المصريون يثورون على واقعهم وقيمه الكاذبة بسلاح السخرية البذيئة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كانت السخرية وما زالت سلاح المصري في التصدي لما لا يمكنه تغييره، حتى تقوى عزيمته على التغيير. هذا ما حصل في ثورة 25 يناير، وهذا ما يبدو حاصلًا اليوم بعدما اكتشف المصريون أن الإخوان سرقوا ثورتهم. فعادوا إلى ثورية ساخرة تصل إلى حدود البذاءة المتفلتة من كل عقال.
محمد الحمامصي من القاهرة: شهدت مصر أخيرًا تحوّلًا خطيرًا في لغة وأسلوب السخرية، التي كانت أدوات تعبيرية ذات دلالات ومعانٍ قوية، لعبت دورًا في إنجاح ثورة 25 يناير، وكشفت عمّا يملكونه من ملكات إبداعية. لكن التحوّل كشف عن تردٍّ واسع، إذ سقطت الصور بجمالياتها الفنية، لنصبح أمام اعتماد الألفاظ الجنسية والإيحاءات البذيئة في مختلف الخطابات الاجتماعية والسياسية أو الإعلامية، وانسحب ذلك على النكات والرسوم الكاريكاتورية.
تجلى ذلك في البرامج الحوارية وبعض اللافتات والهتافات في التظاهرات، وفي الكتابات على الجدران وتعليقات القراء على الأخبار في مواقع الصحف على الانترنت.
يرى البعض الأمر تنفيسًا عن الاحتقان واليأس جراء الفوضى، التي يشهدها المجتمع المصري، فيما يرى بعض آخر أن للأمر علاقة بحالة الكبت، التي عاشها المصريون طويلًا، وعندما تحرروا منهم، فوجئوا بالأسوأ في ظل حكم الإسلاميين، وتمكنهم من فرض أفكارهم المتطرّفة والمتشددة على المجتمع.
أنا أسخر إذن أنا موجود
يقول الشاعر والناقد جمال القصاص: "السخرية كانت سلاحًا بيد الثورة المصرية، إذ تفجّر شلال من السخرية، امتزجت فيها خفة دم الروح المصيرية، وقدرتها على التنكيت، واستعادت من جراب الذاكرة الشعبية فن النقورة، وعملت على هدم مقومات الحكم الجائر، والتطلع إلى بناء عالم جديد على أنقاضه وركامه، لكن هذا الحلم سرعان ما واجه مؤامرات، اختلط فيها المكر والدهاء السياسي بحسن النية، وأحيانًا ارتدت مسوح الثورة وأقنعتها".
يضيف: "على هذين الحبلين معًا لعبت جماعة الإخوان المسلمين، واستطاعت بالتواطؤ مع المجلس العسكري وقوى خارجية، على رأسها أميركا، أن تحوّل الثورة إلى نصّ هزلي، لكنها عجزت عن الحبكة الدرامية، فظل مفتوحًا على البدايات والنهايات، ينتظر المخلص".
وبحسب القصاص، اعتمد المصريون في مطلع ثورتهم على قوة الشعار السياسي، الذي استطاع أن يحوّل السخرية إلى فعل شامل في رسوم الغرافيتي أو رسوم الكاريكاتور والنكات السياسية والاجتماعية الساخرة من حكم الإخوان.
وتحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي ساحة حرب، توازي الانفلات الأمني في الشارع، وكان لا بد أن تتحوّل السخرية إلى سلاح للهتك والتعرية، تتفجّر في فضائه الحر كل نوازع الكبت والقهر السياسي والاجتماعي والجنسي.
يرى القصاص أن المدهش هو تجدد السخرية كل يوم، "ولم يحدث في تاريخ مصر أن سخر المصريون من رئيسهم إلى هذا الحد، وهو ما دفع الإخوان إلى حمايته باختراع تهمة إهانة الرئيس، لكن سلاح السخرية سينتشر، وسيكون الشعار أنا أسخر من النظام إذن أنا موجود".
اتركوهم ينفِّسون
يؤكد الشاعر والمترجم محمد عيد إبراهيم أن من مساوئ الثورة المصرية أنها أخرجت أسوأ ما فيها، قبل أن تخرج أنبل ما فيها، "فلا الثورة نجحت ولا من يحزنون، ووصل الأسى إلى أن بعضًا منا تمنى عودة النظام القديم، وقد لا يعبّر عنه إلا السبّ والقذف وحرية الألفاظ بكل ما فيها من خير وشر، فالجسد البشري هو أضعف نقطة فينا، لذلك تكون المرأة، بكل ما حملناها من تقاليد وعوار هي المستهدف الأول مثلًا في هذه الثورات".
يقول: "حرية الجسد بعد الثورة أكبر مما كانت عليه قبلها، ويتحرّر الناس مما قد كانوا يرونه عيبًا، لأنهم خلعوا نظامًا كانوا يتصوّرون أنه فاسد، فجاءهم نظام أكثر فسادًا، خلعوا نظامًا فرديًا دكتاتوريًا مستبدًا، كان يعتمد على بضعة رجال أعمال ومتخصصين ينظمون أمورهم جيدًا بالقانون أو بحياكة قوانين تناسبهم.
لكنهم جلبوا نظامًا يعتمد على العشيرة والشعيرة المقدسة في انتظار حلم أهوج، هو الخلافة، أي إنهم يعيشون في أعشاش العصور الوسطى، فقد سقطت الخلافة، التي لم تكن خلافة أصلًا، بل وراثة واستعباد ومظالم وأيام سود على الطبقات الفقيرة عبر التاريخ الإسلامي وما بعده وقبل الحديث، وحتى ما بعده والآن ولا يزال. فلا تحكموا على الناس بظاهر كلامهم الآن فقط، يكفيهم ما هم فيه من ذلّ وهوان وفقر وقلة قيمة وضياع اقتصاد وبلاد صارت في مهبّ الريح، يكفي أنهم لا يزالون يعيشون، لمجرد العيش، اتركوهم ينفِّسون عن قهرهم، ولو بكلام بذيء، فقد فاض الكيل".
المسكوت عنه
يلفت المسرحي سعيد حجاج إلى أن استمرار هذه الحالة المزرية، التي تفرضها الجماعات الإسلامية، سيتفتق عن حالات إلحاد قد تتفشى في ظل حكم جماعة يمينية متطرفة، كانت في وقت ما تركن لشعار "الإسلام هو الحل"، الذي لم يعد موجودًا، كما إن حالة السخط ستتضاعف في المرحلة المقبلة، إذا لم تكن هناك محاولة جادة وحقيقية لإنقاذ الوضع المتردي التي تشهده البلاد الآن.
ويرى الشاعر محمد كشيك أن الشعوب حينما تمرّ بفترات تحولات كارثية، أو ضخمة، تحدث لها هزّة عميقة، وتحتاج وقفة تعيد فيها، ومن خلالها، النظر في منظومة قيم جديدة غير تلك التي تم استهلاكها.
في أثناء ذلك البحث، تتم تجربة بعض المحظورات، حيث إن الشعوب قد حُرمت من التعبير عن ذاتها. وأعتقد أن مجتمعنا الآن يمر بحالة استثنائية، يبحث خلالها عن ذاته، وتأتي تلك الألفاظ القبيحة أو النابية نتيجة لهذه الحرية الوليدة.
يؤكد الروائي أحمد أبو خنيجر أن منظومة القيم شهدت تبدلًا واسعًا داخل بنية المجتمع، "ويبدو أن هذا الجزء الذي تحاول الثقافة والسلطة الرسميتان قمعه سيظهر نوعًا من السخرية السوداء والتعبير عن المسكوت عنه".
النظام الأبوي
ترى الإعلامية شيرين الغرابلي أن سقوط نظام مبارك الأبوي ألقى بظلاله على الكثيرين ممن لم تراعهم الدولة ثقافيًا على مدار أعوام، انهارت فيها صناعة السينما منذ أن سيطر عليها رأس المال، الذي يبحث عن الربح، بغضّ النظر عن نوع القيم ومفردات اللغة وتأثير ذلك، "فكل ذلك مناخ ساهم في انهيار الذوق العام، ناهيك عن أن استخدام الألفاظ الإباحية له مدلوله، فالبعض يعتقد أن استخدامها في مواجهة آخر يفقده هيبته، وهذا يفسر الانتشار الواسع للألفاظ الجنسية والإيحاءات في مختلف الخطابات، سواء منها السياسي أو الإعلامي، وفي اللافتات التي تخرج في التظاهرات، وكذلك في الكتابات على الجدران، وكأن من يستخدم ذلك يقاوم عودة النظام الأبوي من جديد".
ويؤكد الشاعر ناجي شعيب أن الشعب المصري تغلب على الكثير من المحن، بفضل طبيعته الساخرة على قاعدة شرّ البلية ما يضحك، "ونحن نمر بفترة عصيبة، تحوّل فيها المصري من فارس يمتطي جواد الثورة إلى سائس في إسطبل الإخوان، بعدما استطاعوا سرقة الجواد وصباغته بلون آخر، فعاد المصريون إلى السخرية ملاذًا لهم".
سادية وشبقية
تحلل الباحثة الدكتورة رضوى فرغلي الأمر من زاوية نفسية. تقول: "تأخذ الإيحاءات الجنسية معاني كثيرة وفقًا للموقف الذي تمارس فيه، فمثلًا تعتبر تحرّشًا جنسيًا يعبّر عن اضطراب ما في التكوين النفسي والجنسي لصاحبه، بحيث لا يميّز بين الأماكن والأشخاص والظروف المناسبة وغير المناسبة للتنفيس عن رغبته، ولا يخضع وقتها للقانون المجتمعي أو الأخلاقي".
تضيف: "كلنا نمارس هذه الإيحاءات بدرجة أو بأخرى، لكن الفرق يكمن في تقدير متى وكيف ومع من نمارسها، فلا تكون الأمور أشبه بالهوس الجنسي أو السلوك القهري، وقد يعبّر ذلك عن حالة عداء شديدة بأسلوب طفولي، لا يرقى إلى درجة النقد الإيجابي".
وتؤكد فرغلي أن العنف اللفظي يؤكد نوعًا من السادية، التي يحقق بها الفرد إحساسًا شبقيًا مثيرًا، شعوريًا أو لاشعوريًا، فهذه اللذة الخفية تجعله يتجاهل رد فعل الآخرين النقدي. وهنا تلعب التربية الجنسية، سواء بالكبت أو الإباحية المفرط، دورًا مهمًا في شدة أو ضعف هذا السلوك.
"عيارها فلت"
من جهتها، ترى الكاتبة إيمان الحفناوي إمكانية جمع الأمر كله في تعبير الانفلات الأخلاقي، "فمصر عيارها فلت" كما تقول. تضيف: "أثناء الثورة، أظهر الجميع أجمل ما فيهم، أملًا في حياة جديدة مستقرة، لتأتي الفترة الانتقالية وما شابها من ضبابية، ونجد فترة الاستفتاء على الدستور، التي شكلت نقطة التحول الأولى، حيث بدأ الشقاق والتخوين، ثم الانفلات الأمني والاحتجاجات الفئوية، والتي صارت مرادفًا للبلطجة والهمجية التي انسحبت على الألفاظ".
تتابع: "أما نقطة التحول الثانية، فهي الأمل، الذي وضعه كثيرون في الحكم الإسلامي، لتحبط آمالهم، وليجدوا أنفسهم في فخّ، فيهرعون لمناهضته من دون تخطيط، ساعد على ذلك ما تبثه الفضائيات، التي تقول عن نفسها إسلامية، وما تعرضه من ألفاظ صدمت كثيرين، فكفر معظم الناس بالقيم، وراحوا يشوّهون ذواتهم بإغراقها في مستنقع البلطجة اللفظية، وشكّل ذلك صورة من الانفلات الأخلاقي، مع ميراث متهالك من الثقافة والتعليم، وخلفية أضعف من التحلي بالقيم الدينية، وضغوط اقتصادية باتت أكبر من قدرة الأفراد".