أخبار

مغامرة صحافية تكشف الأوضاع المتردية للمهاجرين الأفارقة في مالي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

صلاح سليمان من ميونيخ: تعتبر دولة مالي، مركزًا أساسيًا يتجمع فيه الأفارقة الراغبون في الهجرة عبر الأطلسي إلى القارة الأوروبية، ورغم الحرب وحالة عدم الاستقرار في ذلك البلد الأفريقي، إلا أن الهجرة لم تتوقف، ولم يتوقف كذلك إصرار الشباب الأفريقي، الذي يعاني أوضاعًا سيئة، من اقتحام المجهول، والعزم الوصول إلى الشواطئ الأوروبية.

مغامرة محفوفة بالمخاطر
تجربة صحافية مثيرة عاشها الصحافي الإيطالي فابريزيو جاتي في معسكرات تجمع الأفارقة في مالي، دوّن فيها مشاهداته، التي أصبحت في ما بعد ضمن كتاب، يعتبر الآن وثيقة مهمة في عالم الهجرة السرية الأفريقية نحو أوروبا، خاصة وأنه يكشف الكثير من الأسرار الخفية لضحايا الهجرة، التي تسلك طرقًا وموانع، بل وتبتكر حيلًا وأساليب مختلفة من أجل تحقيق حلم الهجرة، التي قد تضيع أدراج الرياح في حالة التيه في الصحراء، أو الموت غرقًا في المتوسط.

بدأ الصحافي المغامر جاتي مغامرته مع مجموعة من المهاجرين عندما سلكوا طريقًا مألوفًا يسلكه المهاجرون عادة المتجهون صوب القارة الأوروبية من مالي، ويصف جاتي هذا الطريق بقوله إنه يحمل الكثير من المعاناة والمهانة، التي يعانيها بشر، ليس لديهم مطالب في الحياة أكثر من مطلب واحد، وهو العيش كأدميين. ويقول في هذا الصدد إن سماسرة السفر كثيرون في تلك المناطق، وهم يسيطرون على كل وسائل الهجرة، فهم يخططون وينظمون طريقة الهروب، ثم يقبضون الثمن.

استخدم جاتي مهارته وحسه الصحافي في تدوين فصول كتابه بواقعية شديدة، فهو لم يكتف بمقابلة المهاجرين غير الشرعيين ليحصل منهم على مادة كتابه، بل إنه قام بالانخراط معهم، وتقمص دور مهاجر كردي، وسمّى نفسه بلال، وعاش معهم كل خطوات الهجرة غير الشرعية بجرأة يحسد عليها، بالنظر إلى تلك المخاطر والأنواء التي تحيط بهذا النوع من الهجرة، التي يصعب على الإنسان العادي القيام بها تحت أي ظروف.

واصل جاتي طريقه مع الشباب المهاجر، واتجهوا أولًا إلى السنغال، ومنها واصلوا إلى النيجر، حتى وصلوا إلى نقطة قرب الحدود الليبية، والتي تعتبر مركزًا لتجميع المهاجرين الأفارقة قبل ركوب البحر.

لحظات قبل الرحيل
يدوّن جاتي في كتابه أن الرحلة كانت شاقة ومتعبة، وأن الشاحنة التي احتشد فيها المهاجرون كانت قديمة ومتهالكة، والطريق طويل ومجهول، والمخاطرة غير آمنة، لكن الشباب كانوا مستعدين للمغامرة بكل حماسة، ولا شيء كان قادرًا على تغيير رغبتهم، فهم ينتظرون لحظة وصولهم إلى الشاطئ الآخر بكل شغف، حتى يبدأون في تحقيق الآمال والأحلام بعيدًا عن مناطق الفقر والمرض، التي ترعرعوا فيها، ويقول: إن أحدًا لا يستطيع تغيير آمال وأحلام هؤلاء المهاجرين الراغبين في دخول القارة الأوروبية.

تعرّف المؤلف إلى رفقاء الرحلة على ظهر الشاحنة القديمة المتهالكة، والتي كانت عنوانًا لما يمكن أن تنتهي به الرحلة، فالشاحنة عرجاء، وآمال المهاجرين عظيمة، والمناخ المحيط هو مناخ البؤس وعذابات الإنسان. يصف الزحام والاكتظاظ على ظهر الشاحنة بأنه لا إنساني. ليس هناك أي نوع من أنواع الرحمة على ظهر الشاحنة، فالروائح كريهة، والأوساخ في كل مكان، والأكل شحيح للغاية، ويندر وجود الماء، رغم السفر في قيظ الصحراء، لكن سحابة الأمل، التي كانت تظللهم، كانت تكمن في الأمنيات الكبيرة بالوصول إلى الجانب الآخر من شاطئ المتوسط.

مشاق رحلة إلى المجهول
عبر نقاط التفتيش المنتشرة في النقاط الحدودية في الدول الأفريقية، التي مرت بها الشاحنة في اتجاه الصحراء الليبية، كانت كلها قطعًا من الجحيم وفق وصف المؤلف، فيها انتهاك صارخ لأدمية المهاجرين من قبل قوات الجيش والشرطة في تلك الدول. اللاجئون العزّل يتعرّضون لأبشع أنواع المضايقات وسرقة أي شيء معهم، وعلى الذي يريد المرور عبر تلك النقاط أن يدفع الرشوة. أما الذي ليس معه فيُمنع من المرور، ويُترك وحيدًا، حيث تتقطع به السبل في الصحراء، وغالبًا ما ينتهي المطاف بهؤلاء الممنوعين بالاتجاه إلى منطقة تجمع للمهاجرين المطرودين، تسمّى "واحة العبيد"، حيث يعملون بالبغاء والتسوّل وتجارة الرقيق وكل أعمال العبودية واستغلال الإنسان.

يستمر الصحافي الإيطالي، عبر صفحات كتابه، في سرد الأحداث. ففي "أجايز" في مالي، إحدى محطات الرحلة المثيرة، تعرف إلى أحد الشباب، الذي يرتدي قميصًا عليه صورة فريق كرة القدم الإيطالي "أنتر ميلان". ويتحدث الشاب الأفريقي عن إعجابه بهذا الفريق، ويقول إنه يرتدي هذا القميص إمعانًا في حبه لإيطاليا، في وقت يعرف فيه أن إيطاليا وأوروبا لا تريد أن يدخل المهاجرون الأفارقة إلى أراضيها.

هكذا سعى الصحافي الإيطالي إلى التعرف أكثر إلى "سفياني"، هذا الشاب الأفريقي، الذي راح يكشف له الكثير من أسرار عوالم تلك الهجرة الأفريقية إلى أوروبا، أخذه سفياني إلى فناء السيارات في "أجايز"، حيث أهم النقاط التي يتجمع فيها الأفارقة الراغبون في الانتقال إلى شواطئ المتوسط من أجل الهرب إلى الضفة الأخرى منه.

يصف المؤلف المشهد بأن أكثر من ألف شخص كانوا يفترشون مساحات من الأرض في ذلك الفناء، ويقيمون فيها بلا مأوى. الإعياء والتعب يبدو عليهم، أجسادهم نحيلة من سوء التغذية والمعاناة اليومية، والتي أقل ما يمكن وصفها به أنها غير أدمية ومهينة للإنسان، رجال الشرطة والجيش يتجوّلون بينهم، ومن يقع في أيديهم تتم سرقته وانتهاكه والإساءة إليه ومعاملته بشكل مهين.

إخفاء الهوية
طوال الرحلة يحاول الصحافي الإيطالي إخفاء هويته الأوروبية، ويبقى أمام الجميع هو "بلال" الكردي، وهو الاسم الذي انتحله حتى تنجح مغامرته. على الحدود الليبية لم تفلح محاولاته في الحصول على تأشيرة لدخول ليبيا، مما يعني انفصاله عن بعض رفقاء الرحلة، خاصة "جيمس" و"جوزيف" النيجريين، اللذين تواصل معهم في ما بعد عبر البريد الاليكتروني، بعدما نجحا بالفعل في الوصول إلى إيطاليا، ليسجل وقائع ما حدث للفريق الذي استطاع دخول الأراضي الليبية. أما هو فقد اتجه إلى تونس، حيث انتقل منها إلى إيطاليا.

لم يفت الكاتب أيضًا أن يصف معاملة رجال الشرطة الليبية مع المهاجرين غير الشرعيين بالسيئة، يقول إنها ليست بأحسن حال من مثيلتها الأخرى من البلدان الأفريقية التي مر بها، فهي تتجاهل المهاجرين في الصحراء، وتتركهم وشأنهم، فيموت الكثير منهم في الصحراء من جراء العطش والجوع، ومن يتم الإمساك به، يودع معسكرات الاعتقال، حيث التعذيب والإساءة.

الوصول إلى القارة الثرية
عندما وصل المؤلف إلى نقطة النهاية مع مجموعة من الناجين قبالة السواحل الإيطالية، قفز كغيره إلى البحر، واستمروا في السباحة حتى وصلوا إلى الشاطئ الإيطالي، وهناك يستمر في التخفي، ومحاولة وصف واقع المهاجرين على الضفة الأخرى من المتوسط، وفي أول نقاط الوصول إلى القارة الثرية، يرصد المعاملة السيئة من قبل الشرطة الإيطالية ورجال حرس الحدود ضد المهاجرين البؤساء.

في هذا الإطار يصف المؤلف خيبة أمل المهاجرين في انطباعهم الأول عن القارة الثرية. يقول إنهم يعاملون بكثير من الضرب والإهانة والشتائم من قبل الشرطة الإيطالية، لحملهم على الاعتراف ببلدانهم الأصلية، حتى يتم ترحليهم مرة أخرى إليها. ويرى أن استجوابهم فيه الكثير من الظلم وعدم احترام آدميتهم. ويصف المعسكرات التي يعيشون فيها بأنها سيئة ومكتظة وغير صحية وغير آدمية.

وينتقد الحكومة الإيطالية بشدة في هذا الشأن، ويكشف النقاب عن اتفاقات سرية بين إيطاليا وليبيا، يتم بمقتضاها ترحيل المهاجرين في غضون خمسة أيام فقط إلى خارج الحدود الإيطالية عائدين إلى ليبيا. أما من يستطيعون الإفلات من كل تلك العوائق، وينطلقون داخل الأراضي الإيطالية، فإن ثمة مشاكل أخرى تقابلهم، وهي أنهم يعملون في أعمال شاقة جدًا، وفي مزارع الطماطم الإيطالية بأجور زهيدة، ما يذكّر بعهود العبودية التي شهدتها أوروبا من قبل.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف