هكذا جمع القذافي وأبناؤه والمقربون منهم ثروتهم الهائلة

وفقًا لإحدى وثائق وزارة الخارجية الأميركية فإن النظام الليبي "عبارة عن فساد مستفحل وشبكة للسرقة الحكومية لصالح أفراد أسرة القذافي و/أو حلفائهم المقربين الذين يسيطرون على كل ما يتعلق بالبيع والشراء والتملك في كل ما يخص البلاد".

في 2009 جمع كبار مساعدي العقيد القذافي 15 من مدراء شركات النفط الدولية العاملة في ليبيا، وأصدروا اليهم أمرًا غير عادي: أن يتحملوا فاتورة التعويضات المطلوبة من النظام إزاء حادثة تفجير طائرة "بان آم" الأميركية في سماء لوكربي الاسكتلندية وأعمال إرهابية أخرى.

ووفقًا لتقارير وزارة الخارجية الأميركية وشهادات عدد من كبار العاملين في مجال الصناعات النفطية، فقد حذر اولئك المساعدون المدراء من ان امتناعهم عن الانصياع للأمر سيعود عليهم بـ"عواقب وخيمة" تتعلق بعقود شركاتهم وأنشطتها على الأراضي الليبية.

وامتنعت شركات كبيرة الامتثال للأمر قائلة إن هذا مرفوض من حيث المبدأ وإن تعويضات الضحايا من شأن الحكومة الليبية وحدها لأنها هي المسؤولة عن أعمالها. لكن بعضها الآخر - بما فيها شركات أميركية - أذعنت للطلب الغريب في ما يمكن اعتباره "رشوة" للنظام من أجل الاستمرار في عملها.

وهذه الحادثة وحوادث أخرى عديدة مشابهة، كما تقول "نيويورك تايمز"، "تعكس ثقافة حكومية دعاماتها الفساد والرشاوى ولي الأذرع والرعاية والوصاية السياسية منذ أن أعادت الولايات المتحدة وبريطانيا ليبيا الى الحظيرة الدولية في 2004".

شبكة للسرقة الحكومية

وجدت الشركات الدولية التي بدأت تعمل في ليبيا في مجالات النفط والاتصالات وغيرها أن العقيد القذافي و/أو المقربين منه يسعون بشكل محموم لجمع ملايين الدولارات عبر توقيع العطاءات والعقود الاستشارية بحصص هائلة للزعيم الليبي وأفراد اسرته وخاصة أبناءه.

وتقول إحدى وثائق وزارة الخارجية الأميركية التي يعود تاريخها الى العام 2009 إن النظام الليبي "عبارة عن فساد مستفحل وشبكة للسرقة الحكومية لصالح أفراد أسرة القذافي و/أو حلفائهم المقربين الذين يسيطرون على كل ما يتعلق بالبيع والشراء والتملك في كل ما يخص البلاد".

وطبيعي أن الثروات التي حصل عليها القذافي عبر الشركات الدولية العاملة في بلاده منذ رفع الحظر الاقتصادي عليها في 2004 هيأت له إحكام السيطرة على زمام السلطة والأمور كافة. ويقول مسؤولون غربيون إن السيولة النقدية من عشرات مليارات الدولارات التي جمعها هي التي أتاحت له صرف رواتب الجنود وشراء الولاءات واستئجار المرتزقة بما يمكّنه من تأجيل مفعول الحملة العسكرية الدولية الحالية على نظامه إن لم يكن إبطاله.

أرباح من إيران

لا يقتصر الاستغلال على الشركات الأجنبية وحدها وإنما يتعداه الى الحكومات الراغبة في التعاون مع نظام القذافي. وتورد برقيات الدبلوماسيين الأميركيين التي سربها موقع "ويكيليكس"، على سبيل المثال، أن البنوك الليبية حققت أرباحا هائلة من مساعدتها ايران على غسل أموالها من أجل تجاوزها العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها.

ومنذ تسوية القذافي كارثة لوكربي وتخليها المعلن عن برنامجها النووي وما أثمرا عنه من رفع العقوبات الدولية عليها، سارعت شركات أميركية كبرى عديدة للحصول على موطئ قدم لها في ليبيا. ومن هذه "بوينغ" و"كونوكو فيليبس" و"كاتربيلار" و"هاليبيرتون" و"اوكسيدنتال بتروليام". ونتيجة لهذا صار المال يتدفق على ليبيا بحيث أن بيرنارد ميدوف، أكبر لص في التاريخ، اتصل بهيئة الاستثمار الليبية، التي تتمتع بأكثر من 70 مليار دولار، عارضًا عليها استثماره قسمًا كبيرًا من هذه الأموال نيابة عنها، لكنها رفضت العرض لحسن حظها.

القذافي بشخصه...

تقول الخارجية الأميركية إن للقذافي ضلعا شخصيا في العديد من القرارات التجارية. فقد عمل بشاط مع "مجالس الرقابة" المكلفة عقد الصفقات مع الشركات الأجنبية، وظل يصر على التوقيع بنفسه على كل صفقة تصل الى 200 مليون دولار فما فوق. وتضيف أنه "تعلم كيفية إخفاء أمواله واستثماراته في حال تجدد فرض العقوبات الدولية عليه مثلما حدث أخيرًا".

ويقول أحد آل السنوسي، من العائلة الملكة السابقة والمطلع على تعاملات العقيد وأفراد أسرته التجارية، إنهم أنشأوا شبكة من الحسابات المصرفية حول العالم بأسماء أفراد من القبائل التي ظلت موالية لهم. وقد أتاحت هذه الأموال، التي جمّدت الحكومات الغربية قسمًا كبيرًا منها الآن، لآل القذافي حياة بذخ تشمل الدور الفاخرة في الشرق والغرب والاستثمارات في صناعة السينما بهوليوود والحفلات الخاصة التي يُستضاف فيها نجوم الغناء والشاشة الأميركيون.

... والأبناء أيضا

في الأغلب، عندما لا يتعامل القذافي شخصيا مع صفقة ما فإن أحد أبنائه، الذين عيّنهم أوصياء على اقتصاد البلاد، هو الذي يقوم مقامه. ويقول دانيال كارسون، وهو مدير تنفيذي في شركة "كرول" العاملة في مجال الاستشارات التجارية، إن مؤسسة للاتصالات الدولية كان يمثلها حاولت دخول السوق الليبية في 2007. ومنذ الوهلة الأولى أوضح المسؤولون الليبيون بجلاء أن الشرط الرئيسي هو أن يكون للمؤسسة شريك ليبي هو محمد القذافي أكبر أبناء العقيد.

ويضيف كارسون أن النصيحة التي قدمتها شركته لهذه المؤسسة هو قبول ذلك الشرط "لأن الصفقات في ليبيا لا تتم إلا عبر بوابة آل القذافي ولا علاقة لها بنوع الخدمات المقدمة أو جودة نوعيتها أو كونها رخيصة مقارنة مع الجهات المنافسة الأخرى. لكن النصيحة رُفضت لأن هذه الثقافة أخافت القائمين على أمر المؤسسة فقررت ألا تستثمر أموالها في ليبيا".

"كوكا كولا" وغيرها

من جهتها وجدت "كوكا كولا" أنها فريسة لمعركة حامية بين محمد القذافي وأخيه معتصم على السيطرة على مصنع للتعبئة افتتحته في 2005. وتبعًا لبرقيات دبلوماسية مسربة على "ويكيليكس" فقد أدت هذه المعركة التجارية الى مواجهات مسلحة أدت بدورها الى إغلاق المصنع بضعة أشهر.

وتقول برقيات أخرى إنه في العام 2009 كانت شركة "كاتربيلار" على وشك إتمام صفقة مربحة تقوم بموجبها بتوفير لوازم البنية التحتية قي ليبيا. فاشترطت السلطات أن تدخل في شراكة مع مؤسسة حكومية يسيطر عليها آل القذافي. ورفضت كاتربيلار هذا الشرط فقيل لها إن هذه هي السبيل الوحيدة للتوقيع على عقد معها. وتدخل دبلوماسيون أميركين في مسعى لإيجاد حل وسط لكنهم فشلوا، وهكذا فقدت الشركة الأميركية صفقتها.

وفي 2008 اضطرت "أوكسيدنتال بتروليام"، التي تتخذ مقرها في كاليفورنيا، لدفع مليار دولار إضافية في شكل "علاوة توقيع عقد" مع نظام القذافي فترته 30 عاما. وقال ناطق باسم الشركة إن هذه "علاوات التوقيع" هذه أمرا شبه مألوف في ليبيا.

والعام الماضي حدث الشيء نفسه مع شركة "بترو - كندا"، فدفعت مليار دولار مقابل عقد لفترة مماثلة. ومن أجل إتمام الصفقة اضطرت هذه الشركة - وفقا لصحيفة "غلوب آند ميل" الكندية - للاستعانة بجاك رتشارد وهو رجل أعمال مقرب من آل القذافي. واضطرت ايضًا لمغازلة سيف الإسلام فموّلت معرضًا للوحاته الفنية (العديمة القيمة الفنية تبعا للنقاد الكنديين) بعدما رفض عدد من الغاليريهات والمتاحف استقبالها. وكان التمويل مشتركا مع "إس إن سي - لافيلين" وهي شركة فازت أيضا بعقد قيمته مليار دولار في ليبيا. وعرفانا لهذا موّلت الشركة ناديا لكرة القدم يلعب له سعدي القذافي (يقال إنه بيروجيا الإيطالي).

وفي النرويج، أجبر اثنان من كبار المسؤولين في شركة النفط الحكومية على تقديم استقالتيهما في 2007 وخضعا لتحقيق سلطات مكافحة الاحتيال الخطير بعدما رفع النقاب عن انهما دفعا ما مجموعه أكثر من 7 مليارات دولار من أموال الشركة في "اتفاقات استشارية غير مشروعة مع النظام الليبي".

"صفقة مع الشيطان"

يعود خوان زاراتي، الذي كان مسؤولا رفيع المستوى بوزارة الخزانة الأميركية في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، الى القرار المتخذ في 2004 بإعادة ليبيا الى الحظيرة الاقتصادية الدولية. ويقول إن القرار كان يستند الى أن المنافع وراءه أكبر من الأضرار. ويضيف قوله: "لكن الأمر أثبت انه صفقة مع الشيطان". ويمضي قائلا: "كان الأمل هو التطبيع سيقنع القذافي بالتخلي عن دور الكلب المسعور في الشرق الأوسط وأن يقبل بدور الشريك. لكن الطبع يغلب التطبع".