القذافي ديكتاتور نرجسي صدَّق دعايته الكاذبة عن نفسه

مات العقيد معمّر القذافي كما يموت الديكتاتور، موتًا دمويًا مهينًا، مجرورًا من أنبوب لمياه الصرف الصحي، لم يجد ملاذًا غيره يؤويه، ثم تحولت جثته إلى كتلة مضرّجة بالدم، تتبادلها أيادي حشد من المقاتلين المحتفين بموته.

إعداد عبد الاله مجيد: هكذا انتهت حياة معمّر محمد عبد السلام أبو منيار القذافي، زعيم ليبيا، التي قادها لأكثر من أربعين عامًا بأهوائه ومزاجه، راعي الإرهاب الدولي، روحاني الصحراء، النرجسي، الأضحوكة، الذي مرّ زمن كان فيه خبيرًا في البقاء في مواجهة العواصف من حوله، والكلب المسعور على حد وصف الرئيس الأميركي رونالد ريغان في حينه.

كان الأمر مختلفًا في أيلول/سبتمبر عام 1969 حين استولى الضابط الشاب على السلطة في انقلاب أبيض ضد الملك ادريس الذي نُصب على العرش بمباركة الانكليز عام 1951.

كان عدد سكان ليبيا لا يزيد على مليونين، وتخطت لتوها العربية السعودية بوصفها أكبر دولة نفطية في العالم العربي. وكان بمقدور الرائد القذافي، الذي رُقي إلى رتبة عقيد متواضعة بعد تسلمه مقاليد السلطة، أن يتعايش مع الغرب بشكل ما، ويبني مستقلاً زاهرًا لشعبه. ولكن الشاب، الذي ولد في خيمة بدوية قرب سرت قبل 69 عامًا، كانت لديه مشاريع أكبر من البقاء زعيمًا مغمورًا في بلد ينمو ويتطور بهدوء.

كان القذافي وقتذاك من الزعماء، الذين عُقدت عليهم آمال للثأر من ذلّ الهزيمة التي مني بها العرب في حرب الأيام الستة مع إسرائيل عام 1967. وأقدم الشاب الكاريزمي، الجريء المعجب بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر وأفكار القومية العربية، على طرد القواعد الأميركية والبريطانية في ليبيا، وانتزاع عائدات أكبر من شركات النفط الغربية، وأعلن دعمه القضية الفلسطينية.

لكن صفته الأكثر ديمومة، وهي قدرته على استعداء الآخرين واستفزازهم، ظلت الأقوى متسببة بالتفريط، بما حققه من رصيد شعبي وعربي بعد العزلة الدولية التي انزلقت إليها ليبيا في عهده، فأصبحت دولة منبوذة على هامش السياسة الدولية، لا تُعرَف إلا بما يمكن أن تلحقه من أذى بين حين وآخر.

ورغم أن القذافي كان زعيم نظام قمعي غاشم، يقتل وينهب ويسجن كما يحلو له، ويغتال الخصوم أينما كانوا، فإنه كان ديكتاتورًا من النمط المثير للسخرية أيضًا بعباءاته الغريبة وبدلاته العسكرية الفاقعة ونظاراته الشمسية العاكسة وحرسه الخاص من النساء ومواقفه الكوميدية وتصريحاته المثيرة للسخرية.

أعلن القذافي في نيويورك عام 2008 أن ليبيا هي الديمقراطية الوحيدة على كوكب الأرض. وقال في مناسبة أخرى إنه زعيم دولي "وعميد الحكام العرب، وملك ملوك أفريقيا وإمام المسلمين"، وإن مكانته الدولية لا تسمح له بالهبوط عن هذا المستوى.

وزعم القذافي أن لديه نظرية فلسفة سياسية صبّ أفكارها في الكتاب الأخضر، مستعيرًا تسميته من كتاب ماو الأحمر. ويصف المعلق نيل تويدي في صحيفة الديلي تلغراف فلسفة القذافي في الكتاب الأخضر بأنها "خليط مفكك من الأفكار الاشتراكية والإسلامية، ترفض الديمقراطية الليبرالية لمصلحة "الديمقراطية المباشرة"، التي تُمارس من خلال لجان شعبية".

وكان من شروطها ملكية الدولة لوسائل الإعلام، فأنتجت إعلامًا صاغرًا، مهمته التطبيل والتزمير لطغمة غارقة في هدر ثروات البلد وسرقتها. وشفط أفراد أسرة القذافي وحلفاؤهم مئات الملايين من عائدات النفط، التي أودعوها في حسابات مصرفية، وعقارات في أرقى أحياء المدن الأوروبية، وأسهمًا في أندية كروية، مثل يوفينتوس الإيطالي. وابتاع القذافي طائرة كبيرة من طراز أي 340 مزودة بجاكوزي لاستعماله الشخصي.

وإذ أُعجب القذافي بالعناوين والدعاية التي تحققها عمليات خطف الطائرات أصبح راعيًا للإرهاب الدولي. فاستقبل المسؤول العسكري لمنظمة الجيش الجمهوري الإيرلندي في عام 1972، وبعد عام ضُبطت شحنة من الأسلحة الليبية إلى المنظمة. وفي العام نفسه حاول إغراق السفينة اليزابيث الثانية. ولاقى الإرهابي الأسوأ صيتًا في العالم كارلوس ابن آوى استقبال الأبطال في طرابلس، بعد عملية خطف وزراء الأوبك في فيينا عام 1975. وطيلة هذا الوقت كانت أجهزة القذافي تلاحق المعارضين بالتصفيات الجسدية في أنحاء العالم.

وبدأ القذافي عازمًا على الاصطدام مع الغرب. وبإيعاز منه فُجّر أحد الأندية الليلية التي يرتادها جنود أميركيون في برلين عام 1986. وإذ شجب الرئيس رونالد ريغان الزعيم الليبي بوصفه "كلبًا مسعورًا"، أمر الطائرات الأميركية بقصف مقرّه في مجمع باب العزيزية. وجاء الرد بتفجير طائرة بان آم فوق قرية لوكربي الإسكتلندية في أواخر عام 1988، ومقتل 259 شخصًا على متن الطائرة، و11 شخصًا على الأرض. وبهذا الهجوم اكتملت صفة ليبيا القذافي كدولة منبوذة.

طوال هذه الفترة، كان الشعب الليبي يدفع ثمن حماقات الزعيم. وقُتل آلاف الليبيين خلال التدخل في تشاد، وكلفت مجزرة سجن أبو سليم في طرابلس وحدها 1200 قتيل في عام 1996. وعُثر أخيرًا على مقبرة جماعة تضم رفات الضحايا.

وكان القذافي هدف محاولات اغتيال عديدة. وفي التسعينات، واجه معارضة متنامية من جماعات إسلامية متطرفة، وخاصة الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، التي كادت تنجح في قتله عام 1996. وبدأ القذافي يتبادل المعلومات الاستخباراتية مع الاستخبارات البريطانية والأميركية. وفي عام 1998 أصدر أول مذكرة إلقاء قبض على أسامة بن لادن.

وإذ أعاد القذافي رسم سياسته تجاه الغرب، وافق على تسليم المتهمين الرئيسين في حادثة تفجير لوكربي. وأُفرج عن أحدهما، فيما أُدين الآخر عبد الباسط المقرحي بالسجن مدى الحياة. في المقابل قررت الأمم المتحدة تجميد العقوبات المفروضة على ليبيا. وفي عام 2003 اعترف النظام الليبي رسميًا بالمسؤولية عن لوكربي.

وتكلل التقارب مع الغرب في عام 2004 بزيارة رئيس الوزراء البريطاني وقتذاك توني بلير، الذي أشاد بالقذافي حليفًا جديدًا في الحرب على الإرهاب، كما يلاحظ نيل تويدي في صحيفة الديلي تلغراف. وتوسط بلير خلال الزيارة لمصلحة شركة شل، التي ضمنت صفقة نفطية مع النظام الليبي قيمتها 500 مليون دولار.

وحذت الولايات المتحدة حذو بريطانيا، فأعادت العلاقات الدبلوماسية مع طرابلس، ورفعت اسم ليبيا من قائمة الدول الراعية للإرهاب. ووافق القذافي على إنهاء برنامجه لإنتاج أسلحة دمار شامل، وبذلك اكتملت إعادة ليبيا إلى أسرة المجتمع الدولي. وكانت ذروة رد الاعتبار للنظام الليبي انتخابه عضوًا في مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 2009.

لكن شهر العسل كان قصيرًا. فإن بطش القذافي بالنسخة الليبية من الربيع العربي بدد أي أوهام عن هذا الديكتاتور. وحين انهار نظامه رفض الرحيل لقضاء حياة هانئة في المنفى. ولولا نرجسيته ولاعقلانيته لرأى النهاية المحتومة، وتوجه فورًا إلى طائرته المزودة بالجاكوزي تنقله إلى مكان آمن.

كان القذافي يصدق دعايته هو عن نفسه ودفع الثمن بحياته.