جازان تنفض غبار الغياب والحرب والنزوح

مدينة كان ظهورها العالمي على الواجهة منذ أكثر من ستة أشهر أثناء مواجهة القوات السعودية للمتسللين من الحوثيين عبر حدودها مع الجمهورية اليمنية، تلك المدينة التي غابت عن قافلة التنمية السعودية ولم تنل ما نالته أخواتها من المناطق الأخرى، وهي الآن تجهز نفسها لأن تكون "صبية" المدن السعودية ذات التطور والرقي.

ساعة الانطلاقة كانت فجرًا باتجاه مطار الملك عبدالله بجازان وهو المطار الداخلي ويحمل اسم ملك السعودية في خطوة تعكس مدى اهتمام العاهل السعودي بهذه المدينة وتجلى ذلك الاهتمام بكلمته أمام أهالي جازان في الفترة الأولى من تسلمه مهام الحكم السعودي قائلاً "لقد تأخرت مسيرة التنمية في جازان في الماضي لظروف لم يكن لأحد يد فيها، إلاَّ أن دولتكم عقدت العزم على إنهاء هذا الوضع، باختزال المراحل، ومسابقة الزمن، وإعطاء جازان عناية خاصة".

وجازان التي عانت من غياب خدمات كثيرة أصبحت تنشر الحياة في أرجاء السعودية وهي المدينة التي تسمى "سلة الغذاء السعودي".

المقعد المجاور في رحلة "إيلاف" لمنطقة الحدود الجنوبية السعودية كان لجراح بالقلب يعمل بمستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض من أهالي جازان ذائعة الصيت بالأدب والفكر والثقافة افتتح الحوار بخبر يقرأه في إحدى الصحف عن أمطار جازان بشكر الرب على ذلك، هل تحب جازان ؟ قال بزهو نعم فهي أساس معرفتي بالعالم وتحدث أنه خلال رحلاته العلمية العالمية يعلن اسم جازان في اسمه فخرا بها، تحدث وهو الزائر السنوي لمدينته أن قطار التنمية بدأ بالعودة الى جازان وستكون مدينة جاذبة تنافس جدة في سياحتها واستثماراتها، أثناء حديثه عن "فتاة الجنوب" جازان كانت الطائرة تعاني من كثافة غيوم وأمطار شديدة الهطول وحين السؤال عن خوفه من غرق جازان كما غرقت جدة قال جازان تغيرت وتغير حتى فكرها التخطيطي المستقبلي فهي بدأت من حيث انتهت منه المدن الأخرى، على الطائرة نفسهاكان هناك عدد كبير من مشرفي الأعمال وأصحاب شركات كبرى أتت للاستثمار بمنطقة جازان، قال أحدهم "جئت للإشراف على مجموعة مزارع خاصة تنتج المانجو وهذا الوقت الوحيد المناسب في السنة لإنتاجه وهو ذو قيمة كبرى وميزة تختلف عن الأنواع الأخرى بالسوق العربية" وأبدى المهندس الزراعي المرافق معه انزعاجه من غياب السعوديين عن التواجد في بلد يراه أنه مناسب لقضاء جميع فصول السنة.

جميع هذه الكلمات عن جازان مهدت الطريق للرؤية عن قرب لمدينة اقتربت منها الخدمات وأعادتها رياح الحرب إلى الواجهة، ففي الطريق إلى وسط المدينة كانت عبارات الترحيب بالعاهل السعودي الذي زارها قبيل أشهر للاطمئنان على سير أعمال الجيش السعودي أثناء مهمته في رد تسلل "الحوثيين" منتشرة لبلد يعشقون فيه ملكهم، ويراه "الجازانيون" أنه من أخرجهم من إهمال سنين كثيرة وأهدى لهم "مدينة جازان الاقتصادية" ثاني أكبر المدن الحديثة التي يجري الإنشاء فيها والتي ستكون زادهم في رزقهم ومعيشتهم، وأضاف لهم جامعة هي الأكبر من حيث المساحة.

في الطريق "إلى جازان الاقتصادية" التي تبعد عن جازان الأم (52كلم) شمالاً كانت أعمال البناء واضحة المعالم رغم كمية الأمطار التي أعاقت سير الوصولية إليها إلا أن المرحلة الأولى من البناء أصبحت واضحة المعالم من خارج سورها الذي اكتسى بشفافية وجمال سكان السواحل والتي يعول عليها أبناء وبنات جازان بأن تكون حجر الزاوية في ترتيب عام لبيت جازان الكبير.

أثناء المرور بضواحي المدينة كان ميناء جازان شاهدا لازدحام يثير التساؤل وصلته "إيلاف"، وأثناء السؤال عن سبب ذلك أجابنا أحد المصطفين أنه يجهز وغيره للحصول على تذكرة المغادرة إلى مدينته الأخرى "جزيرة فرسان" عبر عبارات مجانية تحمله وتحمل سيارته بدون أي مقابل وفق تنظيم يومي يتجاوز ثماني رحلات ذهابًا وإيابًا تستغرق خلاله الرحلة الواحدة قرابة الساعة.

المرور بين مباني الشقق السكنية والفنادق بمدينة جازان كان مستحيلا فآثار حرب المتسللين ما زالت قائمة، فالسكان بدؤوا بالنزوح "كرها" إلى محافظات المناطق الأخرى بعيدًا من لهيب محافظة الخوبة الحدودية (70 كيلومترًا جنوب شرق العاصمة الإدارية جازان) وجبالها التي لاقت أشرس الهجمات والدفاعات، فأهالي هذه المدينة راضون عن كل ذلك فابتسامتهم كانت مستقبلاً ومودعًا لذكورهم وإناثهم وكأن ما يدور حول مدينتهم يدور بجبال اليمن دون مناطقهم، قال أحد أصحاب الشقق المستضيفة للنازحين من حدود الحرب هم كذلك دائما ما يشعرونك أنهم لا يعيشون للغد، ينفقون ما لديهم لإسعاد أنفسهم ولا يأبهون من الباكر وهذا سر سعادتهم.

في إحدى الشقق المفروشة التي لم يقطنها منذ أربعة أشهر سوى النازحين من ويلات الحرب كان المسن المقعد محمد نجمي ينظر بحده إلى الشمس وحين سؤاله عن مدى ارتياحه ببعده عن الحرب وتوفر الخدمات له قال إنه يرغب بالعودة إلى منزله وأرضه بمنطقة الخوبة حتى وإن كانت ناره قاتلة، حدثنا ذلك المسن عن أيامه الأولى بعد النزوح إلى المخيمات التي جهزت لإيوائهم قبل انتقال جزء منهم إلى الوحدات السكنية بالمحافظات الأخرى وقال "أيامنا الأولى كانت شديدة الصعوبة كنت بعيدا عن أبنائي وبناتي فلم أعثر عليهم إلا بعد يومين من عمليات الحصر التنظيم داخل مخيمات الإيواء" قال والدموع تسقط على أخاديد وجهه الذي يعلوه طوق من الكادي الجيزاني أن رؤيته لأبنائه وأحفاده من حوله يزيد رغبته في العطاء لهم ولإسعادهم.

جازان التي عانت من أحداث وويلات تتعاقب عليها تتماسك كثيرا مع أهلها الصامدون للخروج بها الى مصاف مدن عالمية وليست عربية وفق رؤية أحد أبنائها الكاتب علي معشي الذي يرى أنها المدينة التي على الرغم من ألمها إلا أنها ما زالت تحلم وستحقق.

ما هي الحالة الإنسانية والمعيشية داخل مخيمات النازحين؟ و لماذا لم يغادر بعض النازحين المخيمات؟

كل ذلك في الجزء الثاني من رحلة إيلاف في مدينة الحد الجنوبي.