إيلاف+

إيلاف مع المنسيين في طرابلس اللبنانيَّة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

ما ان تخطو في قلب طرابلس القديمة، وتدلف الى اسواقها وزواريبها، حتى تشعر انك تنتقل من حياة الى اخرى. حيث الوجوه المقموعة فقراً، تفترس خطواتك شيئاً فشيئاً. وكلما توغلت في عمق الحارات والاحياء الضيقة، ينفصل كيانك وتحس انك خارج الزمن والمكان. فتبدو لك وجوه الحياة في هذه الاماكن المنسية، ضرباً من ضروب الخيال، الا انها اكثر الوجوه واقعية ومرارة.

طرابلس (شمال لبنان) - صور خاصة بإيلاف: يقبع اليأس والبؤس الاجتماعيين في وجوه الناس وحركاتهم هناك. وتختزن عيونهم المتشظية والمشتتة النظرات مسحة حزن مشوبة بألفة غريبة. ما ان تدخل حاراتهم حتى تنهشك نظراتهم البائسة و"تتحزر" بك الالسن. قليلة هي زيارات الغرباء هنا. الوجوه نفسها تقريبا تتكرر كل يوم والاشخاص عينهم. لا غرباء هنا. الا انت وعدسة "كاميرتك"، التي شدّت الاطفال اللاهين بين ازقة الحارات وجعلتهم يتراكضون وراءك، لعل العدسة بضوئها الخافت تشع على وجوههم الثكلى والكامدة في خوف وعنف مخفيين ومهانة وذل دفينين وتلتقط منها قسمات الكهولة المبكرة. حيث لم تعد الطفولة تسكن هذه الوجوه، بعد ان غزتها ملامح الاهل القاسية والخشنة.ً

يركض الطفل علي ابن التسع سنوات عندما يرانا ويختبىء وراء والدته، التي تستقبلنا بلهفة. فيما يقترب منا اخاه الصغير رامي (5 سنوات) ضاحكا لعدسة الكاميرا. الام ترتدي ثيابا شتوية. الجو ليس باردا كثيرا. فالحي الداخلي محمي من كتل الهواء الباردة. تدخلنا الى بيتها الصغير والضيق. بضع اثاثات قديمة ومهترئة. تلفزيون يتربع في وسط الغرفة. ومنقل صغير مليء بالدق والفحم المشتعل، يبث الدفء في جو الغرفة المشحون برائحة نفاذة من الرطوبة والعفن. اطفال صغار نائمون على اسرة صغيرة " انها قيلولة قصيرة، سيستيقظون ليدرسوا من بعد ذلك" تقول الوالدة بابتسامة هادئة. حقا انها قيلولة قصيرة فما لبث الاطفال ان رأونا حتى استيقظوا ليتعرفوا الى الزائر. يجلسون قرب والدتهم حفاة وهم يتجدبون، يسألونها "بوشوشة" خفيفة عنا، لا ترد عليهم. تجيب عن الاسئلة وكأنها ضمن قسم التحقيق تقول:" اعيش في الحي منذ 12 سنة، تركت عائلتي في باب الرمل وجئت للسكن مع زوجي هنا، لان العيش في الحارات ايجاره قليل"، وتضيف باقتضاب" ان العيش في الحي سيء للغاية. لكن ليس باليد حيلة".

بؤس وفقر
حارة "النشار" قديمة بأبنيتها الاثرية القادمة من عصر المماليك والعثمانيين، لكنها ابنية مهترئة وآيلة للسقوط وتحتاج الى ترميم، والاهمال يسكنها والاتربة المبللة بالحرمان تعشعش في نتوء حجارتها. قصص المعاناة اليومية كثيرة في هذا الحي، سكانه يفتقدون لادنى شروط العيش الصحي والبيئي والتربوي، اطفاله ضحايا عنف واهمال، معرضون دوما للانحراف في جو من الامية وقلة التعليم والفقر والحرمان المزمنين.

نتوغل أكثر وأكثر في "المهاترة" و"حي النشار"، وكلما توغلنا فيهما ازدادت شدة مظاهر الفقر والبؤس، لا سيما التسرّب المدرسي للأطفال، والذي يؤدي إلى العمالة المبكرة، أولاد يعملون في مجالات غير صحية لا بل مضرة لصحتهم، فيما آخرون يتلهون بألعاب الموت، ولأن لا فسحة للأطفال بين الزواريب الضيقة وفي المنازل المظلمة، يجعلون من الشوارع مكاناً للهوهم.

حكاية احد الشبان في الحي، تتلخص بكيفية نزوعه الى ايجاد طريق للهرب من ضمور الحياة وتخثرها في مكان سكنه الرث، فهو يشعر انه سجين الحياة اليومية الموقوفة والواقعة في شروط سلبية. لا يجد سوى مساكنة الكمد والقنوط الصامتين في بيته، يقف وراء احد نوافذ البيت المحطمة، يشعل سيجارته، الرفيق اليومي والانيس الوحيد في "شلة" افكاره الموحشة، يحدق النظر بين الحارات وشقوق المنازل المكتظة والمتلاصقة، علّه يستشرف مستقبله بين كومة البيوت والابنية القديمة الصامتة. يسرح بنظره فيشاهد البيوت المكدسة فوق بعضها بعضا، "لا افق حقيقي هنا" يحدث نفسه قائلاً. داخل حارته الاثرية والقديمة، كل البيوت الفت حياة الفقر وعايشت تفاصيله.

مجموعات "العيش الهامشي"
هناك مجموعات من الشبان يشترون القهوة بـ250 ليرة ويتعاملون مع الجلوس في احد مقاهي الحي الضيق والعابق برائحة سجائرهم، بصفته الترف الوحيد الممكن. يجلس الشبان الفقراء في زواريب الحي يسندون ظهورهم الى جدرانه الموشومة بكلمات وشعارات، ويقفون امام طبقات بيوت بُنيت عشوائياً، و يتفقدون بنظرهم تفاصيل منازلهم الفقيرة، التي لا ترى في محيطها من يسير وهو يضحك. بعض الأطفال يلعبون الكرة وهم متّسخون الى حدّ المرض، وبين جلسات هؤلاء الشبان يرتفع السخط على حال لا تتغير. فقرهم لا فكاك منه، وقلة تعليمهم لا مهرب منها إلا العمل او لنقل التسكع. هنا في كثرة الحياة المتنازعة والمركبة، يعيش الناس في حياة متضاربة من الخوف على مستقبل اسرهم المكتظة. معظم الاشخاص الذين التقينا بهم يعيشون المهانة المكتومة في صدورهم، وعيونهم تحاذر ان تتبادل النظرات. بعضهم يمشي كسير الخطى في مسافة ممغنطة من الاحباط، وبعضهم يصطنع الشدة.

نضال شاب في العشرينيات، تربى في حي "المهاترة"، عمل في بداية مراهقته في مهن صغيرة واعمال خفيفة، عاش طفولته في ارجاء الحي وبين جنباته، "لم يتغير اي شيء" كما يقول. الحال هي نفسها كما "اعتدت عليها"، دخل السلك العسكري الا انه"سرّح" منه بسبب زواجه، تزوج باكرا وانجب طفلة. بعد تركه الجيش مباشرة، طلبت منه زوجته الطلاق وأصرّت في طلبها "فطلقتها"، والسبب؟ اجاب بيأس:" عدم وجود فرصة عمل لدي". الزوجة تريد حياة جيدة، لا بطالة فيها ولا "عيشة" الذل والفقر. يشتاق نضال الى ابنته الصغيرة، لا يراها الا مرّة في الاسبوع، يتحسر على "حظه العاثر" يعتبر نفسه"مقصراً" وغير "نافع". يقضي معظم اوقاته متسكعا في الحي، ينزل الى "ساحة النجمة" يتسلى مع رفاقه الشباب بلعب "برّتية" ورق وحين يعود الى البيت ينام وفي الليل يرجع الى رفاقه "العاطلين مثلي عن العمل" كما يؤكد. معظم شبان الحي هم عاطلون عن العمل، وجوههم ملأى باليأس رغم سن الشباب وحويته، وبريق الامل يخفت منها شيئا فشيئاً.

احد الشبان يلفظ بلغة محطمة، وعلى نحو جامد وفقير، بعض الجمل المتعثرة محاولا بجهد كبير ان يعبّر عن حال عائلته وسوء العيش في داخل الحي وبين زواريبه الممزقة والمتآلفة في آن واحد، تجاربه المريرة السابقة في الهرب وتركه المنزل(الغرفة)، ومحاولته الخروج من بيئة السكن الصعبة وايجاد فرصة عمل في العاصمة بيروت، لم تعيده الى اهله و حارته وسكانها الذين ألف حياتهم ووجودهم من حوله، وسكنت تفاصيل وجوههم وحكاياتهم وسكناتهم ورموزهم في ذاكرته اليومية، لم تعيده هذه التجارب الاّ خالي الوفاض. "لا قيمة حقيقية استطعت ان احصدها من تركي للحارة والسكن لأشهر في بيروت معزولا عن بيئتي وابناء حيي" وفق ما يقول، يؤكد مع بعض رفاقه الذين دخلوا "خط الحوار" ان حياتهم "تشبه الموت"، وان "وسواس" الخروج من هذه البيئة ينخر رؤوسهم.

مستسلمون لفقرهم
السيدة هدى تسكن في بيت صغير في اول طلعة "درج" حارة النشار، يعمل زوجها مياوماً في محل لبيع الدجاج في منطقة "محرم" الشعبية (قرب باب الرمل)، "يوميته" لا تتجاوز الخمسة عشرة الف ليرة. "ما بتأدينا، لمصاريف دوائي، و لعناية حماتي التي تسكن معنا، و حتى لشراء حفاضات ومصاريف لاطفال أخت زوجي المطلقة التي تسكن معنا ايضاً، اضافة الى مصاريف البيت و اطفالي ومدراسهم وكتبهم" تقول والغصة تحرق قلبها. حياة هدى الاربيعينية تصفها بـ"الهادئة " على الرغم من كل التعب والشقاء والفقر، فهي مقتنعة ان هذا هو القدر والنصيب و"كل واحد ما بياخد الا نصيبو".

الحاج احمد (60 عاما ) يقول:"كثرة من سكان الحي، يناضلون ويتعبون يوماً بعد يوم من دون أن ينتشلهم كدهم المتواصل من أدنى مستويات الفــقر والحرمان". ويؤكد متحسرا " يمكنك ان تلمس بكل حواسك ان ثمة فراغاً راعباً يملأ تلك الأماكن، فهي متروكة بالفعل الى هؤلاء الذين لا يستطيعون الا ان يستسلموا للفقر في بقايا منازلهم الصغيرة والكامدة".

يشكو معظم سكان الحي من النظرة السلبية التي يغرقهم بها الناس على اساس "انه لا يمكن لاحد الاقامة في الاحياﺀ الشعبية دون ان يتخلى، عن حس اللياقة والتهذيب". يؤكد الحاج احمد ان على الساكن الجديد "ان يتخلى عــن اعــتــبــار المناقشة السلمية مدخلا لمنع تفاقم اي حادث بسيط مهما صغر شأنه، فلا بد من ان يتمتع المرﺀ بالشجاعة الكافية ليحمي ساحته منذ الــبــدايــة، على المرﺀ ايضا التكيف مع فكرة انه لا يمكن العيش منعزلا دون اقامة علاقات مع السكان. كل هذه الامور تفرض نفسها على المقيم الجديد، وما من امكانية للتفلت من احكامها".

إشباع الحشرية
وما اكثر ما ينزعج منه السكان من بعضهم؟، يجيب:" الازعاج اليومي بفعل حلقات السهر التي يجريها شبان المنطقة أمام مداخل البيوت، حيث انهم يراقبون الداخل والخارج ويميزون بسرعة البرق ولو تحت جنح الظلام الغرباﺀ عن الحي". سكان الحي لا تفوتهم شاردة، وهم مشغولون بأجمعهم في اشباع حشريتهم بمثل هذه التفاصيل. لذلك نستطيع القول أن لا حياة خاصة لأحــد هناك. ولا أمــل لأحد في البقاﺀ فرداً إذا كان كذلك في السابق، وممنوع على المقيم من التحول إليه طالما أنه يحيا هناك.

طبيعة هذه الأمكنة باكتظاظها السكاني وبضيق مساحتها تجعل مــن العسير إخـفـاﺀ شــيﺀ عــن أحد فالمحادثات جميعها مسموعة ولو كانت تجري في غرف مغلقة، إضافة الى الحياة الزوجية وعلاقات الأهل مع الأولاد، وما يقطعها من المشكلات إلى ساعات الفرح، جميعها تجري على مرأى ومسمع الآخرين. والأمر الذي يمنع تداول أخبار أحد ما في حضوره عائد فقط لمشاركته سكان الحي حياتهم في تقاليدها وعاداتها، أما إذا كان من العناصر الغريبة والنافرة واللائقة في آن معاً، فيجري تداول أخبارهم وتفاصيل حياتهم الخاصة والحميمة على مرآه ومسمعه وأمام الجميع، لذلك يمكن القول ان ثمة امتيازاً يكمن في الانضمام إلى حياة "الجماعة". في نهاية المطاف يجد المرﺀ نفسه واحداً منهم يقوم بالمخالفات والتعديات ويمارس ذات الطقوس والعادات وإلا فمصيره الطرد والرحيل. ولا شك أن حياة هذه الاحياﺀ قاسية وعنيفة والأمور تسير فيها على حدود شفافة ودقيقة من السهل والصعب في آن تجاوزها.

حياة الإيمان والمحافظة
احد الشبان الملتحين يجلس في الساحة قرب مقام "سيدي عبد الوهاب". يبتسم لحضورنا ويستقبلنا بعيون دافئة. يقول ان الحي مسكون ب"رائحة الايمان و المحافظة"، ومعظم العائلات تعيش فيه متقاربة من بعضها بعضاً، وتحاول ان تغلب الفقر و الحرمان ب"ايمانها العميق واتكالها على الله الى جانب اواصر الحب والالفة". فالحاج مروان نشار وهو بائع الحي. يملك محلا لبيع حاجات البيوت اليومية يعتبر ان "العيش في المهاترة أليف". الجيمع يحبون بعضهم بعضا وما زالت عاداتهم القديمة تتجلى في ايام المناسبات والاحتفالات الدينية وفي شهر مضان. فتسود اجواء التعاضد. يؤكد الحاج ان هناك عائلات كثيرة "مستورة" اي انها فقيرة ولا تطلب من احد ان يعيلها او يساعدها. مؤكدا ان عائلات من الحي تحاول دوما ان "تساعدهم من خلال صندوق المسجد".

غرفة الحاج عبدالقادر
النشار يدلنا الى بيت الحاج عبدالقادر(70سنة). نحمل خطواتنا و نمضي الى بيته تحت القبوة. نصعد بضع درجات واطئة والظلمة تجتاح المكان. لا ضوء ولا نور وكأننا في سرداب مظلم. نجتاز الدرجات لنصل الى بيته. غرفة صغيرة والكثير من الاغراض و الاثاثات الباهتة و المحطمة. تلفزيون صغير، وشمعة لاول مرة نشاهد مثلها في البيوت، ضخمة وطويلة كتلك التي تستخدم في المعابد. انها "لانقطاع الكهرباء حيث يبدأ التقنين لايام ولا ينتهي ولا احد يسأل او يأبه" يقول الحاج. يعاني الحاج من مرض مزمن ولديه شهريا تكاليف دواء تفوق ال600 الف ليرة. لا يستطيع شراءها جميعا، فيعاني اكثر واكثر، وصحته في تدهور مستمر. حاول ان يطرق ابواب السياسيين لكن لم يفتح له الباب اياً منهم، و جوابهم دوما ان "تقديم المساعدات متوقف منذ الانتخابات". لدى الحاج تسعة اولاد احد ابنائه لا يتجاوز الثامنة عشرة مسجون في "الاصلاحية" والسبب؟ يخبرنا الحاج انه" يمشي مع رفاق السوء في الحي. و دلوه على طريق غير سوي. وانحرف". الحاج غير محزون على ابنه يرى ان العقاب"جائزة" له، ليرتاح من همومه و مشكلاته.

في الساحة قرب مركز لتحفيظ القرآن الكريم اثري وقديم ومقفل والاهمال يأكل جدرانه، يقع معمل لصنع "حلاوة الشميسة" وهي من اقدم انواع الحلويات الشعبية. وبالقرب منه طلعة صغيرة نصل عبرها الى اطراف من حي "المهاترة". حيث البيوت مقبضة. و الشرفات تبدو مهترئة. وجدران الابنية محطم ومتآكل. نترك الحي وعيوننا ما زالت تسكنها صور الاهمال والفقر في قلب المدينة "المملوكية" القديمة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
stevelmr
Steve -

thanks for the article but the description of the poor people there is very exaggerated, I am Tripolitan and I don''t see this is at all, these are very low profile people, probably they need more attention from the government, but your article went far far from the reality,