أخبار

الموت يحكم قبضته على الصومال

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

نواكشوط: تنهال المصائب مجتمعة على الصوماليين، فمن نجا منهم من الحروب والصراعات المستعرة، يواجه اليوم مجاعة قتلت الكبير قبل الصغير، ولم ترحم حتى من هم في الأرحام أجنة.

"الفقر هو العبودية" يقول الصوماليون في أمثالهم، وهو مثل ينطلق من تجربة مريرة عاشها الصوماليون قبل عقود تتزامن اليوم مع عودة رائحة الموت جراء المجاعة لتفوح مجددا في العاصمة مقديشو المنهكة أصلا من الحروب.

قبل أن نتوجه إلى الصومال على متن طائرة مساعدات أردنية، دارت تساؤلات عدة في ذهني.. عن البلد وواقعه، عن الحروب والصراعات، وعن مخلفات المجاعة في بلد لم يشفع له تاريخه حين كان ذات يوم من أهم مراكز التجارة العالمية بين دول العالم القديم وكان قبل عقود لؤلؤة المحيط الهندي.

هبطنا في مطار مقديشو وأول ما يلحظه الزائر، حظائر الأغنام والأبقار المحيطة بالمطار الذي يدخله الزائر ويخرج منه عبر أزقة بيوت منتشرة بمحيطه، في مشهد يشي بالفوضى وغياب للسلطة الحقيقية.. كل ذلك قبل أن نتوغل في العاصمة صوب مشاهد اشد قسوة من فقر وجوع ومرض، ورؤية الموتى يتساقطون الواحد تلو الآخر.

عبر طريق بدائي ممتلئ بالحفر وفوضى الحركة المرورية، سلكنا الطريق صوب مخيم العدالة الذي يقطنه نازحون جنوبيون، وفي طريقنا إلى المخيم تثيرك مشاهد المدينة، فالحروب الدائرة منذ عقود لم يسلم من ويلاتها البشر ولا الحجر، فلا يوجد مبنى أو بيت ولا حتى جدار إلا وبه قصف من مدفع أو اثر لطلقات المتخاصمين، حتى البرلمان الذي يعتلي أحدى التلال هو الآخر خاو على عروشه وآثار الحرائق والقذائف بدت كوشم أبدي على فظاعة القتال الذي دار ويدور في المدينة الساحلية.

خلال حديثنا مع وزير المالية والخزانة الصومالي أفصح لنا عن فظاعة الأوضاع الإنسانية في البلاد التي تجتاحها مجاعة تهدد نحو 3 ملايين إنسان، وان العرب والمجتمع الدولي مطالبون بجهود اكبر لإنقاذ من يمكن إنقاذه من النفوس البشرية. الوزير الذي كان في استقبال المساعدات الأردنية تحدث أيضا عن الحاجة الى غير الطعام والدواء، فالبلاد كما قال بحاجة لدعم مالي لحفر آبار في الجنوب ، ولضمان إيصال المساعدات للنازحين.

ولم يخف الوزير أن وجود حركة الشباب المجاهدين أعاقت كثيرا وصول الإمدادات وكبلت جهود الحكومة في مقديشو في ظل سيطرتها على مناطق عدة من مناطق الجوع التي تضربها والقرن الإفريقي موجة جفاف هي الأعنف منذ ستين عاما.

وما يزيد الطينة بلة أن سقوط الأمطار غير محتمل في جنوب الصومال الأكثر تضررا بالجفاف والذي تسيطر عليه حركة شباب المجاهدين كما تقول التقارير الأممية.

والهاربون من المجاعة يصدمون بواقع مرير داخل العاصمة المنهكة من الحروب الأهلية التي خلفت وتخلف وراءها الدمار والخوف في أرجاء المدينة وهي صدمة يعكسها مشهد الموت في المستشفيات وفي المخيمات المجبرين على رؤيته ومواجهته كل ساعة.

وفوق ذلك كله، يبرز الجانب الآخر المتمثل بانعدام الأمن في ظل الصراعات الدائرة بين الحكومة والشباب المجاهدين، وهو أمر لمسه الفريق الأردني الذي رافق المساعدات حين تم إحاطتنا بمجموعة مسلحة من العسكريين المدججين بالبنادق والذخائر الحية.

واصلنا المسير إلى مخيم العدالة، واقع لا يمكن اختزاله بكلمات ولا حتى بصور الكاميرات وتقارير المراسلين، وجوه شاحبة وأجساد بشر هزيلة يكسوها الجلد بالكاد تحرك ساكنا ورائحة الموت تفوح في أرجاء المكان.

تحلق حولنا العديد من قاطني المخيم، أحدهم يريد الطعام لأبنائه وآخر بحاجة إلى الدواء، وثالث يصر على أن يخبرنا عن قومه الذين ماتوا في رحلة الهرب من الموت، وفي المقابل نسوة ثكالى يبكين فلذات اكباد ماتوا من ساعات أو أيام.

وهنا يصف وزير المالية الأوضاع في عموم الصومال "بالكارثة وأنها ستتفاقم أكثر إن لم يتحرك المجتمع الدولي لمساندة الصومال في تجاوز هذه المحنة التي تحصد العشرات يوميا"، وهو وصف يتطابق مع تحذيرات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي قالت للصحافة غير مرة، ان نحو ثلاثة ملايين نازح صومالي ما يزالون مهددين بالموت جوعا بسبب عدم تمكن وكالات الإغاثة من الوصول إليهم.

دخلنا إحدى الخيام التي تقطنها رقيه عبد المولى، وهي نازحة من إحدى ولايات الجنوب، أطلت علينا بوجه شاحب فاضت عيناها بكاء وتحدثت إلينا بصوت يملؤه الحزن وقالت "أمس ماتت طفلتي بسبب الإسهال الشديد.. وقبل عام تقريبا مات زوجي بسبب النزاعات المسلحة".

حزن هذه الام بحد ذاته يجسد معاناة الكثيرين، وبعبارة مؤلمة أنهت كلامها "نحن شعب لا نعرف السعادة.. تعبنا من الويلات".

واصلنا جولتنا إلى مخيم آخر، والمشهد ذاته يتكرر، لكن هذه المرة في مستوصف صغير يشرف عليه طبيب صومالي وطاقم من المتطوعين وفي الخيمة أطفال ممددون على الأرض يعانون الجفاف والإسهال وغيرها من الأمراض.. طلب منا الطبيب محمد مولاي مصطفى عدم الاقتراب لأن بعض الأمراض معدية كما يقول.

وأشار "نستقبل يوميا العشرات من الحالات الصعبة نعطيهم الدواء على قلة توفره مع علمنا بأن حالات كثيرة لا ينفع معها الدواء بل تحتاج إلى عناية، بيد أن تواضع الإمكانات الطبية في البلاد يحول دون ذلك".

وقال "لا يكاد يمر علينا يوم لا يموت فيه إنسان، وأكثر الموتى من الأطفال".. ووجه مولاي مصطفى نداء للعالم بضرورة إغاثة الصومال وتوفير الأدوية والمستلزمات الطبية على وجه الخصوص.

وفي محيط المخيم تجمع العشرات لأخذ نصيبهم من المساعدات، تحدثت لنا حسناء عبد الوالي عن المعاناة التي يعيشها آلاف الصوماليين خصوصا في المناطق الست التي أدرجت رسميا تحت مسمى مناطق المجاعة المنكوبة.

وتروي حسناء، وهي تحمل على ظهرها طفلا لم يتجاوز العام من عمره وقد بدت عليه آثار الجوع والمرض قصة معاناتها في السفر من مناطق الجفاف، حيث قررت الرحيل صوب العاصمة علها تجد شيئا يسد رمق أطفالها، فلا غذاء ولا حليب لديها ومشهد الموت هو الأبرز في المناطق المنكوبة على حد وصفها.

وتقول "خلال رحيلنا من الجنوب المتضرر إلى مقديشو مات أناس كثيرون، ومنهم من بقي في مكانه بسبب الإعياء والمرض الشديدين".

غادرنا المخيم صوب رئاسة الوزراء ونحن محاطون بحراسة مشددة، رئاسة الوزراء لا تعدو كونها بيتا قديما وسط حي فقير وبداخله قاعة متواضعة للاجتماعات وبعض الغرف للوزراء، تحدث إلينا رئيس الوزراء الصومالي واخبرنا عن حاجة البلاد إلى الدعم لتجاوز المحنة التي أنهكتها.

أمضينا بعض الوقت في رئاسة الوزراء وانتقلنا فورا إلى مخيم آخر في منطقة "مكة المكرمة" وسط مقديشو، وفي المخيم تحدث إلينا نائب حاكم مقديشو علي احمد عن مصائب بني جلدته، مبينا أن مقديشو تحولت إلى مدينة للموت إذ يأتي الناس من المناطق المنكوبة وهم في أسوأ الأحوال.

وقال "كنا نعيش تحت رحمة المدافع التي دمرت البنى التحتية.. الآن تحاصرنا المجاعة وكل أهل الصومال بحاجة للمساعدة".

وعن المناطق الجنوبية الست التي يجتاحها الجفاف اعترف بأن الحكومة المركزية لا تسيطر عليها وان جماعة الشباب المجاهدين يفرضون سيطرتهم.

واضاف "خارج مقديشو نواجه صعوبات كبيرة لتأمين وصول المساعدات للمنكوبين بسبب سيطرة المجاهدين الشباب ولا نستطيع الذهاب إلى هناك".

وفي الجنوب كما يقول نائب حاكم مقديشو يعتمد الناس على الزراعة والماشية التي تضررت بسبب الجفاف وأدت الى نفوق المواشي وتضرر الزراعة والناس، يصلون إلى العاصمة وفيهم شيء من الحياة منهم من يعيش ومنهم من يموت وغيرهم من دفن في بطن الصحراء بعد مقاومة ضارية مع الجوع والعطش والمرض.

واستطرد بالقول " في مقديشو وحدها يموت كل يوم أكثر من عشرة أطفال، أما في الجنوب فالمأساة اكبر بحسب المسؤولين الصوماليين".

في طريق العودة إلى المطار وعبر ذات الطريق التي تنتشر فيها المخلفات العسكرية تستطيع أن ترى مئات المخيمات، في كل خيمة قصة وحكاية لهارب من بقاع الموت والجوع..فالمصائب كما يقول المثل لا تأتي فرادى.

هذا الحال المرير وصفه نقيب المهندسين الزراعيين الأردنيين المهندس عبدالهادي الفلاحات الذي رافقنا بالرحلة "بكارثة إنسانية فظيعة.. وان العالم بأسره وخصوصا العربي والإسلامي مطالب بتحمل مسؤوليته تجاه شعب لا حول له ولا قوة".

غادرنا مقديشو مدينة الحزن والآلام ولم يغادرنا حزن أبنائها وحسرات أمهات الثكالى، ولا حتى صرخات أطفالها المرضى، تلك المدينة التي أسرتها الحروب والنزاعات المسلحة أضحت اليوم مدينة أشباح فلا صوت يعلو فيها على صوت الموت.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
ملاحظة
صالح الدعجه -

الزملاء الكرام في ايلاف اسعد الله اوقاتكم بكل خير.. انا الصحفي صالح الدعجة كاتب المادة السابقة او ان الفت انتباهكم بان مصدر الخبر ليس نواكشط ... بل مقديشو ..ي