منبج: تجربة ناجحة في إدارة مدنية لثورة مسلحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
منبج محررة منذ أشهر، تولى مقاتلو المعارضة أمر إدارتها في تجربة ناجحة على الرغم من الخروقات والمعوقات الكثيرة، وعلى الرغم من طائرات النظام التي تفتك ببناها التحتية.
تدافع جمع من الشيوخ الغاضبين داخل الغرفة غير مبالين بأصول اللياقة، وصرخوا عاليًا بوجه المسؤولين المذهولين وراء مكاتبهم: "نعم للثورة... لكن أين معاشاتنا التقاعدية"؟ بصعوبة، تمكن ممثل اللجنة القضائية من اقناعهم بتعيين متحدث باسمهم، لكنهم ظلوا على عنادهم، يصرخون: "أنتم الحكومة الجديدة، أنتم المسؤولون عن صرف معاشاتنا التقاعدية".
كان شيخ عشيرة يراقب المشهد جالسًا على كرسي مركون في زاوية. وكان رجل دين ومحام يناقشان على أريكة الأنظمة المتعلقة بالسجناء، فيما أراد قائد الشرطة الجديد أن يعرف كيف يعيد رجاله الى الشارع بلا بزات كافية وبلا ذخيرة لأسلحتهم.
مدينة مستقلة
يجتمع المجلس الثوري في مبنى السراي، حيث كانت مكاتب المختار والشرطة والمحاكم ودائرة التسجيل العقاري. ففي هذا المبنى، كانت خيوط السلطة تلتقي في السابق، بينما انقلبت الأدوار هذه المرة.
ما يجري في بلدة منبج الريفية في شمال سوريا هو أول تجربة ذات أُفق مستقبلي، وسط أهوال الحرب المستعرة.وفي حين يقاتل الثوار قوات النظام في المناطق الأخرى من البلاد، وتُدمر بلدات كاملة بالقصف، فإن منبج أول بلدة سورية كبيرة تُحرر من سيطرة النظام. منذ انسحاب قوات النظام منها في منتصف تموز (يوليو)، تولت مجالس محلية إدارة شؤون سكانها البالغ عددهم 150 ألف نسمة، وسكان ريفها الذي يتجاوز عددهم نصف مليون نسمة.
وكان جيش النظام انسحب من مناطق واسعة شمال سوريا في الربيع الماضي، لكن رحيله عن بلدة كاملة أتى نتيجة نظرة واقعية أبداها الطرفان على السواء. مثل وكيل عقاري ماكر اسمه ابراهيم صلال المعارضة في مفاوضات استمرت أشهرًا مع قادة الأجهزة الأمنية، وتوصل الجانبان بهدوء إلى عدد من الصفقات. وافقت المعارضة على تحديد الاحتجاجات بـ 15 دقيقة وتعهدت قوى الأمن في المقابل عدم اطلاق النار على المحتجين. إلى ذلك، تُدين البلدة بحسن حظها لعزلتها النسبية التي أدت الى إحاطتها بمناطق تحت سيطرة المعارضة.
وقال صلال مبتسمًا لمراسل شبيغل أونلاين: "عندما أراد النظام أن يبدأ حربه، كانت كل الطرق مسدودة، وانسحب قادة الأجهزة الأمنية صباح 19 تموز (يوليو) فيما انشقت مجموعة من 51 شرطيًا لتنضم الى المعارضة".
هكذا، أمسكت منبج مصيرها بيدها. وبعد أربعة عقود من الدكتاتورية، يواجه سكانها مهمة إدارة مدينة مستقلة لا يمكن دفع المعاشات التقاعدية فيها، أو توفير حياة مضمونة بعد الآن.
أين الغضب؟
منذ آب (أغسطس) الماضي، يحاول النظام تدمير المناطق التي لم يتمكن من الاحتفاظ بسيطرته عليها. وتتعرض بلدة منبج وبلدات أخرى في شمال سوريا لغارات جوية يومية، ليس هدفها ضرب مواقع المعارضة المسلحة لأن هذه تتغير باستمرار، وإنما تدمير البنية التحتية.
تستهدف الغارات بصفة خاصة أنابيب ماء الشرب وصوامع الغلال والمستشفيات والمباني الحكومية والمدارس. فنظام الأسد لم يعد قادرًا على كسب الحرب، لكنه يستطيع منع الجانب الآخر من كسبها ، بحسب شبيغل أونلاين.
وليس بيد مقاتلي المعارضة ما يمكِّنهم من التصدي للغارات الجوية التي لا يأتي الاعلام الرسمي على ذكرها حين يصف عمليات قوات النظام بأنها "نضال بطولي ضد الارهابيين".
وكلما ازداد الوضع سوءًا ازداد صمت العالم، إذ يُقتل 100 شخص على الأقل يوميًا في مختلف أنحاء سوريا، لكن البرامج الاخبارية تركز حصرًا على القتال في أكبر مدينتين سوريتين، دمشق وحلب، وتكاد لا تأتي على ذكر القصف الجوي للمدن والبلدات الأخرى.
لم ير احد في بلدة منبج مقطع "براءة المسلمين" المسيء للرسول، فالبلدة بلا انترنت وكل الاتصالات الالكترونية بالعالم الخارجي قُطعت، ولا تعمل إلا شبكة الهاتف الأرضي. لكن حتى من دون مشاهدة المقطع المصور، لا أحد في منبج يفهم سبب الهستيريا التي حصلت بعد عرض الفيلم. وقال رجل دين لمراسل شبيغل اونلاين: "لا ننتقد غضب المسلمين، ولكن أين غضبهم ضد قصف المساجد في سوريا؟"
نظام جديد يقصفه النظام القديم
قال انس شيخ عويس، القيادي في المجلس الثوري لمنبج وصاحب معمل صغير للسيراميك: "إنه الجنون، فنحن نحاول أن نبني نظامًا جديدًا في وقت يواصل النظام القديم قصفنا". يجري نقل شهادات الزواج وملفات المحاكم ومستندات التسجيل العقاري بالصناديق والسيارات بسرعة قبل أن تتعرض السراي للقصف الجوي، فتخسر البلدة سجلاتها. فهذا ما حدث في بلدة صغيرة جنوبي منبج قبل أيام. وقال أحد أعضاء اللجنة القضائية إنها عملية "لإنقاذ البلد من تدمير النظام".
كما يتعين تهريب الوقود إلى البلدة، فيما توقف دفع رواتب الموظفين، والسبب الوحيد لعدم انقطاع التيار الكهربائي هو قرب البلدة من سد الفرات الذي يمد مناطق واسعة من سوريا بالطاقة. ومن المستبعد أن يفصل النظام منبج عن الشبكة الوطنية لأن المعارضة يمكن ان ترد على ذلك بغلق المحطة الكهرومائية وقطع إمدادات الكهرباء عن نصف البلاد.
إفلاس خلال شهر
لا تحظى القضايا الكبرى التي تُثار في الغرب، مثل اختراق تنظيم القاعدة للثورة واحتمالات الحرب الأهلية، بأهمية تُذكر في تجربة منبج. فالبلدة تواجه قضايا آنية أشد الحاحًا مثل إمكانية فتح المدارس في وقت قريب أو معالجة مسألة اللاجئين الوافدين من مناطق أخرى. يتساءلون هنا: "من أين الكتب بعد أن توقفت الحكومة المركزية عن توفيرها؟ وأي علم يُرفع فوق المدارس كي لا يقصفها طيران النظام؟ العلم الجديد ودون رفعه مخاطرة كبيرة؟ العلم القديم؟ غير وارد على الاطلاق".
وما يهم سكان منبج قضايا يومية كالحصول على الدقيق للشهر المقبل، والاستمرار في توزيع الأفران المركزية الخبز بعد استهداف طوابير المواطنين بنيران النظام مرات عدة في منبج وبلدات اخرى. ومن همومهم أيضًا ماء الشرب والبنزين والانتخابات والبحث المضني عن مصادر دخل. وقال الشيخ محمد علي، مسؤول مالية البلدة في المرحلة الانتقالية، لمراسل شبيغل اونلاين: "سنعلن الافلاس في غضون شهر".
من يدير منبج؟
وإلى كل هذه الهموم، هم كبير: من يدير منبج؟ أهو المجلس الثوري فيها أم مقاتلو الجيش السوري الحر؟ ذات صباح، عثرت وحدة من وحدات الجيش السوري الحر على خمسة أشخاص خطفوا ثلاثة آخرين واعتدوا عليهم بالضرب، في مزرعة خارج البلدة. وقال الخاطفون: "نحن أيضًا من الجيش السوري الحر، وألقينا القبض على ثلاثة شبيحة"، بينما قال أحد المعتدى عليهم إنهم مزارعون بسطاء لا يعرفون لمَ خطفوا ولمَ تعرضوا للتعذيب.
أُودع الجميع سجن البلدة الموقت في قبو الفندق الوحيد في منبج، الى حين التحقق من حقيقة ما جرى. وفي غضون ساعات اقتحمت البلدة مجموعة من عشيرة الخاطفين وراحت تطلق النار في الهواء فرد عليهم "ثوار منبج" من افراد الجيش السوري الحر باطلاق الأعيرة النارية في الهواء أيضًا. فأغلق أصحاب المتاجر أبوابهم وتراكض سكان البلدة للاحتماء من الرصاص المتطاير. ثم تفاوضت المجموعتان، وعاد الوضع هادئًا حتى إشعار آخر.
تنافس ثوري
تقاتل وحدات الثوار في أنحاء سوريا من أجل هدف واحد، لكنها تتنافس في ما بينها على النفوذ ومصادر التمويل. ومن دون الجيش السوري الحر، لن يُقام حكم جديد في سوريا، لكنه سيجعل اقامة حكم جديد صعبًا، بحسب شبيغل أونلاين.
يجتمع رؤساء لجان الشرطة والقضاء والشؤون الاجتماعية والطاقة والخدمات الطبية كل مساء تقريبًا. ويتولى وجهاء البلدة سلطة الحكم فيها على الرغم من وعودهم بالتنازل عنها في أسرع وقت ممكن، ما إن يعود الاستقرار. وتضم هذه الفرق لفيفًا متنوعًا من المهندسين ورجال الدين والصيادلة، بالاضافة إلى ضابط مخابرات ومحامٍ وشاعر أمضى 15 عامًا في السجن.
وحين يتجادل هؤلاء حول ازلام النظام الذين يتعين ايداعهم السجن، ينبري المحامي حسن نافع داعيًا إلى المغفرة، يقول: "نحن نصنع ثورتنا من أجل القيم وليس من أجل الثأر. فنحن معارضون لبشار ولا نريد أن نكون مثله".
يرد عليه عضو آخر في اللجنة: "هذا كلام جميل. هل تعني إذا تحدثت بلطف الى شبيح فانه سيعترف بكل جرائم القتل التي ارتكبها؟". يستمر الجدال بينهم حول التوصل الى حلول توافقية حتى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل، ويتوصلون الى قرار بالاجماع يقضي بأن لا يُسمح لشيخ كان بوقا للنظام بالقاء خطبة الجمعة.
تجربة ناجحة
على الرغم من العقبات الكثيرة، تعمل إدارة منبج بكفاءة نسبية. فهي البلدة الوحيدة في شمال سوريا التي فتحت فيها متاجر الذهب والمجوهرات أبوابها، كما تصدر فيها جريدتان جديدتان إحداهما "شارع الحرية" وهي أسبوعية سياسية مستقلة.
يمكن القول إن منبج حققت أكبر قدر من التقدم بين البلدات السورية، ولكنها ليست استثناء. ففي مدينة حلب الكبيرة اتفق قادة أكبر الوحدات التي تضم ما يربو على أربعة آلاف رجل على تشكيل مجلس عسكري.
ويحاول محامون من محافظة حلب تطبيق المعايير القانونية المتعارف عليها في التحقيق والاستجواب في سجون الجيش السوري الحر. وفي كل مناطق الشمال التي تسيطر عليها المعارضة، تنبثق مجالس ولجان محلية لملء الفراغ حتى في وقت يواصل الطيران الحربي دك البنية التحتية للبلاد بصورة يومية. انه توافق غريب بين الأضداد، يأمل بعض اصحاب التفكير العملي بين الثوار بأن يستمر لبعض الوقت.