المرأة العراقية تفتقد المكحلة الشعبية وتعاود تأهيلها بعد غياب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
رغم التقنيات الحديثة في التجميل التي أضفت على معظم عيون الجميلات سمات مشتركة، إلا أن الكحل الشعبي في الدول العربية، ومنها العراق، مازالت تمثل الحدّ الفاصل بين المسحة الطبيعية والاصطناعية في جمالية العيون.
بغداد: المرأة الشرقية، ولاسيما العربية، ذات أهداب طويلة شديدة السواد، تحرص على العيون الواسعة الكبيرة التي غالباً ما يصفها الشعراء وأصحاب الخيال بأنها عيون المها.
هذه العيون وجمال رموشها ترتبط بعادة اجتماعية، وراءها الكثير من أسرار صناعة الجمال، وهي صناعة الكحل والتزين به، الذي أصبح سمة من سمات العيون العربية، التي يمنحها الكحل المزيد من السواد الجميل الذي يميزها عن العيون الأوروبية على سبيل المثال، والتي تمتاز بصغرها وتلاشيها قياسًا إلى الملامح العربية، حيث تمتاز العيون العربية بأنها بارزة في حورها ودورانها، إضافة إلى دقة تفاصيلها.
وعلى رغم التقنيات الحديثة في التجميل التي أضفت علىمعظم عيون الجميلات سمات مشتركة، إلا أن الكحل الشعبي في الدول العربية، ومنها العراق، مازالت تمثل الحد الفاصل بين المسحة الطبيعية والاصطناعية في جمالية العيون. وعلى عكس أساليب صالونات التجميل الحديثة وأساليبها، تظل المكحلة اليدوية التقليدية الوسيلة الأنجع لإضفاء جمال طبيعي للعيون.
ومازالت المرأة العراقية تضع الكحل الطبيعي في القرى والمدن على حد سواء.
صناعة متوارثة
تقول صانعة الكحل علياء الجبوري، إن الكحلة الشعبية صناعة متوارثة تعلمتها من جدتها، وما زالت تمارسها إلى الآن.
وتضيف علياء إن ما يميز الكحلة الشعبية أن موادها طبيعية لا تؤثر في سلامة العين، وما زالت تبيعها في البيت للزبائنـ كما تجهز بعض الدكاكين فيه، والتيمعظم زبائنها من أبناء الريف والقرى المجاورة.
وما يبعث على الارتياح- بحسب علياء- أن بنات المدن والطالبات الجامعيات بدأن يهجرن التقنيات الحديثة، بعدما أدركن الفائدة الصحية للكحل الشعبي الطبيعي، والذي يقي العين من الأمراض. وتقسم علياء الكحل إلى مجموعتين، هما الكحلة الزيتية والكحلة المعدنية.
وتقول الحاجة أم حيدر عن أنواع الكحلة الشعبية إن هناك نوعًا يسمى كحلة البقر (الهوش) ويجهز من (السخام) المتطاير من الفتائل، حيث يجمع في إناء توضع فوقه (زبده بقر)، فبعد أن يتم احتراق الزبدة يوضع في المكاحل.
الحاجة أم غانم تقول: "توارثناهذه المهنة من أمهاتنا وجداتنا، وقد اعتدنا على رسم عيوننا بالكحل، لكنه "كحل" من نتاج أيدينا". وتسترسل أم غانم حول أسرار صناعة الكحل: "كان العراقيون حين يحجّون إلى مكة المكرمة يجلبون لنا حجر يسمى "الاثمد"، يوضع على الجمر حتى يتفجر ويتناثر منه الحصى الناعم الذي ننقعه في خليط من الماء وحبات القهوة العربية، ونتركه لمده أربعين يومًا، ثم نضعه في صحن على النار، ونفكك حباته، ليتحول إلى مسحوق، ثم ننخله في منخل ناعم جدًا، وبعد ذلك نعبئه في المكحلة المصنوعة من مادة "الصفر والفافون".
كحلة الشحم
أم غفران، وهي معلمة، تقول "تستعمل المرأة العراقية في الريف والمدينة (كحلة الشحم)". وتصف أم غفران طريقة عملها: يؤخذ قسم من شحم البقر، ويستخلص منه الزيت، ويوضع في إناء صغير، تثبت فيه فتيله قطنية تتمايل فوق النار، فتتجمع طبقات من السخام على جدرانها حيث تجمع في المكاحل.
وفي الثقافة الشعبية العراقية غالباً ما تردد النساء في أوقات الأفراح وجلسات رسم الكحل الأغنية الآتية: "يالمسافرت لبعيد.. أوصيكن كحلة شحم وياك..وده الله يطيك".
وتمتاز النساء البدويات في العراق بعيونهن الصافية ورموشهن الكثيفة، بل إن الطاعنات منهن في السنّ لا يعانين فيمعظم الأحيان من قصر النظر، بسبب طريقة تكحيل العيون، كما يؤكد المتطبب الشعبي أبو سرحان، وهو رجل معروف في محافظة بابل في وسط العراق، تخصص في إزالة الأوساخ والمواد الدقيقة الضارة التي تستقر في العيون.
أسرار المهنة
توضح أم علي، وهي من أصل بدوي، وسكنت المدينة منذ عقدين أن ثمة مقادير مناسبة لصناعة محل صحي، وتضيف: "لا يمكن أن أبوح لكم بأسرار المهنة". لكن: "نأتي بحجر اسود وحب نبات رشاد محروق ومطحون ونضع معه حبه سوداء، ومادة أخرى لا يمكنني البوح بها لصناعة أجود أنواع الكحل".
وتضيف: "هناك أيضًا كحلة (جوهر)، حيث تؤخذ أجزاء من كحل (المحة) والشب والجوهر (أي الصبغ الأحمر) ويدق المخلوط في الهاون ويسقى في ماء "الكزبرة" حتى يبدأ بالجفاف تدريجيًا، وتستمر العملية ثلاثة أيام، وبعدها يكون الكحل جاهزًا للاستعمال".
ماء الورد والزعفران
وتصنف رسامة الكحل أم حسان طريقة أخرى لتهيئة المكحلة: "يوضع الحجر (الاثمد) في إناء يشبه الحوض، ونوضع معه ماء الورد ومعه الزعفران، ونتركه لمده ستين يومًا حتى يلين الحجر، ثم نخرجه بعد ذلك، ونقوم بطحنه حتى يصبح ناعماً جدًا، ثم نقوم بنخله حتى نتخلص من المواد العالقة به، ونكرر ذلك مرات عدة، حتى يصبح جاهزًا للاستعمال".
كحلة مكة
في أرياف العراق، ثمة كحل يسمى "كحلة مكة"، حيث يؤخذ حجر مكة، ويلف بقطعه قماش (ململ) مع اثنين من (نومي بصرة)، وتلقى اللفافة في قعر الحبل بضعة أيام، حتى يبرد، وتذهب حرارته، ثم يخرج وتعرض محتوياته إلى الشمس لتجف، وبعد ذلك تطحن وتكون جاهزة للاستعمال.
وتلمح بين أطفال العراق في الريف على وجه الخصوص أطفالاً يجمل الكحل عيونهم، ليضيف عليها جمالاً وهيبة. كما يكحل العراقيون مواليدهم أيضًا لحظة ولادتهم لغرض جعل رموش عيونه سوداء قاتمة، كما تصبغ الحواجب الصبغة السوداء أيضًا لتقوية شعر الحاجب ورموش العين.
تقول ساجدة الموسوي، وهي ناشطة نسائية وخبيرة في فولكلور المرأة في مدينة الديوانية في جنوب العراق: "تستعمل الأمهات المكحلة لعيني الطفل لإبعاد "عين الحسد" عنه، وهذا النوع من التكحيل يطلق عليه (كحله الهرش)".
وتضيف: "يشكو البعض من مرض الجفون أو ألم في العين، وينصح من أجل ذلك الكحل، لأنه يعمل على تصفية العين من الشوائب، إضافة إلى أهداف جمالية، وتتمثل في تكبير العيون الغائرة أو العيون الصغيرة التي تفتقر الرموش الطويلة".
وعلى الرغم من أن مستحضرات التجميل الحديثة، التي تدخل في صناعتها المواد الكيمياوية، قد استحوذت على اهتمام حسناوات العراق، إلا أن هناك رد فعل داخل المجتمع بضروة العودة إلى الطبيعة في اختيار مواد التجميل، لاسيما وأنمعظم المنتجات المستوردة في السوق، ذات مناشىء لا توحي بالثقة، في ظل غياب الرقابة الصحية وقوانين السيطرة النوعية، فلا عجب أن تجد من العراقيات اليوم من تعزف عن شرائها، وتتجه بدلاً من ذلك إلى مواد التجميل الشعبية.