهذه هي مأثرة البحر ؛ مع الأصداف، الفقرات، المخالب، الدروع القرنية، الجماجم.
الزمن في البحر يأكل ذيله، يزدهر، ويطرح هذه الأشياء العسرة الهضم، نزاعات العزائم التي سقطت بعيدا عن السطح. لا احد يثرى في البحر. ان عظم الفك المتقوس هذا لم يضحك بل امسك بتشبث وإحكام، امسك بتشبث وإحكام وهو الآن قبر أجوف.

مزمـور النمـر

النمر يقتل الجائع. الرشاشات
تتكلم، تتكلم، تتكلم عبر اكروبوليساتها
النمر يقتل بخبرة، بيد مخدرة.
الرشاشات
تواصل الجدال في سماء
حيث لا آذان للأرقام،حيث لا دم هناك
النمر
يقتل باقتصاد، بعد فحص دقيق للخارطة.
الرشاشات تهز رؤوسها،
إنها تواصل الثرثرة حول الإحصائيات
النمر يقل بالصاعقة:
اله خلاصه الشخصي.
الرشاشات تعلق المطلق، وفقا لمورس،
في شفيرة من الضجات الداوية والثقوب التي تجعل الرجال يقطبون.
النمر يقتل بالألوان الجميلة في وجهه،
كزهرة مرسومة على راية
الرشاشات لا تعبأ.
إنها تضحك. إنها غير عابئة. إنها تتكلم والسنتها تتقد زرقاء كالروح، محاطة بهالات من الرماد، خارقة الوهم.
النمر يقتل ويلحس ضحيته في كل الأجزاء بعناية.
الرشاشات
تخلف قشرة من الدم متدلية فوق الأظافر
في بستان من الحديد الخردة.
النمر
يقتل
بقوة خمسة نمور , يقتل مبتهجا"
الرشاشات
تسمح لنفسها بصهيل. إنها تزيل الغلطة
بجدل وراح - مجي
وأثبتت النتيجة الكف عن التكلم.
النمر
يقتل كما انهيار جرف , متحد العصب مع الأرض , الهمالايا تحت الجفن , الغانج
تحت الفرو -
لا يقتل.
لا يقتل. النمر يبارك بناب.
النمر لا يقتل بل يفتح طريقا ً
ليس بطريق الحياة ولا طريق الموت:
النمر داخل النمر:
نمر الأرض
أيها النمر !
يا أخ مصـّاص الدماء !
أيها الوحش قيد التطور!

تلك اللحظة

عندما رُفع خطم المسدس الذي كان
ينز بخارا ً أزرق
كسيجارة ترفع من المرمدة
وهجع مهشما" الوجه الوحيد المتبقي في العالم
بين أيد كانت تسترخي , بسبب فوات الأوان
وانغلقت الأشجار إلى الأبد
وانغلقت الشوارع إلى الأبد
وهجعت الجثة فوق حصباء
العالم المهجور
بين أشياء مهجورة
معروضة للانهاية إلى الأبد
كان على الغراب ان يبدأ بالبحث عن شيْ ما يأكله.

الحيـاة تحاول أن تكون حـياة

الموت أيضا ً يحاول أن يكون حياة.
الموت في البذرة كالبحار القديم
بحكايته الرهيبة.
الموت يموء في البطانيات - أهو هرة ؟
أنه يلعب بالدمى لكن دون أن تستثير انتباهه.
انه يفترس في ضوء النافذة ويعجز عن التميز. انه يرتدي ثياب الأطفال وهو صبور.
انه يتعلم التكلم , مراقباً أفواه الآخرين.
انه يضحك ويصرخ ويصرخ إلى نفسه بخدر.
انه يحدق في وجوه الناس
ويرى جلدهم كما قمر غريب , ويحدق في العشب
في وضعه كالأمس تماما"
ويحدق في أصابعه ويسمع: أنظروا إلى ذلك الولد !,,
الموت خائن
تعذبه سلاسل أزهار الربيع وأجراس يوم الأحد
أنه يجر هنا وهناك مثل دمية مهشمة
من قبل فتيات منهمكات في لعبة الأمهات والجنازات.
الموت لا يريد سوى ان يكون حياة. أنه لا يستطيع ان يفلح
يبكي انه يبكي ليكون حياة
كما لأجل أم لا يستطيع تذكرها
موت وموت وموت , انه يهمس
بأعين مقفلة , محاولا" أن يشعر بالحياة
كالصرخة في البهجة
كالوهج في البرق
الذي يفرغ شجرة البلوط المنعزلة.
وذلك هو الموت
في قرون الأيل الايرلندي. انه الموت
في الإبرة العظيمة للزوجة - الكهف. ومع هذا فهو رغم ذلك بموت -
أوفي ناب القرش الذي هو أثر باق
من عويله
على الأرض الرأسية للحياة.

الجــلاد

يملأ
الشمس، القمر، النجوم، انه يملأها
بشوكرانه -
فتظلم
أنه يملأ المساء والصباح. فيظلمان
أنه يملأ البحر
أنه يدخل تحت السماء العمياء المليئة
عبر وجه الماء المعتم المليْ
أنه يملأ الأنهار أنه يملأ الطرق , كالمجسات
أنه يملأ الجداول والممرات , كالأوردة
الحنفية تقطر ظلاما" ظلاما"
يلتصق برؤوس أصابع قدميك
أنه يملأ المرآة أنه يملأ الكوب
أنه يملأ أفكار حتى حافات عينيك
انك تكاد لاترى انه يملأ عيون أصدقائك
والآن وأنت ترفع يدك لامسا ًعينيك
اللتين ملأهما تماما ً
تلمسه
أنت لا تملك فكرة عما حدث
لما يعد ْ بعد - لك
وكأنما العالم
أمام عينيك قد انفتح أبدا ً

المشعوذ

تلك النجوم هي الأسلاف المكسوة باللحم
لهذه التلال الداكنة، المنحنية كالعمال المنهكين،
ويدمي.
أن موت بعوضة لهو فم نجمة: فجلدها،
كجلد ماري أو سيميل، رقيق
كما جلد النار:
وقعت فوقها نجمة، التهمتها شمس.
شهيتي جيدة
الآن لآكل الجوزاء والكلب الكبير معا"
مع ملئ فم من الثرى، مادتي الخام.
من نوع الديدان , نوع الجذور، راحل إلى حيثما هو مربح.
نجمة تخز اليرقانة،
الشجرة عالقة في الكواكب.
وجمجمتي تختبيء وسط الهوائيات وسعف النخيل.

أغنــية الـبوم

غني
كيف كان البجع يبيض إلى الأبد
كيف تخلص الذئب من قلبه الواشي
واسقطت النجوم ادعاءاتها
وتخلى الهواء عن مظاهره الخارجية
خدر الماء بتعمد
تنازل الصخر عن أمله الأخير
والبرد خمد في ما وراء المعرفة
غنى
كيف أن يكون كل شيْ ليس لديه المزيد ليخسره
ثم جلس بلا حراك خائفا"
باصرا" أثرا" لمخلب نجمة
سامعا" خفقة جناح صخرة
وغناءه الشخصي

مستنقع ودزوورث *

حيث تعدو الأمهات
مسرعات بأرواحهن
حيث تنهمر عواءات السماء
فوق الثرى
باحثة عن أجساد
العصافير، الحيوانات، الناس
تنبثق سعادة سرية ووحشية
كأغنية قبَّرة خارج السمع تماما
متوارية في الريح
بهجة صامتة شريرة
مثل حجر هشمته نجمة
يعرف أن لا شيء يمكن أن يحدث له
في قبره - المهد.

امتحان عند باب الرحم *

مَن ْ يملك هذه الأرجل العجفاء
الصغيرة ؟ الموت.
من يملك هذا الوجه الكث الذي يبدو
مسفوعا ؟ الموت.
من يملك هاتين الرئتين اللتين لما تزالان تعملان ؟ الموت.
من يملك هذا المعطف العملي من العضلات ؟ الموت.
من يملك هذه الشجاعة التي لا
توصف ؟ الموت.
من يملك هذا الذكاء المشكوك فيه ؟ الموت.
هذا اللسان الذي لا يجارى؟ الموت.
هذا الأرق العرضي ؟ الموت.
معطى ً مسروق، أو محتجز في انتظار المحاكمة؟
محتجز
من يملك الأرض الممطرة، الصخرية بأسرها ؟ الموت.
من يملك الفضاء برمته ؟ الموت.
من الأقوى من الأمل ؟ الموت.
من الأقوى من الإرادة ؟ الموت.
أقوى من الحب ؟ الموت.
أقوى من الحياة ؟ الموت.
لكن من الأقوى من الموت ؟
أنا بكل تأكيد
مرّ َ، أيها الغراب.

ببلوغرافيا

ولد تيد هيوز في 1930 في بريطانيا
الصقر في المطر 1957
مهرجان الخصب 1960
ودوو1967
قصائد مختارة 1972
غراب 1972
أغاني الموسم 1972
كوديت 1977
طيور الكهف 1978
بقايا ايلمت 1979
أم. أل. روزنتال، الشعراء المتحدثون1967
ام. دودزورث (تحرير) بقاء الشعر1970
سي.بدمنت،ثمانية شعراء معاصرين1974
جي. ثيرلي، الحصاد الساخر 1974
أي.بولد،طوم كن و تيد هيوز 1976
دي.وولدر،تيد هيوز ؛سيلفيا بلات. 1976
كي.سأغار، فن تيد هيوز 1975،ونسخة موسعة في 1978

هوامش
bull;سوف يصدر قريبا كتاب جان دمو (أسمال وقصائد أخرى) بإعداد جديد بعد إضافة قصائد أخرى وحذف بعض القصائد مع قراءة لقصائده وحياته، بعنوان (جان دمو صعلوك الحداثة).
bull;نشرت هذه الترجمة في مجلة الأديب المعاصر البغدادية - العدد 29 - عام 1985
bull;هذا العمل المنشور هو الفصل الثاني من كتابي (جان دمو مترجما) أما الفصل الثالث هو مذكرات سلفادور دالي، والفصل الرابع هي القصائد المترجمة لاليوت واوكتافيو باث وغيره من المنشور لجان في الصحف والمجلات العراقية،أما الفصل الأول فهو مقدمة طويلة عن ترجمات جان دمو وعن حياته.
bull;نشرت قصيدتا مستنقع ودزورث وامتحان عند باب - الرحم في مجلة (أسفار) عام 1985

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف