أخبار

غازي القصيبي... موسوعة "الإنسانية" والإدارة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

كشف عضو مجلس الشورى الدكتور حمد القاضي لـ"إيلاف" جوانب عديدة من حياة الراحل الكبير غازي القصيبي، خصوصًا في مجالات إنسانية يجهلها كثيرون من المجتمع السعودي تحديدًا، إضافة إلى جوانب إضافية خافية في حياته الإدارية /الإنسانية في كيان واحد، فمن تبرعاته وحتى دموعه التي كانت محطة لا بد أن تنشر عن الأسطورة القصيبي.

عام على رحيل الكبير... غازي القصيبي

عبدالله آل هيضه من الرياض: غازي يعرفه الكثيرون في صولاته بين مقاعد الوزارات وبين دفتي الكتب، والسفارة كذلك، لكن غازي القصيبي لديه جانب مظلم بفعله، يطغى على كل جوانب أخرى، كيف لا وهو موسوعة في الإنسانية والحياة.

في حديث ينشر للمرة الأولى، كشف عضو مجلس الشورى السعودي الدكتور حمد القاضي لـ"إيلاف" والحزن في تقاسيم صوته، بعضًا من جوانب غازي القصيبي الإنسانية، هذا البعض يعرفه من حوله، لكن بلا شك أنه يخفي الكثير، رحل ولم يعرف عنه أحد، لكن الأرض والتاريخ شاهدان عليها. رجل بمسؤوليات عدة، صنع عيدًا للإنسانية، كان أولى بحق أن يسمّى عيدها غازي القصيبي..

يقول القاضي في حديث ممتع عن غازي، وهو مرافق شبه دائم في أمسيات ولقاءات غازي القصيبي، إن الجانب الإنساني هو أهم سمات شخصيته، بل هو مفتاحها. غازي القصيبي "إنسان" بكل دلالات هذه المفردة وحمولاتها، إنه رغم كل ما أحاط به من شهرة وتولي الكثير من المناصب وصعود المنابر متحدثاً أو محاضراً أو حاصداً للجوائز بقي إنساناً لم يتبدل أو يتغير.

لا يحب النشر والظهور..
يضيف أن غازي لم تشغله كل هذه الأضواء والمناصب والألقاب عن رسالته في الحياة بوصفه "إنساناً"، هذا الجانب لا يُعرف عنه كثيراً، كما عرف عنه كونه وزيراً ومثقفاً وسفيراً، معللاً السبب في أن هذا الجانب يرجع إلى الدكتور الراحل غازي القصيبي نفسه، فهو لا يحب أن يظهر أو يذاع أو ينشر عنه.

القاضي يضيف أنه عجيب أمر إخفائه أعماله الخيرية، فهو لا يكتفي بعدم النشر أو الإشارة إلى شيء من ذلك، بل يوصي من يصل إليه عمل خيري منه ألا ينشر أو يشير إلى ذلك، ونقل القاضي نقلاً عن "إمام جامع المزروعية" في الأحساء عبدالمحسن النعيم: إنه كتب له يطلب منه الإسهام في ترميم الجامع، فبعث إليه ثلاثين ألف ريال، مع الإشارة إلى عدم نشر شيء من ذلك. غازي القصيبي هُويته الإنسان وتماهي الحسّ الإنساني والخيري في أعماله ومناصبه ومراكزه كافة وفي تفاصيل حياته كلها.

القصيبي... الإداري الإنسان
قال القاضي إنه كان من المنهجية العملية للقصيبي أنه عندما يأتي إلى أي عمل فإن أول ما يحاربه البيروقراطية، فيعطي الصلاحيات

القصيبي بين أفراد عائلته

لمن تحته، ويكون دوره الإشراف والتخطيط والمتابعة، وكان أسلوبه بالمتابعة مبتكراً، فهو يطلب تزويده بصورة من أي خطاب يصدر ليكون لديه تصور عمّا يتم، ولكي يحاسب أي مسؤول عنده، فلا يصدر أي قرار إلا بعد تأنٍّ لأنه يعرف أن الوزير سيطلع عليه.

يضيء القاضي على جانب آخر من حياة القصيبي، فهو مع ما يعرف عنه من حزم وقوة... حريص على إعطاء الحوافز لمن يعملون معه، سواء كانت مادية أو معنوية، وهذا ما يبثّ الحراك في الجهة التي يرأسها، وفق حديث القاضي.

القاضي روى قصة "إدارية" حصلت له شخصيًا، دلالتها وختامها وطني إنساني، وهي تجمع بين حزم القصيبي في احتفاظه بالقدرات لديه، وفي الوقت عينه حفزهم وتشجيعهم، فضلاً عن أن في هذه الحكاية جانباً طريفاً، وهو أمر اشتهر به سواء في أحاديثه أو بعض رواياته، رغم الجدية التي هي نهج حياته وسلوكه، هذه الواقعة عندما كان وزيراً للصحة، إذ طلب مني - والحديث للقاضي- صديق وطبيب فاضل وكان يعمل في مجمع الرياض الطبي الشفاعة لدى معاليه لينتقل إلى وزارة الدفاع ببرنامج المستشفى العسكري من أجل إتاحة فرصة الابتعاث المتاحة هناك.

"فكتبت لمعاليه رسالة شفاعة شخصية، وبالطبع لابد أن أثني على هذا الطبيب، حيث أشرت إلى أخلاقه وقدرته الإدارية إلخ.. وبعثت الخطاب، وبعد يومين جاءني الرد من معاليه معقباً على خطابي ويقول "أخي: ما دام د/ فلان بهذه الصفات فكيف تريدني أن أوافق على نقله". لكن القصيبي عوّض هذا الطبيب بمنصب ورقّاه إلى مرتبة أعلى لاحقًا.

الزيارات المفاجئة ... ووزارة المياه
اشتهر عن غازي القصيبي مبادرته بما يسمّى بالزيارات المفاجئة، كأول وزير سعودي يبادر إلى ذلك، ويبني قراراته من خلالها، الدكتور حمد القاضي كشف منها عددًا من الجوانب، خصوصًا في إبان توليه منصب وزارة الصحة، وقال القاضي "أذكر له موقفاً رواه لي سكرتيره في وزارة الصحة، فقد زار الدكتور غازي المستشفى العام في إحدى المحافظات، وعندما وصل إلى المستشفى تفاجأ مدير المستشفى بدخول الوزير عليه، وعندما جلس لديه طلب أن يذهب إلى دورة المياه الملحقة بمكتب المدير..


القصيبي عاملاً في أحد المطاعم

ثم عاد وبدأ الجولة، وأول ما زاره هو دورة المياه الخاصة بغرفة أول مريض؛ فوجدها على وضع مزر من النظافة والإهمال، وكان للتو رأى دورة المياه الخاصة بالمدير، وإذا هي في غاية النظافة والصيانة، ثم استمر في الجولة، وعندما عاد من الجولة بدأ حديثه مع المدير، وبدأ بالمقارنة بين الحمامين وقسا في حديثه مع المدير.. وعندما عاد إلى مكتبه كان أول قرار هو تغيير هذا المدير ونقله إلى عمل آخر.

أما في وزارة المياه، فيعرف التحدي الذي سيواجهه عند تولي وزارة مياه في بلاد لا أنهار تجري فيها ولا أمطار. ومطلوب أن تخدم وزارة المياه ملايين المواطنين والمقيمين الذي يزدادون تماماً عاماً بعد عام، ولهذا كان همه خيار الترشيد، ومحاربة ثقافة الإسراف.. وأعلن مقولته الشهيرة "إننا بوصفنا بلداً شحيح المياه أمطاراً وأنهاراً، فإنه يجب أن تكون لدينا حالة طوارئ دائمة لإبقاء شيء من المياه للأجيال المقبلة".

تطرق القاضي إلى موقف طريف مع القصيبي، حيث قال "كتبت مقالاً عندما جاء غازي من لندن التي خرج منها خائفاً يترقب، وذلك بعد صدور الأمر الملكي بتعيينه وزيراً للمياه، وقلت في المقال: لا تحزن على المياه وتوفرها، فصاحبك الشاعر أعطاك الحل، فلن تلجأ إلى حفر آبار أو إقامة محطات تحلية، حيث يقول أحد أصحابك الشعراء مخاطباً وواصفاً حبيبته:
ولو تفلت في البحر والبحر مالح .... لأضحى أجاج البحر من رقها حلو
يقول القاضي إن القصيبي هاتفه في اليوم نفسه الذي نشر فيه المقال شاكراً، وسائلاً بسخريته وهو يضحك "هات هذه الحبيبة - يا حمد - فإن كانت من الصحراء نوظفها أو من أوروبا فنتعاقد معها".

غازي... وحرب البطالة
بقي في الجانب الإداري محطة العمل، إذا يقول القاضي إن هذه فعلاً هي أصعب محطات العمل التي مرّ بها، وهو حقق فيها الكثير من النجاح وفق حديثه، "لكن لم يحقق فيها كل ما يطمح إليه وتطمح إليه القيادة في تحقيق الهدف الأسمى في توظيف الشباب السعودي والقضاء على البطالة"، وأشار القاضي إلى أن القصيبي "معذور"، فهذا الهدف مرتبط برجال الأعمال الذي يريد أكثرهم عمالة بأقل السعر من دون النظر إلى واجبهم الوطني نحو شباب وطنهم وبأن ما نالهم من خير هو من خير هذا الوطن.

القصيبي كان حلمه سعودة الوظائف

القصيبي بذل واجتهد وزار وحثّ وتحدث، بل وعمل نادلاً، لتحقيق هذا الهدف السامي، لكن لم تأت رياح الإنجاز كما تريد سفن رجال الأعمال. لكن حسبه أن رسخ ثقافة خطورة البطالة وقيمة العمل، وجعل المجتمع كله يحسّ بضرورة توظيف الشباب السعودي.

القاضي رأى أن القصيبي تعب من هذا العمل، بل وأرهقه، ليس جسدياً، بل أتعبه نفسًيا، والحديث للقاضي، حيث قال "ولا أنسى هذه العبارة التي تشي بأنه يرى أن العمل مسؤولية وهمّ وتكليف، والتي ختم بها رسالة حميمية بعث بها إليّ عام 2008، وكان يشكو فيها من تحديات هذه الوزارة وعدم تجاوب بعض الأعمال.. لقد قال في نهاية هذه الرسالة عبارة تنبئ عن ألم شديد يسكن وديان نفسي يقول فيها غازي: "إنني أحسّ أيها الصديق أن كل يوم يمضي عليّ في هذا العمل يستنزف حياتي وسعادتي".

غازي "الإنسان" في عمله الإداري
يقول عضو الشورى الدكتور حمد القاضي عن القصيبي إن هذا الرجل الذي طالما سمعنا وقرأنا عن قراراته القوية عندما يرى خطأ أو يصدر قراراً من أجل مصلحة العمل والوطن. لكن هذا الجانب الإداري الحازم يقابله جانب إداري تؤطره الرحمة، بل ويغلب عليه الضعف أحياناً.. وبخاصة تجاه فئة من الناس، كالمرضى والمحتاجين أو من هم أقل منه مركزاً إدارياً أو مالياً.

القاضي قال نقلاً عن لي صديق القصيبي نائب وزير العمل السابق الدكتور عبدالواحد الحميد مواقف مؤثرة تتخضّب بالوهج الإنساني، سواء مع المراجعين أو مع الموظفين وصغارهم تحديداً، فمع المراجعين فإن هذا الرجل القوي يضعف عندما يأتيه رجل كبير في السن أو أي شخص تبدو عليه سيماء الضعف، فتجده يوافق على ما يطلبه من تأشيرة أو غيرها من دون أن يتأكد من حاجة هذا الشخص لما طلبه فهو يغلب جانب الصدق في طالب الخدمة وجانب الرحمة في قلبه كمسؤول.

أما مع الموظفين فهو رغم مسؤولياته يتفقد أحوالهم وأحوال أسرهم، ويعايد كل موظف ببطاقة عليها توقيعه، بل إنه يرى أن الجانب الإنساني في حياة من يعمل لديه فوق النظام أو بالأحرى يطوّع مرونة النظام لمراعاة المنحى الإنساني.

الهاجس الإنساني في وزارة الصحة..
القاضي في سياق نشره لملفات غازي الإنسانية والإدارية قال: أذكر عندما تولى غازي القصيبي وزارة الصحة كتبت في مقال لي إن قائل هذا البيت:

غازي يقدم الطلبات للزبائن

وإن سهرت مقلة في الظلام .......... رأيت المروءة أن اسهرا
هو من تنطبق عليه مواصفات من سيكون وزيراً للصحة، فهذا العمل يتعامل مع المرضى ومع الناس في حالات ضعفهم ومرضهم. وأشار الدكتور حمد في وزارة الصحة تحديداً أعطى غازي كل وقته وجهده، وعمل على أن يصبغ هذا العمل بالمحتوى الإنساني في كل عمل أنجزه أو قرار أصدره، أخذه هذا العمل عن بيته وأسرته وأطفاله، "وقد جسد ذلك بقصيدته التي تفيض إنسانية ورقة تلك التي أهداها إلى ابنته (يارا) عندما كانت تسأله بعتاب طفولي: بأنها لا تراه، فكان جوابه بهذا الأبيات الأخاذة التي تتوشح بالتضحية:
(( أبي! ألا تصحبنا؟ إنني
أود أن تصحبنا... يا أبي!
وانطلقت من فمها آهــــة
حطّت على الجرح.. ولم تذهب
وأومضت في عينها دمعة
مالت على الخدّ ولم تُسكب
أهكذا تهجرنا يا أبي
يا أجمل الحلوات.. يا فرحتي
يا نشوتي الخضراء.. يا كوكبي
أبوك في المكتب لمَّا يزل
يهفو إلى الطيِّب والأطيب
يصنع حلمًا، خيْر أحلامه
أن يسعد الأطفال في الملعب
من أجل يارا ورفيقاتها
أُولع بالشغل... فلا تغضبي
يستطرد القاضي في حديث عن القصيبي أنه لم يكن عمله في وزارة الصحة مقتصراً على إنجاز المشروعات وخلافها، بل حفل كثيراً بالجانب الإنساني للمرضى، فطرح فكرة لجان "أصدقاء المرضى" لتقوم بأدوارها الإنسانية لهؤلاء المرضى كواحدة من مؤسسات المجتمع المدني، كما وضع بطاقات موقعة باسمه مع دعاء بالشفاء، تُعطى لكل مريض يدخل أحد المستشفيات في المملكة.

إنسانيته وتأسيس جمعية الأطفال المعوقين
تطرق القاضي إلى جانب مهم من أعمال غازي الإنسانية الباقية، ذلك هو منجز إنساني كان وراءه فكرة وتأسيساً وذلك هو "جمعية الأطفال المعوقين" التي بدأت في الرياض، وانتشرت فروعها وأغصانها المورقة في المملكة ترعى وتحنو على هذه الفئات الغالية، وسار على نهجه آخرون في مناطق المملكة في اقتفاء جميل لهذا العمل.

غازي كان حريصًا على تكريم الشباب السعودي

القاضي يقول إن القصيبي جعل المجتمع يقف مع الأجهزة الحكومية بالاحتفاء والرعاية لهذه الفئات علاجاً وتدريباً وترفيهاً ودمجاً بالمجتمع، وها هم "ذوو القدرات الخاصة" ينعمون بخدمات ورعاية مثل هذه المراكز، سواء التي أنشأتها الدولة أو التي أقامتها جمعية الأطفال المعوقين وغيرها من الجمعيات المماثلة في المملكة.

غازي في التعامل الإنساني مع الآخرين
القاضي يقول الجميل إن هذا الحسّ الإنساني لا يدور في فضاءات معارفه أو دوائر زملائه أو أصدقائه فقط، بل هو مطر تنسكب قطراته، كما قال في بيته الشعري على كل مقلة سهرت في الظلام.. ولأنني رأيت ألا يكون حديثي عن هذا الجانب إنشائياً فقط، فإنني أحرص على أن أعضده بالوقائع والحقائق.. وأروي هنا واقعة إنسانية عايشتها شخصياً: "لقد كتبت له ذات مرة عندما كان وزيراً للصناعة عن امرأة هجرها زوجها بعد ارتباطه بأخرى، وبدأ لا ينفق عليها وعلى أولاده، حتى أصبحت لا تستطيع تأمين الحليب لهم، ثم أخذ أطفالها منها، وأحدهم معوق، وحرمها من رؤيتهم".

تلك الرسالة ما إن وصلت إلى غازي، وإذ به يتصل بي ليستوفي بعض المعلومات، وبعدها لم يكتف بمساعدة مالية قدمها، بل تبنى قضية "معاناتها" بسبب عدم رؤية أولادها؛ فبذل جهده للوصول إلى زوجها القاسي - بكل سرية - ووسط شخصاً يعرف هذا الزوج.. ولما لم تنجح هذه الوسائل سأل عن منزله، وذهب إليه شخصياً في إحدى حارات الرياض الشعبية ليبين له خطأ تصرفه، ويقنعه بجعل الأبناء يرون أمهم.. وتأثّر هذا الزوج الذي ظلم امرأته الأولى بهذا الموقف، واستجاب لنداء ورغبة وزيارة الإنسان غازي القصيبي.

غازي مع أحد الأطفال يشاركه رسوماته... وهنا مداعبًا أحد الأطفال في أحد المجمعات التجارية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
اللرلل
علي الشرفي -

وهذا ما عرفناه دائما عن شخصه المتواضع رحمه الله

اللرلل
علي الشرفي -

وهذا ما عرفناه دائما عن شخصه المتواضع رحمه الله

يا الله كم نحتاج
bilal -

يا الله كم نحتاج لمثل هكذا رجال في اوطاننا العربية,اعتقد لو 100 رجل مثل غازي في كل بلد عربي لما كان لدينا فقر وجهل

يا الله كم نحتاج
bilal -

يا الله كم نحتاج لمثل هكذا رجال في اوطاننا العربية,اعتقد لو 100 رجل مثل غازي في كل بلد عربي لما كان لدينا فقر وجهل