ثقافات

أبجديات ترجمة الشعر

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

ويليس بارنستون

ترجمة: خالدة حامد

أتناول هذه المبادئ الأساسية عن ترجمة الشعر بسرور وتحفظ معاً لأني أكره العقائد أو الإرشادات. لِمَ لا نبدي تفضيلاتنا، ولنستعمل الكلمة المفضلة للاختيار عند خورخي لويس بورخيس، وحكمنا وتمييزنا وذوقنا؟ فالأبجديات بحد ذاتها تتيح لي الفرار من تهمة التعارض في المنهج من حيث كونها تشير إلى أن المنهج لا يكون مقبولاً ما لم يكن حاملاً لاسم صريح.
أما السبب الثاني وراء شعوري بالخجل فهو ترددي في هذا الكتاب بالتشديد على ممارسة الترجمة؛ نظراً لوجود الكثير من الأسباب الوجيهة كانت المناهج التطبيقية الخاصة بكيفية نقل عمل مات من لغة معينة إلى الإنكليزية موضوع مجلدات حديثة تناولت الترجمة. ولابد من توثيق الممارسة في مجال تاريخ ونظرية الترجمة توثيقاً خاصاً لكني جعلت من مثالها ثانوياً. ومع وجود هذه التحفظات نقدم هنا بعض الملاحظات العامة فيما يخص ممارسة فن الترجمة.
الترجمة فن الكشف [التجلي]؛ إنها تجعل من المجهول معلوماً ويمتلك الفنان المترجم حماس وحرفة التعرف على عمل الفنان الآخر وإعادة خلقه وكشفه. لكن حتى حينما يكون العمل شهيراً في بيته، فإنه يأتي إلى بلدة أجنبية عنه، مثل يتيم بلا ماضٍ، ليصل إلى قرائه. وسواء أكان بأسمال بالية أو مستعملة أو برداء المجد المسرحي الأسود فإنه الدهشة، الفجر، الغريب المميز. اليتيم هو دون كيخوتة في شيكاغو.
الترجمة فن بين لسانين والطفل الذي يولد من هذا الفن يعيش بين بيته والبلدة الأجنبية عنه. عابراً الحدود مرةً بلباس جديد، يتذكر اليتيم مدينته القديمة أو يخفيها، ويبدو حديث الولادة ومختلفاً.
تكتسب الترجمة بانتقالها بين لسانين اختلافاً ملحوظاً ولأن مفردات ونحو كل لغة يختلف عن أية لغة أخرى، ينطوي انتقال القصيدة من لغة إلى أخرى اختلافاً [تغييراً] في الأصوات والعَروض. ولا يمكن تصور الكمال في الترجمة بسبب عدم وجود مكافئ كامل للكلمات بين اللغتين، أو حتى ضمن اللغة نفسها، (مثلما يبرهن على ذلك بورخس في قصته عن المجنون "مينارد").
ومع ذلك يمكن لنا تصور ترجمة الشعر. الترجمة مقيمة في اللاكمال؛ إنها تستعمل المكافِئات وتتحاشى النسخ الآلية، وهذا هو حلم الحَرفيين الذين يؤمنون بالحقيقة. إنها تمنحنا الآخر، أو بتعبير آخر: إنها تمنحنا نفسها.
الترجمة ليست نسخة حَرفية، مطلقاً؛ إنها مختلفة. في الترجمة تكون المحاكاة التامة مستحيلة لكن بالإمكان تقديم نسخة مزيفة عن الأصل أو مناقضة له وهي تفتقد للإجرام لأنها تبقى على مقربة وتطلق على نفسها تسمية هي ماهيتها حقاً: ترجمة. والترجمة في أعين الكثيرين مشابهة نسخة مقلدة لتمثال من سايكلادك (1)Cycladic) في المتحف: جميل لكنه بلا حقيقية بل يبقى محض مرآة ساطعة لمجدٍ سحيق. وهي في أسوء شكل لها، في عريها شبه المكسو، تخبئ انفضاحها بوصمة الحرف T القرمزي لكلمة ترجمة Translation (2).
الترجمة خطيئة؛ ففطور حواء الشجاع قاد إلى معرفة ممنوعة بالمجهول. الاستعار في الفن مرغوب كما أن القليل من الخداع المشين والحرية هما من العلامات الصحية.
قد تكون النسخة الحقيقية (التقليد أو إعادة الخلق اللامعترف به) ـ التي تكون مخالفة في صوتها وأدواتها ـ لا مرئية؛ تسير دون أن يلحظها أحد، كي تتمكن من تمرير
ما لديها إلى اللغة الأم الجديدة. وبذا ستدخل، بوصفها غريباً لا ملحوظاً، في الأدب المحلي الذي يمتصها ويُحييها.
الترجمة مقيمة في المنفى؛ لا يمكنها العودة، وأولئك الذين يستذكرون وطنها السابق يرغبون بتجريدها من حقوقها. ولابد من قراءة القصيدة بوصفها قصيدة مكتوبة بلغة الأدب المتبنى وإن اختلفت بسبب، أصلها، عن أية قصيدة مكتوبة بلغتها الجديدة. وقد كتب فراي لويس دو لين يقول: لا ينبغي أن تبدو القصائد المترجمة كما لو أنها أجنبية، بل أن تبدو كما لو أنها مولودة في تلك اللغة ومتأصلة فيها. ومع ذلك، لِمَ لا نسمح ببعض الغرابة القصدية؟ لِمَ لا نحرك الشعر الإنكليزي بشخصية متغطرسة لا متوقعة كشخصية فلاديمير مايكوفسكي الذي يقف شامخاً يعتمر قبعة عمال المناجم رافعاً صوته بمقاطع كلماته إلى عنان السماء من على جسر بروكلين؟ لِمَ لا يكون شبح أوسيب ماندلستام "المختفي" وهو يقرأ غنائياته الخيميائية عن شاربيّ ستالين أو قصائده، "المنفى"، من ثلوج وصقيع قبور فورونيزة؟
إن الصدمة المعجمية تجدد عظام اللغة النخرة، ومفيد أن نرتشف القهوة التركية في براري الغرب الأمريكي.
الترجمة صداقة بين شاعرين؛ ثمة رابطة صوفية بينهما قوامها الحب والفن. وكما يحدث في التصوف الديني المعروف، نواجه هنا مشكلة تتمثل بتعذر الوصف: كيف لك أن تعثر على كلمات تقول بها ما لا يُقال؟ أنتَ تبحث عن المكافئ للآخر بسبب تعذر الرؤية. وتكون البداية حينما يعرف أحد الشاعرين لسان الآخر؛ وإن لم يكن الحال كذلك يمكن أن يكون الوسيط شخصاً ثالثاً: قاموس إنساني ودود ومسؤول. وهنا يدخل المرشد. فالشاعر يقرأ النص أو يستعمل، بوعي منه، المرشد في قراءته. ويتمكن الشاعر مع الباحث المرشد من ترجمة القصيدة. المرشد هنا هو القاموس لا الشاعر؛ مفيد حينما يكون قاموساً وخطراً إذا صار شاعراً.
ومع أن الأفضل هو حوار الشاعر مع شاعر آخر، إلا أن الحوار بلغة أجنبية لا يخلق شاعراً ولا أن معرفة اللغة الأصل تؤهل المترجم أكثر من كون المعرفة الجيدة باللغة الإنكليزية تجعل من كل من يتكلم الإنكليزية الشاعر مليتون. إن القصائد التي يقوم بتحضيرها متخصص بالتحنيط، بحسب تعبير روبرت لويل، "من المرجح أن تكون عبارة عن طيور مُتخمة". ولهذا، ابتداءً من نسخة كينغ جيمز للكتاب المقدس وصولاً إلى النسخ المعاصرة للشعراء الروس المحدثين نجد أن إشراك مرشد حَرفي مسؤول مع كاتب أمين حد الهوس لكنه خيالي هو الأفضل لطلب عمل ما من باحث لا شأن له بالكتابة.
من دون وجود فن في الترجمة لا يمكن أن تقوم صداقة بين شاعرين. في فن الأدب والدراسة، يكمن الخير الأفلاطوني التقاليد؛ وهي الكلمة الشفرة التي تقابل كلمة "سرقة". المترجمون سُرّاق صغار لكن سرعان ما يُلقى القبض عليهم، على العكس من الأدباء الواثقون من أنفسهم عادة. فإن يكون المترجم "أميناً" فإن ذلك يعني أنه إذا كان يسرق الأصل من أجل قصيدته، مثلما فعل تشوسر، أو يختلق أو يحذف فقرات منها، مثلما يفعل ذلك دائماً روبرت لويل وروبرت بلاي، فإنه سوف يُعلن بصراحة عن سرقته أو عن الحذف، مثلما يفعل الأخيرين. اطلق على هذا الفن تسمية أخرى، :ان تكون إعادة صياغة أو محاكاة أو نقلاً للشعر، فعندئذ لن تقوم شرطة الترجمة بإلقاء القبض عليك. وأن أفضل المترجمين الشعراء ـ أي المؤلفين "الأصليين" للكتاب المقدس؛ هوميروس وتشوسر و شكسبير والقديس جون صاحب الصليب ـ كانوا يضعون أقنعة ولم يقبض عليهم أحد.
الجنة هي لحظة الترجمة؛ فالشاعر يخلق قصيدته وهو في استباق محتدم جامعاً مهاراته كلها واستعداده للسير في الفردوس.
الترجمة تتطلع نحو الاستقلال لكنها حتى وإن حققت ذلك بوضوح يكون حلمها كاذباً؛ فالعمل الأصل لا يكون مستقلاً مطلقاً ولا حتى أصيلاً تماماً. وحتى عندما تُولَد جميلة من جديد عبر صوت المترجم الذي يمنح الكلمات، هل أن الترجمة شكل مختلف عن الأدب الآخر؟ يتعذر التمييز بينهما أحياناً لكنها حينما تكون مختلفة، لا يستدعي ذلك أن تكون متواضعة ومتدنية بل يحدث ذلك فقط عبر تأكيدها على اتفاقية مصطنعة سيئة النظر رسخت تراتبيات قيمية إقطاعية بين الأصول المثقلة بحملها والترجمات الخانعة.
ولا تقف القصيدة العلمانية إلا في آخر سلسلة الولادات والتحولات البوذية. وقد بدأوا قبل زمن طويل، أو بالأحرى مثل ذلك الزمن ليس له بداية. الترجمة هي أول اعتراف بسلسلة الولادات البوذية الأصلية.
ولهذا نقول أن الأدب كله ترجمة والترجمة كلها متفردة ولهذا السبب فهي أصيلة. ويتمادى أوكتافيو باث إلى الحد الذي يعلن فيه أن " كل نص متفرد وهو، في الوقت نفسه، ترجمة لنص آخر".

الترجمة الجيدة مزحة طريفة؛ أيها القارئ أنتَ مستغفَل.
ونجد من الناحية أن الكلمات المحوّلة ليس لها بداية ولا تبحث عن مؤلف أصلي أو لغة أصلية أو كلمات أولى. وسواء أكانت جيدة أم رديئة، جميلة أم هراء، قديمة أم حديثة فإنها مزحة تتحين للظهور من تحت النص. ولهذا السبب يفتقد المترجم إلى معجزة الخلق التي أفادت "الياهوا"(2) الذي تمكن من ترجمة الهيولى إلى نور حالما تلفظ بالمقطعين "يهي أور".
وسواء أكانت رائعة أو مريعة، فالنسخة تبقى نسخة دائماً؛ إنها تأليف آخر وإعادة سرد. بل حتى القراءة الأقرب للنص الأصل تشكل فعل ترجمة ضمن سلسلة لا متناهية من الأفعال السابقة التي تمتد منذ بدء اكتساب الطفل للعلامات وأصوات الكلمات الأولى حتى تلك القراءة للنص الأصل. اللغة تحوّل نفسها بلا توقف؛ ببطء أشبه بالصدأ وبسرعة أشبه بالغزو ولا تبقى على حالها، مطلقاً، ضمن سلسلة أبدية من الترجمة الذاتية.
قد يكون اللاثبات ـ أي التحول الأزلي ـ غير مريح لكنه أفضل ما يمكن العيش معه وذلك لأننا ينبغي أن ننظر إلى حلم القبض على الكلمات وتثبيتها على أنه محض استعارة [مجاز] للموت؛ مزحة غير مضحكة بل من الأفضل أن نتقبل الحركة ـ أي الترجمة ـ ونعيش مع المبتَهجَين بروتيوس وهيراقليطس؛ المازحيِّن الأغريقييِّن.
الترجمة تطمح للوصول إلى القابالة وفيها يكون الكون نسق من الكلمات الأزلية والمستعرة برغم ذلك، لكنها تسقط إلى الأرض حال معرفتها بلاثباتها ولا أزليتها.
وإذا علمنا بمدى خيانة الكلمات والنصوص، أيمكن لنا عندئذ أن نطالب بمعجزات من المترجمين البشر الذين يعملون اليوم من أجل تشريفنا بقصيدة؟ الجواب: نعم. ينبغي للمترجم، ينبغي للمترجم أن يتبارى مع الخالق، وإن بأقل ما يمكن. ونحن في خضم جهلنا نحتاج إلى ما يقوم به من إصلاح ونحتاج لإنقاذه لنا أيضاً. فحينما ننظر إلى قصيدة ما بلغة مجهولة عنا، فإننا ننظر، بعجز، في خواء لا شكل له كان مصدر حيَّرة الرب حتى وجد الكلمات الملائمة لترجمة الهيولى إلى شكل ونور. ونحن انطلاقاً من سلسلة الترجمة وإعادة الترجمة التي بدأت منذ الخلق الأول؛ منذ أن ترجم الربُ ذاتَه إلى وجود، وصولاً إلى النص الماثل أمامنا، فإننا نعتمد على القوى العلمانية في المترجم التي تمكنه من تحويل الخواء الذي لا شكل له إلى نور.
ونجد في الزوهر Zohar)(3)(كتاب الإشعاع) أن اللامتناهي لا يكمن في كتلة ثابتة بل في شكلين من الحركة التعاقبية: الظلام والنور. ومن داخل مشكاة خفية جداً ينبعث لهب مظلم من اللامتناهي أشبه بضباب متشكل في ما لا شكل له والذي يتدفق نوراً استطاع آدم، من خلاله، مشاهدة العالم من أقصاه إلى أقصاه.
الترجمة حركة من الظلام إلى النور وعودة إلى الظلام. وحتى بالنسبة لأتباع القابالة فإن خلق الرب اللامتناهي لرؤية آدم لا يمثل سوى ومضة نور.
الدين بيروقراطية الرب. ومثلما يحدث في الترجمة فإنه ضمن تراتبية السلطة يكون الإخلاص أساسياً للعالم؛ بل أن الإخلاص للحرف، السابق للكلمة، يُحسِّن الإيمان ويجعل منه شكلاً أسمى.
أتباع القابالة يحبون الحروف التي لها معنى، ونشاهد في رسوماتهم شجرة حياة أوراقها حروف ورجل جسده مغطى، عند مواضع حساسة منه، بالحروف العشرة للأسفار التوراتية.
الرب خلق الكتاب قبل أن يخلق الأرض والسماء. وكانت التوراة "مكتوبة بنار سوداء على نار بيضاء ومستقرة في حِجر الرب". بعد ذلك، حينما شاء خلق العالم عبر كلمته، ابتكر الحروف الأربعة وعشرين في الأبجدية العبرانية. وقد "هبطت من عرش الرب ذي الهيبة والجلال حيث كانت محفورة بقلم من نار ملتهبة".
وبعد ذلك، كي يخلق الرب العالم عبر كلمته فإنه ابتكر حروف الأبجدية العبرانية الأربعة عشر...
وقد فصل هوراس وجيروم نفسيهما عن حَرفية الحرف وشجبا حتى الكلمة بغية الانتصار للعبارة والمغزى. ومع ذلك نجد أن أية طريقة ـ طريقة حرف القابالة أو كلمة الرب أو عبارة جيروم ومغزاه ـ لا تبدي فعلها إلا إذا كانت القصيدة المخلوقة جميلة. ودوماً يكون الولاء الأول للجمال الكامن في القصيدة الأصل. ولو خلت القصيدة من الجمال لكان المترجم هو شوّه إيماننا بالمغزى والكلمة والحرف.
المترجم الفنان خزّاف بارع؛ فالخزّاف يقوم بتحويل روح الخزف القديم ـ أي يعيد تجميع شكله ـ في خزف جديد. البراعة تكمن في التعامل مع الصلصال؛ فهو يفرغ المحتوى في شكل من إبداعه هو وبلغته هو. المترجم هو الخزّاف الصيني الذي يعيد خلق الروح وينتج الآنية التي تحيا فيها تلك الروح.
المترجم يتلاعب بالعدم، ومن العدم ينبع كل شيء. هذا ما يرسمه القديس جون صاحب الصليب في إحدى تخطيطاته لقصيدة ملموسة. فما لا يُحتمل ترجمته وتستحيل ترجمته يكون ثرياً. وقد تمكن الشاعر القديس الإسباني في العدم من العثور على الرب.
إن الخطوط غير القابلة للترجمة هي مروج الترجمة الطبيعية تنتج منها أفضل النباتات البرية وأعطرها. وإن ما عُجز عن إنجازه مطلقاً في اللغة المتبناة سيوسع من حدودها الثيماتية والشكلية، ومن أدبها أيضاً. وتتغير تقاليد الثيمة والشكل من خلال حقنها بقصائد من لغات أخرى ولاسيّما المستحيلة منها.
الترجمة رحلة يأخذ فيها المترجم الترجمة عبر المحيط. وستكون أية سفينة ـ مهما كانت مواصفاتها ـ مؤهلة للوصول إلى الميناء؛ مبحرة عبر بحر الولاء أو بحر الحرية. كما أن الميناء يوحي ـ من اسمه ـ شروط البحر الذي من خلاله ستصل السفينة إلى وجهتها. ولهذا ربما نطلق على الميناء الذي سترسو عنده شحنة القصائد تسمية القديس مخلص أو التناغم الجديد أو التوت البري. لكن ينبغي أن يكون للميناء اسم؛ اسماً حقيقياً. ستفي التسميات المتواضعة بالفرض: ترجمة، تفسير، إعادة صياغة، تحسين صياغة، إعادة سرد، محاكاة، أو أي شيء كان.
المحيط يقدم الأشياء كلها بما فيها الاستعارات المختلطة التي تخص ترجمة القصائد. والآن للنتقل من المحيط المحلي لنصل إلى البساتين؛ فإن كان بمقدورنا أن نمنح الأشجار والفواكه أسماء علم لأكلناها ـ نحن الجياع من قرّاء ونقاد ـ بصورة أفضل. تخيل حقل فوق هضبة في جزيرة إغريقية تسطع عليها ضياء البحر المتوسط الذي كتب فيه أرشليخوس ـ قبل سبعة قرون من العصر المشترك ـ عن التين والنسوة الخليعات وعن جرأة شهوانيته الصارخة. كما أن قصائده مع ضوئها ودفئها وقت الشِّعرى ـ التي تم تحديثها الآن على شكل شذرات ـ كلها محفوظة في أشجار كثيرة في بستان إغريقي فوق هضبة عند الظهيرة. ولتكن منصفاً مع البستاني الذي يرعاها. لا تأكل الأجاص الزغبي من أجل الدراق ولا تتجهم. ينبغي أن تكون العقوبة المالية قصاص المترجم على الخطأ الذي يرتكبه؛ فحرية الاختلاق أو التيه عن النص بل حتى تحريك كلمات ومقاطع عن أماكنها لا ينجح إلا في طريقة معينة، كالمحاكاة، التي مارسها تشوسر وشكسبير بجرأة. لكنه ليس حراً في عدم التزام الدقة لأن مثل هذه الممارسة تُوقِع الشاعر في الجحيم. السقيم فقط من يرى الحرية رديف الخطأ.
تزداد مهارات الكاتب ـ مثلما يعلم كنتليان أصلاً ـ من خلال ممارسة فعل الترجمة. ولاشك في أن كنتليان ـ باعتباره نحويّ بليغ ـ هو من اقترح ترجمة الخطابة الراقية بدلاً من ترجمة القصيدة. بل حتى النحويون والخطباء اللاتينيون لديهم متاعب مع القصائد ويميلون إلى التخلص منها ورميها وراء ظهورهم.
الشاعر المترجم لص مكشوف لكن لا ينبغي له أن يقتل المؤلف الآخر أو أن يسرق منه اسمه. لكن إن كانت ثمة ضرورة للقتل والسرقة، فليقل الحقيقة عندئذٍ. قد تكون السرقة جريمة تستأثر بالإعجاب. ومثلما هو الحال مع الموسيقى عادة، فإن الفنان المترجم يقرأ ويؤول لكنه لا يختلق تماماً القطعة الموسيقية. ومع ذلك، إن توجب عليك القتل والسرقة، إن توجب عليك تغيير الماضي ومعالجته وتزويقه ليتلاءم وزمنك، عليك أن تعترف بالمحسن عليك وأن تدين له بالفضل. عندئذ، حينما تعرض مسروقاتك سيكون عظيم الثناء بانتظار ما فعلته.
يتم اختبار مهارة الشاعر المترجم عن طريق ضوابط معينة وتكون الحرية مقيمة في الترجمة المقاربة بالقدر الذي تكون فيه متوطنة بالترجمة الحرة لأن اللغة الإنكليزية مرنة بتفرد وترغب بمواجهة التحدي الذي يرمي إلى تغيير طرقها وترحب الذين يسيؤون لها بذوقهم وخيالهم. الترجمة الأقرب تتطلب الخيال الأعظم وتواجه الخطر الأكبر لأن الشاعر حينما يواصل اقترابه قد يقع بسهولة تحت غواية سطح الحرفية المبسط؛ وهنا تكمن المفارقة. وإذا علمنا أهمية التحليق بالخيال بغية التعويض جمالياً عن الاقتراب من النص الأصل ، نجد في الترجمة الأقرب أن الشاعر يحتاج إلى بدلة فضاء جيدة أو أصابع بارعة أثناء العمل في الفضاء أو عليه أن يضع وسادة على الأرض. وقد حلّق الشاعر روبرت فيتزجيرالد لكنه ظل برغم ذلك قريباً جداً. ويطلق الصينيون على المنهج الذي يتبعه شعراء التانغ الكبار الذين يعملون بخيال ملحوظ على الرغم من تقييدهم بالضوابط عبارة "الراقصون في السلاسل".
ينبغي للشاعر المترجم أن يكون مترجماً. ففي فعل تحويل الشعر من العدم إلى شيء ما يكون المترجم شاعراً، أولاً، حتى وإن لم يكتب الشعر مطلقاً خارج نطاق التسلية. وسنكون محظوظون إن كان شاعراً، ومن بين عظماء المترجمين نذكر ماري هيربرت، هولدرلين، باسترناك، ريلكة، فاليري، لويل مور، باوند، كوازيمودو، بيشوب. لكن مثلما كتب أوكتافيو باث: الشعراء الجيدون ليسوا بالضرورة مترجمين جيدين.
الترجمة أيضاُ فن ينبغي تعلمه، حتى من قبل الشعراء أنفسهم؛ وهي بالغة الأهمية للقصيدة حينما تغير الألسنة، أي لحظة صدق الترجمة تلك حينما تنبعث فيها النار والمعرفة لتمتزجان وتبدعان. في تلك اللحظة تحديداً، تتحول القصيدة إلى كل شيء أو تصير عدماً.
المترجم يعمل في المجهول؛ وهو في اختياره لدرب المجهول يجازف بالخسارة، وغالباً ما يحظى بالمكسب. وينبغي للمترجم أن يقامر بالمكاسب كي يوازن الخسارات. وغالباً ما تكون الكليشيهات عذبة في اللغة الجديدة ولهذا عليك أن تمنح الكليشيهات الحَرفية حياة جديدة، ولاسيّما تلك المأخوذة من لغة غرائبية. وعليك أن تنغمر في الترجمة الحَرفية لكليشيهة بالية كي تسطع من جديد، واحذر أيضاً من المكافئ المأمون الذي يصر على البقاء في عتمته المملة.
الخيار أيضاً مغامرة ضد الخسارة؛ فالمترجم يبدأ بفائدة تتمثل باختيار القصيدة التي تمنح نفسها للترجمة. هذا الخيار التحريريeditorial مكسب هائل. وفي النهاية، ومع المكاسب التي تفوز بها الترجمة، فإنها لا تظهر إلى الوجود فحسب بل ستكتسح أسلافها بل ستتمكن، بعد الإبادة الأدبية اللامرئية، من الازدهار في حرية منعشة. وستُلقي أزاهير الترجمة البكر ببذورها المبهجة للحواس في لغة جديدة جذِلة.
المترجم كاتب ولديه سبب وجيه لمعادة الألفاظ المهجورة؛ فهو يستعمل لغة معاصرة لكن ليس برهبة كبيرة إلى الحد الذي يلغي فيها مداها المعاصر وتاريخها الحي. لا تقلق من ان الحداثة ستقتل الماضي. لن يفقد الكتّاب القدماء سنيّ عصرهم الطويلة حينما يتم الاستماع إليهم في المفردة الحديثة؛ فقراء النص الأصل يقرأون لغة عصرهم ما لم يكن الكاتب ـ مثل سبنسر ـ يتعمد محاكاة النمط المهجور. إن رغبت بفعل ذلك عليك أن تبتكر لنفسك كلاماً ملائماً وأن تنسى لقب "الكاتب" والحظ الحسن وألاّ تعول على أي شيء. المترجم هو أشعة سينية x-ray لا نسخة كربونية أما الشاعر المترجم فهو المولع بالغرابات.
المترجم يمضي حياته وهو يتساءل: لماذا؟ لكن الـ"أنا" I (حتى وإن تضخمت كعين الخالق) تعرف أنها "من أجلك أنت". الترجمة الجيدة للشعر ضرورية لقارئ جائع في مكتبة محترمة وكذلك لقرية كونية من الحروف. نحن بحاجة لها لأننا مازلنا نعاني من وطأة مرسوم الرباني لشتات اللغة البابلي. وعلى الرغم من أن أنتيغونة والملك لير يتحدثان أحياناً بلغة غرائبية تدحر غضب الرب على كتّاب بابل من البناة الأحاديي اللغة مازالا يخربشان كلماتهما بآلاف المخطوطات ويكدسانها فوق هضاب الأمل والمستقبل بانتظار أن تترجم. الترجمة حديقة حيوانات وأرض الميعاد الفردوسية.

الهوامش:

(1)سايكلادك: مجموعة من الجزر الشهيرة في الحضارة الإغريقية ـ إلى جانب كريت ـ تميزت بقصورها وبراعة فنانيها وحرفتهم العالية. (المترجمة)
(2) وصمة الحرف T القرمزي: يشبه المؤلف هنا الحرف T بالحرف A القرمزي الذي كانوا يصمون به المتهم أو المتهمة بالزنا.(المترجمة)
(3) الزوهر: يتناول المعنى الباطني للنصوص التوراتية ولاسيّما الكتب الخمسة الأولى، كما يركز على الأسفار التوراتية. (المترجمة)

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف