بودان: لا يمكن أن تنتهي العدالة الدولية عند حدود الديكتاتوريات

سجلت قضية أنغولا كيت، أو الصفقة السرية التي هربت فيها الأسلحة نحو أنغولا في التسعينيات إبان الحرب الأهلية، جر أحد صقور اليمين، وزير الداخلية الفرنسي السابق، شارل باسكوا إلى ردهات المحاكم، ما فجر العديد من الأسئلة حول مدى نقاوة الطبقة السياسية الحاكمة في فرنسا بيمينها و يسارها.

ورد اسم أركادي كايداك في تحقيقات أجرتها الجهات المختصة في قضية تتعلق بتبييض الأموال مع نهاية التسعينيات، حيث كشفت أنه متورط رفقة رجل الأعمال بيير فالكون في صفقة سرية للأسلحة تجاه أنغولا سنوات التسعينات، عندما كان يعيش هذا البلد الإفريقي حربا أهلية طاحنة.

و بينت هذه التحقيقات أن الرجلين متورطين في صفقة سلاح سرية نحو أنغولا في أوج الاقتتال الطائفي في هذا البلد، باسم شركة سلوفاكية تحمل اسم "ZTS osos "، و بلغت قيمة هذه الصفقة 790 مليون دولار.

كما ورد في ذات التحقيقات اسمان معروفان في الأوساط السياسية و الثقافية الفرنسية، يتعلق الأمر بكل من جاك أطالي المستشار السابق للرئيس الراحل فرانسوا ميتران و نجل الأخير جون كريستوف ميتران.

و أدت التحريات إلى جر أحد صقور اليمين الفرنسي، وزير الداخلية السابق، شارل باسكوا، إلى ردهات المحاكم، حيث يتهم بكون جمعية "فرنسا إفريقيا الشرق" التي شغل فيها خليفة لرئيسها، تلقت على حسابها البنكي من المتهمين الرئيسين في القضية، مبلغا مالي قدره 230 مليون ألف يورو.

و أدت التحقيقات الأمنية و القضائية إلى تقديم 42 شخصا سنة 2007 إلى العدالة الفرنسية، من ضمنها الوزير السابق، أو ما يطلق عليه رجل إفريقيا، شارل باسكوا، بالإضافة إلى المتهمين الرئيسين في هذا الملف، بيير فالكون و أركادي كايدماك ، الفرنسي الإسرائيلي من أصل روسي، ثم جون كريستوف ميتران.
و في 2009 خرج جاك أطالي بريئا من القضية إثر حكم قضائي برأ، بالإضافة إليه، خمسة أشخاص آخرين، فيما أدان 36 شخصا، 24 منهم استأنفوا هذا الحكم من بينهم بيير فالكون الذي أدين بست سنوات سجنا نافذا، ويوجد خلف القضبان في الوقت الحالي، حيث رفض طلب لدفاعه بتمتيعه بالسراح المؤقت في انتظار صدور الحكم الاستئنافي.

و العقوبة السجنية نفسها كانت من نصيب الرجل الثاني في هذا الملف أركادي كايدماك (الفرنسي الإسرائيلي)، و الذي يوجد في حالة فرار، فيما أدين وزير الداخيلة السابق شارل باسكوا بثلاث سنوات، سنة واحدة منها سجنا نافذا، كما أدين جون كريستوف ميتران، ابن الرئيس الرحل فرانسوا ميتران، بسنتين سجنا موقوفة التنفيذ.

و لم يبلع الوزير السابق هذا الحكم، الذي يوجد في الوقت الحالي في حالة سراح، إلى أن يحسم مصيره لاحقا بعد مرور الفترة الاستنئنافية، إذ أبدى شارل باسكوا نوعا من الاستغراب لهذا الحكم، و حاول أن يقنع الرأي العام على أنه "لا يمكن لشخص له مثل مساره السياسي أن يتورط في قضية مثل هذه"، معتبرا الإدانة "إهانة" بحقه.

العدالة الدولية في وجه الديكتاتوريات
يراد من هذا النوع من الصفقات، طبعا، الاغتناء بطرق ملتوية، و في بعض الأحيان على حساب أوضاع إنسانية في غاية الصعوبة، بالحصول على "عمولات بمفعول رجعي"، يقول المختص في القانون الدولي مجيد بودان لإيلاف، كما كان الشأن في قضية أخرى، عرفت بقضية "كراتشي".

و تحمل هذه المحاكمة الكثير من الأبعاد، لأنها تهم وزيرا سابقا يوجد في قفص المتهمين بسبب صفقة أسلحة لحكومة كانت تنخر بلدها الحروب الأهلية، تفيد، أي بحسب ذ مجيد بودان، محامي في القانون الدولي بباريس، أن زمن "هذا النوع من الصفقات قد ولى".

و يقول الأستاذ بودان، في تصريح خاص لإيلاف، أن هذه المتابعة القضائية أكدت أن العدالة الفرنسية "استردت قوتها"، مضيفا أن مسألة اختباء "المسؤولين السياسيين وراء ما يسمى بسر الدفاع أو حرمة الدولة"، أصبحت العدالة ترفضه اليوم على حد قوله.

و ذكر رئيس جمعية المحامين في القانون الدولي بما حصل في بلدان أوروبية أخرى، سارت فيها العدالة على نفس السكة، كما حدث، قبل سنوات، في إيطاليا مع ماعرف "بالأيدي النظيفة".

و قال المحامي الدولي إن القضاء الفرنسي لعب دوره بشكل أساسي في هذه القضية، و هذا لا يمنع من أن تتحرك العدالة الدولية على جبهة ثانية بالتحقيق مع المسئولين في القضية من الأنغوليين، معتبرا أنه "في مثل هذه الدول تنتهي السلطة القضائية عند باب السلطة التنفيذية".

و يلح بودان على دور العدالة الدولية في مثل هذه الأوضاع، مشيرا إلى حالة بنعلي في تونس، حيث أوضح أنه لو كان هناك قضاء دولي ذو فاعلية، "لتجنبنا مجموعة من الكوارث كما حدث في تونس مع بنعلي"، و "لكانت تونس اليوم ضمن البلدان المتقدمة"، يقول هذا المحامي.

و لا يتفق مجيد بودان مع من يعتقدون أن "العدالة يجب أن تنتهي عند حدود كل سيادة بلد"، معتبرا إياها "نظرة خاطئة"، أول ما تعنيه "الإفلات من العقاب".و عدالة دولية من هذا النوع، يصفها ضيفنا "بالناقصة"، داعيا لأن "تطور أساليبها و آلياتها".
و رفع شعار سيادة الدول أمام أي تحرك للعدالة الدولية، يعني، بحسب ذ بودان، "الدفاع عن الديكتاتوريات"، معلقا على هذا الأمر بكونه "لعبة مكشوفة"، مادام تدخل من هذا النوع لمعاقبة حاكم بلد ما باستحضار مقتضيات القانون الدولي، فيه "حماية للشعوب من الديكتاتوريات"، يخلص مجيد بودان.

صورة فرنسا و محاولة تنقيتها
اعتبر الباحث و الأكاديمي الشرقاوي الروداني، في تصريح لإيلاف، أن هذه القضية "أصبحت لها علاقة بالصورة الأخلاقية لفرنسا و محاولتها تنقية صورتها داخل قارة، عبث رجل السياسة فيها بطريقة شنيعة..."، مشيرا في نفس الوقت إلى أن "الدولة كانت في وقت من الأوقات على اطلاع بمثل هذه الصفقات..."

و شخص هذا الباحث سر الصراع على التراب الأنغولي منذ الاستقلال و ظلال الحرب الباردة عليه، و التي أدت، بحسبه، إلى إفراز قوتين في البلاد ممثلتين في الاتحاد الوطني للاستقلال أنغولا (يونيتا) بقيادة جوناس سافيمبي، و تدعمها الولايات المتحدة الأميركية من جهة.

و من جهة ثانية الحركة الشعبية لتحرير أنغولا (حركة تحرير أنغولا) بقيادة خوسي ادوارد سانتوس، و يدعمها الاتحاد السوفياتي سابقا، و ما نتج عن ذلك من "فوضى كبيرة"، و"التطاحنات حول السلطة لم تنته حتى بعد سقوط المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي"، يفسر ذ الشرقاوي.

و يعتقد الشرقاوي الروداني أن هذه المحاكمة "أماطت اللثام في فرنسا عن العلاقة السرية بين رجل السياسة و رجال الأعمال المشبوهين"، و هي علاقة، يستطرد هذا الأكاديمي، "بخيوط متشابكة و من الصعب الوصول الى الحقيقة الكاملة..."