شظايا سياساتها الخارجية أصابت الجميع وخرفها عزلها 13 عامًا
مارغريت تاتشر تعتزل الزهايمر والحياة مخلفة وجعًا مزدوجًا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
قُهِرت المرأة الحديدية مرتين، مخلفة وراءها وجعين. المرة الأولى حين هزمها الزهايمر فباتت تسأل عن زوجها الميت، والمرة الأخرى عندما هزم جبروتها الموت. وكانت سياسات تاتشر الخارجية العنيفة أصابت الجميع بمن فيهم أصدقاؤها الأوروبيون.
لندن: لا مراء حول أن رئيسة الوزراء السابقة، التي توفيت صباح اليوم الاثنين عن 87 عامًا، صارت منبعًا لا يجفّ معيناً للجدل حول عهدها إنجازاتها ومغزاها وآثار تركتها الباقية حتى اليوم... فهل كانت حقًا رئيسة الوزراء الأعظم في تاريخ بريطانيا؟.
فقلة من الناس تصنع الأحداث العظيمة خلال حياتها، حتى تصبح وفاتها الصفحة الأخيرة من فصل تاريخي جدير بالقراءة. ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر أحد هؤلاء بلا شك.
السبب في هذا هو أن تاتشر غيّرت - خلال 11 سنة من حكمها (1979 - 1990) - وجه بريطانيا، سواء من حيث تركيبته الاقتصادية - السياسية أو الاجتماعية. وعلى هذا الأساس، فلا مناص للمرء من الإقرار بمكانتها السامية على سلم التاريخ، بغضّ النظر عن رضاه عن عهدها أو سخطه عليه.
ثورة في الداخل
على الصعيد الداخلي، غيّرت مارغريت تاتشر منفردة معالم الخارطة السياسية البريطانية إلى حد يكاد لا يصدق. فالعماليون، الذين حكموا البلاد بعدها، ما كانوا ليصلوا إلى السلطة إلا لسببين: أولهما أن حزب المحافظين، الذي تزعمته، أفقد زعامتها هي، وأتى بأخرى، بدت شاحبة بالقياس إليها.
ثانيهما أنها (عبر مفهوم "التاتشرية"، الذي أصبح مثل "الريغانية"، صنوًا لمعنى الاقتصاد الحر الحديث) أجبرت دماء حزب العمال الجديدة وزعامات مستقبله، من أمثال توني بلير وغوردون براون، على التخلي عن النهج القديم، والنظر إلى المستقبل بدلًا من الانكباب على الماضي.
حجر الرحى في الترتيب العالمي الجديد
على الصعيد الخارجي، يصح القول إن تاتشر - مع رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف نفسه - غيّرت وجه العالم إلى الأبد عبر مساهمتها الرئيسة في إسقاط الامبراطورية السوفياتية. هكذا استعادت لبريطانيا مكانتها، التي فقدتها على المسرح الدولي منذ إسدال ستار الختام على الأمبراطورية.
من محطات عهدها الرئيسة بالطبع خوضها ضد الأرجنتين أول حرب لدولة أوروبية على غيرها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بغرض ما أسمته "استعادة جزر الفوكلاندز إلى بريطانيا الأم". فخلقت بهذا نوعًا من الفخار الوطني، لم تجرّبه غالبية البريطانيين من قبل، لكنها أعادت إلى الأذهان - حتى داخل بريطانيا نفسها - ويلات حروب الامبراطورية أيضًا.
محطات رئيسة
عمومًا، يمكن تلخيص إنجازات تاتشر في أمور صارت محطات رئيسة في ولاياتها الثلاث، منها مداواة الاقتصاد البريطاني بنقله إلى رأسمالية السوق البحتة. وفي هذا السبيل قضت مرة وإلى الأبد على نقابات العمال، التي حكمت البلاد فعليًا في السبعينات. لكن تاتشر أتاحت في الوقت نفسه تملّك المساكن والأسهم التجارية لقطاع هائل من الفقراء، وبشكل لم تنجزه أي حكومة عمالية سابقة أو لاحقة.
يكتسب كل هذا أهمية خاصة وفريدة، تنبع من كونها أول امرأة تتولى رئاسة بريطانيا على مدى تاريخها الطويل، ثم في كونها رئيس الوزراء، الذي يعتبره قطاع عريض من البريطانيين الأعظم في تاريخ البلاد الطويل، بما فيه عهد ونستون تشيرتشل. وخذ مثلا أن عهدها هو الأطول بين سائر من سكنوا 10 داونينغ ستريت منذ مطلع القرن العشرين.
ولكن..!
على أن تاتشر شقّت المجتمع البريطاني أيضًا... بكسرها شوكة النقابات، التي كانت بمثابة عظم الظهر بالنسبة إلى العمال وعائلاتهم... وبانتقالها إلى نوع من الرأسمالية يفتقر بالكامل تقريبًا إلى الوجه الإنساني. وفي هذا الصدد أدى بعض قراراتها الصارمة - مثل ما يسمّى "ضريبة الرؤوس" في التسعينات - إلى احتجاجات شعبية دامية تعتبر الأسوأ في تاريخ البلاد الحديث... وبتفضيلها إخضاع إيرلندا الشمالية لاتحاد بريطانيا بفوهة البندقية فقط و"لا للحوار مع الإرهابيين".
لا رحمة للضعفاء
في ما يتعلق بسياستها الخارجية، فإن تاتشر لم تكن رحيمة بالفلسطينيين (عندما كانت قضيتهم صانعة الأخبار الرئيسة حول العالم)، ولم تبدِ مثقال ذرة من التعاطف مع قضيتهم الأساسية، وهي وطنهم المسلوب، خاصة وأن إعلان بلفور البريطاني هو الجذر الرئيس لهذه القضية.
كما لم تكن تاتشر رحيمة أيضًا بالسود في محنتهم الطاحنة أيام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا. بل إنها جرّدت "المؤتمر الوطني الأفريقي" من صفته "جماعة تحرير"، ووصمته مع نيلسون مانديلا بالإرهاب. وقالت إن من يعتقد أن المؤتمر الوطني سيحكم البلاد يومًا "يعيش في عالم من الأوهام".
وكانت كذلك ظهرًا وحصنًا منيعًا من يد العدالة لأحد أبشع ركوز الدكتاتورية في القرن العشرين، وهو حاكم تشيلي العسكري أوغستو بينوشيه، قاتل رئيسها المنتخب شعبيًا سلفادور الليندي، مع عشرات الآلاف من أنصار الحرية والديمقراطية في بلاده.
وجع مزدوج
هكذا تتعدد الأمثلة على الأسباب التي قد تحدو بالمرء (غير البريطاني خاصة) لاعتبار مارغريت تاتشر وجعًا في القلب... أو وجعين معًا: الأول تأتي به سياساتها الخارجية، التي أصاب رشاشها الدموي أحيانًا الجميع، بمن فيهم بعض أصدقائها داخل أوروبا نفسها.
والثاني وجع ذو خلفية: وهي أن تاتشر في الواقع لم ترحل عن الدنيا في الثامن من إبريل / نيسان 2013، وإنما في وقت ما من العام 2000 عندما داهمها الخرف. فصارت لاحقًا - تبعًا لكتاب أصدرته ابنتها كارول في 2008 - لا تعي أحداثًا، بحجم أن زوجها دنيس، الذي قضت معه أكثر من 50 عامًا، مات بالسرطان. فكانت تسأل في غضب عن السبب في أنها لا تراه.
شخص، كتاتشر، لا تريد للسنين وأفعالها أن تعفيه - بعدما ذاق حلاوة مجده الخاص - من رؤية عواقب أعماله ووخز ضميره، وإن لم يفعل فمواجهة جام غضبك. لكنّ السنين، على نحو ما، فعلت ذلك بالضبط عندما أصابت المرأة الحديدية بالخرف، وأعفتها من كل هذا... وهذا هو مكمن الوجع الآخر.