التغيير السياسي الجذري يتطلب عقودًا ليتحقق
الربيع العربي: الثورة سهلة جدًا لكن السلام صعب جدًا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يقول المراقبون إن التغيير السياسي الجذري في أي مكان يتطلب عقودًا أو أجيالًا ليتم. لذا، فإن الأزمات التي تعيشها مصر ودول الربيع العربي الأخرى مؤلمة، لكنها حتمية بعد ما عانته في ظل استبداد طال عقودًا.
في ليبيا انبرت ميليشيات مسلحة لملء الفراغ الذي تركته ثورة أسقطت حاكمًا دكتاتوريًا. وفي سوريا تحولت انتفاضة شعبية إلى حرب أهلية أسفرت عن مقتل أكثر من 100 الف شخص حتى الآن وتحول مناطق من سوريا إلى ملاذ لجماعات جهادية. وفي تونس تأخر إعداد دستور جديد للبلاد بسبب الصراعات السياسية بين القوى التي جاءت بها أولى ثورات الربيع العربي.
والآن في مصر، أكبر الدول العربية سكانًا وكثيرًا ما تعتبر السباقة إلى تحديد اتجاهات العالم العربي، قُتل مئات بينهم عناصر من قوى الأمن اثناء العملية التي نفذتها قوات الجيش والشرطة لفض اعتصامات الاخوان المسلمين وأنصار الرئيس المعزول محمد مرسي.
أنظمة سابقة... وبديلة
من الواضح أن الوضع السابق عندما كانت مقدرات هذه البلدان بأيدي مستبدين يزورون الانتخابات ويحكمون بمراسيم تمليها نزواتهم ويبطشون بالمعارضين، تلقى ضربات قاصمة ولكنها على ما يبدو لم تكن قاصمة بما فيه الكفاية لاقتلاع النظام القديم من الجذور خلال السنوات الثلاث منذ اندلاع الانتفاضات التي أوحى التفاؤل بتسميتها "الربيع العربي".
ويرى مراقبون أن هذا تبدى في مصر يوم الأربعاء بالعودة إلى الاساليب السابقة ضد الاخوان المسلمين بعد خيبة الأمل التي أشاعوها بين قطاعات واسعة من المصريين خلال عام واحد من سلطتهم.
ولكن المجهول الأكبر في ما يحدث هو النظام البديل. فإن غالبية الانتفاضات التي فجرها الربيع العربي انقلبت بعد إطاحة النظام القديم إلى صراعات مريرة تتنازع فيها قوى سياسية متعددة لحسم قضايا جوهرية مثل دور الدين في الحياة العامة ومعنى أن يكون الفرد مواطنًا وليس رعية ومبادئ الشراكة الوطنية والعلاقة بين الجيش والسلطة.
ويرى مؤرخون ومحللون مختصون في منطقة الشرق الأوسط أن الركود السياسي والاقتصادي في ظل عقود من الاستبداد والدكتاتورية فجرت انتفاضات الربيع العربي، جرد البلدان العربية من أي قدرة يُعتد بها على بناء نظام جديد ومجتمع مدني.
وفي حين أن بعض الحركات حققت اهدافها الآنية بإسقاط ديناصورات حكمت عشرات السنين في اربعة بلدان، فإن اهدافها الأكبر في تحقيق الديمقراطية والكرامة وحقوق الانسان والمساواة الاجتماعية والأمن الاقتصادي تبدو الآن بعيدة كما كانت من قبل.
وقال المحلل اللبناني سركيس نعوم "إن النظام القديم انتهى وأن معالم النظام الاقليمي الجديد تُرسم بالدم، وسيتطلب بناؤه وقتًا طويلاً". ولاحظ نعوم أن شعوب هذه البلدان كلها عانت قمعاً متشابهاً رغم اختلاف أنظمتها الحاكمة، فانتقلت عدوى الانتفاضة بسرعة فيها. "ولكن لا أحد في سوريا أو ليبيا أو مصر أو تونس ممن ارادوا التخلص من النظام، كان مستعدًا لما يأتي بعده"، على حد تعبيره.
انقسامات عميقة
وكشف الربيع العربي من نواحٍ عديدة ما تعانيه هذه البلدان من انقسامات مجتمعية عميقة بين العلمانيين والاسلاميين، وبين الطوائف المذهبية المختلفة، بل وزادها تفاقمًا.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن جيفري مارتيني الخبير بشؤون الشرق الأوسط في مؤسسة راند للأبحاث "أن هذا استقطاب سياسي تلقى جرعة من المنشطات حيث يحاول كل طرف اقصاء الآخر عن السياسة".
دول الربيع
وفي تونس، مهد الانتفاضات، لم يتمكن الحزب الاسلامي المعتدل ممثلاً بحركة النهضة الاسلامية من تحقيق توافق كافٍ لكتابة دستور جديد، فيما تعرض قياديون في المعارضة إلى الاغتيال.
وكان الاستبعاد السياسي عقبة كأداء امام تجاوز المرحلة الانتقالية في مصر. فبعد انتصار الثورة على نظام حسني مبارك اسفرت اول انتخابات ديمقراطية عن فوز الرئيس المعزول محمد مرسي وجماعة الاخوان المسلمين. ولكنهم امضوا العام الذي اعقب الانتخابات في اقصاء الآخرين وتركيز السلطات بأيديهم دافعين المعارضة إلى الميادين مجددًا في تظاهرات ضخمة ضد استغلال الاخوان للديمقراطية وتعهيرها من أجل احتكار السلطة.
وفي المنطقة بصفة عامة أخفقت الانتفاضات في الاستجابة لمطالب ملايين المواطنين الاعتياديين بالخبز وفرص العمل والعلاج والكرامة الانسانية بل أن اوضاعهم ساءت بعد الانتفاضات.
وقال جوشوا لانديس مدير مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة اوكلاهوما لصحيفة نيويورك تايمز "إن غالبية اقتصادات الشرق الأوسط التي هزها الربيع العربي كانت أصلًا سائرة في الاتجاه الخطأ"، مشيرًا إلى أنّ الضائقة الاقتصادية الناجمة عن تنامي أعداد الشباب العاطلين والغلاء والجفاف أسهمت في اشعال الانتفاضات بقسط لا يقل عن مساهمة الظلم السياسي في تفجيرها.
وأضاف لانديس أن الربيع العربي ناقوس انذار ينبه إلى معركة أكبر تخسرها هذه البلدان تتمثل في معالجة تشظيها المجتمعي وانفجارها السكاني وتخلف نظامها التعليمي تخلفًا مريعًا وشح مواردها المائية.
خيبة
وتسبب مآل الربيع العربي حتى الآن في خيبة أمل الكثير من الناشطين العرب بالحركات التي وظفوا فيها طاقاتهم وخاطروا من أجل أهدافها بحياتهم في أحيان كثيرة. ويصح هذا بصورة متزايدة على سوريا حيث انزلقت انتفاضة ديمقراطية سلمية في البداية إلى حرب أهلية ذات بُعد طائفي صارخ مع قيام جماعات اسلامية متطرفة بدور متعاظم في ساحة المعركة.
وقال سهيل علي الذي كان حتى الآونة الأخيرة يقود فصيلًا مسلحًا صغيرًا يقاتل ضد قوات النظام، "في البداية كانت ثورة حقيقية، وكنتُ متحمساً للعمل فاشتريتُ سلاحًا من جيبي وبعتُ قطعة أرض لشراء العتاد. اما الآن فإن الوضع مختلف تمامًا".
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز عن سهيل أنه توقف عن القتال بدافع الاحباط إزاء ما يسميه الفساد بين القادة الاسميين لمقاتلي المعارضة ونزعة بعض الجماعات إلى تكديس السلاح بدلًا من القتال لإسقاط العدو المشترك بشار الأسد.
أزمات حتمية
ويلاحظ مؤرخون أن التغيير السياسي الجذري في أي مكان يتطلب عقودًا أو اجيالًا لانجازه. وعلى سبيل المثال أن ربيع براغ عام 1968 سُحق وهُزم ولكنه كان عاملاً مساعدًا للتغييرات التي حدثت في أوروبا الشرقية مؤدية إلى انهيار الاتحاد السوفياتي في التسعينات. ويؤكد هؤلاء المؤرخون أن القلاقل التي تعيشها مصر وبلدان أخرى مؤلمة لكنها حتمية بعد ما عانته في ظل الاستبداد.
وقالت منى يعقوبيان المستشارة المتخصصة بمنطقة الشرق الأوسط في مركز ستمسون للأبحاث في واشنطن "أنا لم أيئس من العمليات الانتقالية هذه وكل ما في الأمر اعتقد أننا مقبلون على فترة من الاضطرابات الشديدة".
حرية
آخرون لاحظوا أن مثل هذا الغليان كثيرًا ما يطمس تغييرات مجتمعية عميقة أحدثها الربيع العربي. وعلى سبيل المثال أن الخبير الدستوري المصري زياد العلي يرى أن من الممارسات الطبيعية الآن في بلدان الربيع العربي ان يجاهر المواطن باعتراضه على الحاكم وحتى السخرية منه، وهو امر ما كان ليتخيله أو يفكر فيه أحد قبل سنوات قليلة لا أكثر.
وقال العلي "إن ديناميكية حرية التعبير والليبرالية السياسية بوجود الكثير من الأحزاب والأشخاص الذين يعبرون عن آرائهم بحرية ستقودنا باتجاه ايجابي على المدى البعيد".
وقال القيادي المعارض في اليمن محمد الصبري إن هذا الاحساس العام بقوة الجماهير أهم انجاز حققته الانتفاضات حتى الآن. واضاف الصبري "أن النخب والقادة في أي مجتمع، سواء أكان ثوريًا أو لم يكن، يمكن أن يستقيلوا ويقولوا "خلاص" ولكن الشعب لا يمكن أن يستقيل".