لأن الأعياد الإسلامية من ثقافة الآخرة لا ثقافة الدنيا
العراقيون يزورون موتاهم في العيد للفضفضة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لا يبتهج العراقيون في أعيادهم، بل يجدونها فرصة لزيارة موتاهم في قبورهم، وبثهم هموم الدنيا، وإطلاق العنان لدموعهم، في طقس اعتادوه منذ زمن، وبقوا عليه مع الويلات الكثيرة التي ألمت بهم.
عبد الجبار العتابي من بغداد: مع حلول عيد الفطر في العراق، تحركت قوافل المواطنين باتجاه المقابر لزيارة ذويهم الموتى. وصار من اللافت للنظر أن يكون اللون الاسود هو الاكثر تميزًا بين الالوان، فيما لا يخفي الكثيرون انهم لا يشعرون بالعيد ولا ببهجته، بسبب الاوضاع الامنية المتردية، التي ما زالت تزيد من مواكب المحمولين إلى المدافن.
ويجد الكثير من العراقيين في العيد مناسبة مهمة لزيارة موتاهم، وقضاء اوقات مريحة لهم من عناء الدنيا وعذابات الفراق الابدي، لذلك يقررون ذلك قبل انتهاء ايام شهر رمضان ويستعدون له، ولا يهمهم الازدحام الكبير الذي تكون عليهم المقابر ولا تعب الطريق ولا حرارة الجو، مؤكدين أن هذه الزيارات واجبة لأنها تحمل في داخلها الكثير من المعاني، من أهمها الوفاء لمن مات واستذكاره.
كما هي مناسبة لبث الهموم حيث يجد الكثيرون أنهم يستطيعون أن يفضفضوا بهمومهم للميت كأنه يسمعهم، وهذا طقس اعتاده العراقيون من زمن بعيد، وهو يمثل في الاصل ظاهرة اعتيادية، لكنه اصبح حالة طبيعية منذ الحرب العراقية الايرانية، حين كانت ماكينة الموت تحصد الارواح، ثم ازدادت قسوة مع الحروب التالية والارهاب الذي ما زال يضرب الحياة العراقية، فلا يجد العراقيون في العيد الذي رفعوا منه صفة "سعيد" الا التوجه نحو المقابر.
بث للهموم
رأى قثم القيسي، نجل الاديب الموسوعي الراحل زهير احمد القيسي، أن العيد مناسبة لزيارة الموتى وبثهم همومًا يمتلئ بها الواقع العراقي، وقال: "امي قررت الذهاب في أول ايام العيد للمقبرة لتزور قبر والدي، فقلت انتهز الفرصة وأزوره معها، عسى أن ارتاح قليلًا لأنني مشتاق اليه وروحي تتحرق اليه".
واضاف: "ابي توفي قبل اشهر، وهذا العيد هو الاول وهو ليس بيننا، ولزامًا أن اكون هناك بالقرب منه، وان احمل إليه احزاني التي لن يمحوها العيد من صدري، مثلي مثل الكثير من العراقيين الذين يجدون في الترحم على امواتهم سلوتهم وراحتهم، سأزوره حاملا اكليل همومي، ولعلي أفضفض له ببعض ما اخفيه عن نفسي، اقول له انا احدثك لانك لا تعي معنى الخوف".
اما الحاجة ام ستار فقد بكت وهي تتحدث عن وجعها، قائلة: "ليس عندنا للعيد طعم إن لم نذهب إلى القبور لزيارة احبائنا، نحكي لهم عن همومنا ونبكي ونخفف من حزن ارواحنا التي اتلفها فراق الاحبة، انا احرص في كل عيد على أن ازور زوجي الذي مات مريضًا وابني الذي مات في انفجار عبوة، كما ازور الموتى من أقاربي، لامضي ساعة بكاء اشعر بالراحة بعدها".
واضافت: "نتمنى أن يرفع ربك الغمة عن العراق ويوحد اهله، لكن الذي فينا من حزن لا يتركنا نبتهج، فأول ما يأتي العيد نركض إلى القبور كأن اهالينا من الموتى ينتظروننا".
متعة وعبرة
أكد الحاج ابو اسماعيل أن في الذهاب إلى القبور عبرة ومتعة، وقال: "أصبحت زيارة القبور عند العراقيين امرًا لا بد منه، فالعوائل فقدت أبناءها واحبّاءها، وهم لا يمكن أن ينسوا ذلك، سواء في الحروب أو الارهاب، وصرنا نشعر بالمتعة عندما نزور القبور ونجلس مع احبائنا ونسائلهم ويسائلوننا ونذرف الدمع ونستذكر ايامهم معنا، ونقول لهم أنتم السابقون ونحن اللاحقون".
واضاف: "اذهب لزيارة قبر ابن لي قتله الارهاب في العام 2006، ايام الطائفية الله يلعنها، وقبله كنت ازور امي وابي والآن صار ابني معهم، ازورهم واحدًا واحدًا وابكي عند كل واحد منه قليلا واعايدهم، نشعل لهم شمعات وبخور ونرش على قبورهم ماء الورد ونقرأ لارواحهم سورة الفاتحة، واحيانا نصلي لهم ركعتين لوجه الله".
يقول المعلم عبد الكريم السيد إن الحزن يرفض أن يتخلى عن العراقيين، لذلك نسوا معنى الفرح الحقيقي، فكل يوم تطلع لهم مأساة او مصيبة تجعلهم لا يعرفون سوى أن يحزنوا، لذلك تجدهم يبحثون عن فرصة او مناسبة لتفريغ همومهم وتنشيط دموعهم.
واضاف: "كنت اذهب إلى القبور لزيارة اهلي الراقدين هناك، لكن منذ عامين وأنا أزور ابني الذي قتلته مولدة كهربائية، لذلك طلقت الحياة بالثلاث، فلم أعد اعرف غير الحزن".
ثقافة الآخرة
إلى ذلك، اكد الباحث في علم النفس محمد شامي أن الاعياد الاسلامية هي ثقافة الآخرة، فقال: "اولًا، زيارة المقابر تأتي من باب الوفاء للميت، وثانيًا، الاعياد الدينية هي اصلأ اعياد من ثقافة الاخرة وليست من ثقافة الدنيا، ولهذا لا تزار المقابر في راس السنة والميلاد والنوروز، ثم أن العراقيين اصلًا لم يروا شيئًا من الحياة، فتجدهم لا يعرفون غير الحزن والكآبة، والاهم أن اغلب الزيارات اليوم تاتي من اجل اناس فارقوا الحياة قبل اوانهم، اي شباب على الاغلب، وهذا ما لم نألفه من قبل عندما كانت المقابر للاباء وليست للابناء والازواج".