أخبار

خرج عن صمته وتحدّث من وراء حجاب تفادياً لردود أفعال النقابة

"إيلاف" تحاور أول صحافي مصري يزور إسرائيل في عهد الإخوان

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك



محمد نعيم
اعترف صحافي مصري رفض الكشف عن هويته بأنه زار إسرائيل خلال حُكم الرئيس المعزول محمد مرسي، مخالفاً بذلك تعليمات نقابة الصحافيين، التي تحظر التطبيع مع الدولة العبرية، وفي حديث لـ "إيلاف"، تحدث الصحافي عن مغامرته التي استغرقت 72 ساعة، وما انطوى عليها من زيارات لمؤسسات إسرائيلية، يأتي في طليعتها وزارة الخارجية والكنيست.

القاهرة: "زرت إسرائيل.. نعم زرت إسرائيل، لكني نادم على الزيارة".. بهذه العبارة الحاسمة، استهل الصحافي المصري - الذي رفض الكشف عن هويته - اعترافاته حول زيارة الدولة العبرية خلال انتخابات رئاسة الوزراء الإسرائيلية المنصرمة، والمؤسسات الحكومية التي سُمح له باختراق أبوابها، بداية من الكنيست "البرلمان الإسرائيلي"، مروراً بلجان انتخابات رئاسة الوزراء، وصولاً إلى مقر وزارة الخارجية ذاته، ولقائه عددا ليس بالقليل من الشخصيّات العامة في تل أبيب، وما انطوت عليه تلك اللقاءات من أبعاد، تعكس مدى رغبة إسرائيل في تزييف وعي الرأي العام المصري والعربي، عبر ما يمكن وصفه بغسيل أدمغة أصحاب الأقلام، لضمان ولائها أو على الأقل تحييد مواقفها حال الكتابة عن تل أبيب.

وفي حوارهمع "إيلاف" عاد الصحافي المصري بذاكرته إلى الوراء قليلاً، ليدق ناقوس الخطر ويحذر نظراءه الصحافيين وغيرهم من داء الفضول المهني، ومحاولات الانفتاح على الآخر بداعي استكشافه، كما يروّج لذلك دعاة التطبيع، فالحقيقة وفقاً لواقع الحال في إسرائيل، تجزم بأن كل خطوة مصرية أو عربية في مطار بن غوريون، تزيد اقتراب الإسرائيليين من إضفاء شرعيّة على سياستهم، وربما وجودهم على حساب أراض وشعوب عربية.

من باب تغطية الانتخابات العامة الإسرائيلية، جاء عرض تل أبيب مغلّفاً بعناصر التشويق، التي يأتي في طليعتها زيارة الأماكن المقدسة بالمدن المحتلة، والإقامة الكاملة "فول بورد" في أفخم فنادق القدس وتل أبيب، فضلاً عن تنقلات مجّانية عبر حافلة خاصة "ليموزين"، وتذاكر الطيران "فيرست كلاس". وبعبارة أخرى لن يتحمّل الزائر أية تكاليف منذ إقلاع طائرته من مطار القاهرة الدولي حتى العودة إليه من إسرائيل.

كم استمرت الزيارة وهل كنت بمفردك؟
لم تتجاوز مدة الزيارة 72 ساعة فقط، إلا أن برنامجها كان مكثفاً جداً، لدرجة أن النوم خلال الرحلة لم يزر عيني، باستثناء ساعات قليلة، ولا أذيع سراً إذا قلت انه منذ أن تطأ قدماك مطار بن غوريون، تساورك الشكوك في كل تصرف يدور حولك، بداية من دخول صالة الوصول "صالة كبار الزوار" وحتى إنهاء إجراءات العودة للقاهرة، كما تُطل في رأسك مشاهد تختزل صوراً بانورامية لعدد ليس بقليل من الأعمال الدرامية، التي تتحدث عن إسرائيل وصراعها طويل المدى مع الفلسطينيين والعرب، وزيارة السادات للدولة العبرية، وحرب أكتوبر ومعارك الاستنزاف ونكسة 67، ثم صورة عملاء الموساد ومعارك تل أبيب الاستخباراتية ضد القاهرة، ووسط كل ذلك تهدأ من روعك قليلاً، اتفاقية السلام المبرمة بين البلدين.

كنت أنا المصري الوحيد، الذي ساقه شبق الفضول للتعرف إلى إسرائيل عن قُرب، بينما اكتشفت لاحقاً أن أربعة من الصحافيين والإعلاميين الأردنيين، سيشاركونني برنامج الرحلة المثيرة، لكنهم استبقوا وصولي براً إلى إسرائيل عبر الجسر الواصل مع الأردن، ويسميه الإسرائيليون جسر "اللمبي".

صف لنا مشاعرك وأنت تغادر مطار القاهرة الدولي في طريقك إلى إسرائيل؟
كانت مشاعر عادية فلم اشعر - أو ربما تناسيت - أنني في طريقي إلى إسرائيل، خاصة أن الطائرة التي أقلتني كانت تابعة لشركة مصر للطيران، وكانت متّجهة إلى العاصمة الأردنية عمّان، فضلاً عن أن ركّابها كانوا مصريين وسودانيين وخليجيين، لكن مشاعر الرهبة وربما الخوف تسللت إلى قلبي، حينما كنت انتظر طائرة الخطوط الجوية الأردنية، التي ستقلني من مطار الملكة علياء إلى مطار بن غوريون رأساً.

خلال ساعات الانتظار الطويلة في عمّان "5 ساعات"، استحالت صالات المطار إلى برلمان، يجمع عددا كبيرا من الجنسيات العربية، وفي محاولة لتمزيق الملل وطول الانتظار، أدار أشقاء العروبة حلقات نقاشية، لم يكن مستغرباً أن تنصب في مجملها على إشكاليات سياسية، ندر منها يشيد بالثورات العربية المعروفة بالربيع العربي، بينما يصب فصيل آخر جام سخطه على ما خلّفته تلك الثورات من وبال وفرقة وفوضى على شعوبها، ووسط هذا السجال المتشنج في كثير من الأحيان، تعرفت سُلة من دوائر النقاش الحاد على هويتي، فتركوا ما يتحدثون عنه، واجمعوا في حديثهم معي على أن مصر ما زالت قبّانة ميزان المنطقة، وان صمودها أمام محاولات التفتيت والتقسيم سيكون عنواناً عريضاً لمستقبل دول المنطقة، أما إذا حدث العكس فالخراب سيكون قدراً حتمياً لا مناص من الابتعاد عنه أو تفاديه.

هل عرف محاوروك من الدول العربية انك في الطريق من مطار الملكة علياء إلى تل أبيب، وماذا عن مواقفهم معك؟
نعم عرفوا وجهتي، ورغم تبريري للزيارة بأنني صحافي، وسأقوم بمهمة مهنية أغطي من خلالها انتخابات رئاسة الوزراء الإسرائيلية، إلا أنهم انفضوا عني وتركوني قائماً بمفردي، فشعرت بغربة بين أشقائي، ولم يكن موقفهم اقل حدة من "إيمان"، تلك الفتاة الأردنية الجميلة، التي تعرّفتُ إليها في السوق الحرة في مطار عمّان، حينما اقتربتُ منها عابثاً وتعللت بشراء صندوق من السجائر، لأتبادل معها أطراف الحديث الناعم، وما كدت اقترب من دعوتها على احتساء كوب من الشاي، إلا سألتني السؤال نفسه الذي حاولت إخفاء الإجابة عنه، لكنها اكتشفت التأشيرة الإسرائيلية على جواز سفري، حينما دوّنت بياناته لديها وفقاً لقانون البيع والشراء في المنطقة الحرة، فحال ذلك دون تجاوبها مع دعوتي، وتعللت بأن ظروف عملها تمنعها من ذلك، لكنها في الوقت ذاته لم تتردد في سؤالي: ألا تتخذ موقفاً سياسياً من إسرائيل؟، فبادرتها برد تقليدي قلت فيه: سيدتي الرقيقة الموقف السياسي شيء والمهمة الصحافية شيء آخر، فدعت الله بتوفيقي، لكن دونما اقتناع بردي على سؤالها الأخير.

لم يبعدني عن إيمان الأردنية الجميلة سوى صوت المضيفة الأرضية، وهي تدعو السادة المسافرين إلى تل أبيب عبر شركة الطيران الأردنية بالاستعداد والتوجه إلى الطائرة، فكان الفراق الذي وعدتني به على استحياء بلقاء عابر في طريق العودة.

الآن أنت في طريقك المباشر إلى مطار بن غوريون، صف لنا المشهد بالتفصيل؟
الطائرة الأردنية كانت صغيرة نسبياً، وصعد على مدارجها معي عدد قليل من الإسرائيليين، الذين كانوا في طريقهم إلى تل أبيب من دول مختلفة، وحال جلوسي في مقعدي انتشرت حول مسامعي همهمات باللغة العبرية التي لا افهمهما، لكنني أدركت هويتها نظراً لجنسية متحدثيها، وتميزها بكثرة حرفي الخاء والشين. لم يمض وقت قصير، إلا استعد ركاب الطائرة للهبوط في مطار بن غوريون، حينئذ خفقت دقات قلبي رهبة، وأنا أراقب عبر نافذة إلى جواري أضواء مدينة تل أبيب.

على باب صالة وصول كبار الزوار، استقبلني بترحاب بالغ شاب إسرائيلي لم يتجاوز من العمر 25 عاماً، وقدم نفسه لي على انه احد مستخدمي شركات العلاقات العامة، وقام بتسهيل كافة إجراءات مغادرة المطار، وخلال الانتهاء من تلك الإجراءات، راقبت عيني كل تفاصيل المكان، وشعرت بالغربة وانعدام الأمان وأنا انفرد بجنسيتي المصرية وسط كم هائل من بني إسرائيل، الذين طالما سمعت وقرأت عن عنصريتهم وكراهيتهم للعرب.

لدقائق تمنيت العودة للقاهرة ولم يقمع أمنيتي إلا ذاك الشاب الإسرائيلي، حينما قطع شرودي واخبرني بأن كل شيء انتهى وينبغي علينا استقلال السيارة التي تنتظرنا بالخارج، للتوجه إلى احد فنادق القدس الغربية.

هل كان تعامل الإسرائيليين معك فظاً حتى يتسلل إليك الخوف وربما الرهبة التي تتحدث عنها؟
على العكس تماماً، المعاملة كانت في غاية الاحترام والتبجيل، وربما أثار المبالغة فيها بداخلي شكوكاً حول الهدف منها، ففي كل لقاء أو محادثة مع أي شخص، تحتل السياسة محوراً رئيسياً في النقاش، ويبدو محادثك من الإسرائيليين مهما كان مستواه الثقافي خبيراً سياسياً حاذقاً، ومناوراً في استخدام ألفاظه وعباراته، وكان من بين هؤلاء سائق السيارة التي نقلتنا من مطار بن غوريون إلى القدس، فحينما علم أنني صحافي مصري الجنسية، وأنني ازور إسرائيل لتغطية انتخابات رئاسة الوزراء، تحدّث كثيراً عن جده الذي كان يقيم في حي المعادي بالقاهرة، وساق عدد من عبارات اللهجة المصرية الدارجة، لخلق قنوات من التقارب معه خلال الحديث، إلا انه انتقل سريعاً إلى الحديث عن علاقة الفلسطينيين بإسرائيل.

سألني سائق التاكسي بشكل مباشر عن رأيي في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فقلت في رد حاسم: تحتلون أرضهم ويبحثون هم عن إقامة دولتهم المستقلة. فتبسم ضاحكاً وقال: سيدي الصحافي المصري، صباح غد سأمر عليك بالفندق - إن رغبت - وسأصطحبك على نفقتي الخاصة بسيارتي طيلة اليوم، لنلتقي عدداً لا بأس به من الفلسطينيين ونسألهم، هل يريدون وطناً مستقلاً مقابل منعهم من العمل في إسرائيل، وسحب البطاقة الزرقاء التي تجيز لهم التجول في الدولة العبرية؟!، فأجبته متسائلاً: "تساومون الفلسطينيين بفقرهم مقابل أرض ووطن عاشوا فيه قبلكم بمئات السنين؟، فبُهت السائق الإسرائيلي من ردي الحاسم، وتذكّر أنني عربي ومصري، ولم يكن أمامه سوى الانسحاب من النقاش، والتركيز في طريقه إلى القدس، لنصل بعد بُرهة إلى الفندق.

من كان بانتظار وصولك إلى الفندق؟
كان بانتظاري في الفندق احد مستخدمي إدارة العلاقات العامة في الخارجية الإسرائيلية، وهو رجل يبلغ من العمر 55 عاماً تقريباً، عرفت بعد ذلك انه ضابط متقاعد في الجيش الإسرائيلي، وينتمي في عرقه إلى طائفة الدروز، ولا يختلف كثيراً في طباعه عن شخصية الصهيوني في الدراما المصرية، فرغم حفاوة استقباله إلا أنني فطنت إلى طباعه من الوهلة الأولى، وأصبحت انطباعاتي عنه يقينا في نهاية الرحلة، التي لم تتجاوز 72 ساعة.

ما البرنامج الذي كان مقرراً لك القيام به في أعقاب وصولك القدس؟
كانت هناك مراوغة ملحوظة في شرح تفاصيل برنامج الزيارة، إذ اكتفى المسؤول الدبلوماسي بالإشارة إلى انه في أعقاب صعودي للجناح المخصص لي، سألتقي به وعدد من الصحافيين والإعلاميين العرب، الذين ينتظرون على أحر من الجمر لقاء ذاك الصحافي المصري الوحيد، الذي يزور إسرائيل خصيصاً لتغطية انتخاباتها العامة، وحينما سألته عن جنسية هؤلاء العرب، ابتسم وقال: "صديقي ستعرف كل شيء، عليك أولاً التعرف على جناحك الخاص وترتيب أغراضك، وبعدها ستلتقي أبناء العروبة".

لم أقف كثيراً أمام تعمده إثارة فضولي، وبعد 20 دقيقة تقريباً عدت إلى لوبي الفندق، ومن هناك اصطحبني الدرزي ذاته إلى مطعم صغير ملحق بالفندق، لأجد أمامي أربعة شباب قدّموا أنفسهم على أنهم إعلاميين وصحافيين أردنيين، جاءوا لذات الغرض الذي ساقني من القاهرة إلى تل أبيب، وبعد تناول العشاء قمنا معاً برحلة قصيرة في القدس الغربية، زاد خلالها تعارفنا واقترابنا وتلاقينا، وفي طريق العودة للفندق، اخبرنا المسؤول عن تنسيق برنامج الزيارة، أننا سنزور البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" صبيحة الغد، تليه زيارة مماثلة إلى الخارجية الإسرائيلية، التي لا تبعُد كثيراً عن مقر البرلمان.

ما إن انتهى الدبلوماسي الإسرائيلي من عرض برنامج الغد علينا، حتى أمعن النظر في عيوني وزملائي الأردنيين ليرى انطباعنا، فتظاهر الجميع بالرغبة وربما الفضول في زيارة المؤسستين.

كيف كان انطباعك أنت؟
مشاعر مختلطة اعتملت بداخلي، ما بين الفضول المهني وانتهاز فرصة التعرف على المكان، الذي سبقني إلى زيارته الرئيس الراحل أنور السادات، وبين رهبة الغرض الإسرائيلي من زيارتنا المزمعة، ودار هذا التضارب في رأسي، وأنا احتسي فنجان القهوة التركي في شرفة جناحي بالدور الثالث عشر، وأضواء مدينة القدس تتلاعب خلف دخان السيجارة، التي أدخنها بشراهة من فرط التفكير في رحلة الغد، وما تحمله من مفاجآت، اغلب الظن أنها ستكون بعيدة عن مهمتي الصحافية، وفجأة قررت الخلاص من جدل التوقعات وخلدت إلى النوم، خاصة بعد إجهادي من عناء السفر.

وماذا عن صباح اليوم التالي؟
في تمام السابعة والنصف من صباح اليوم التالي، توجهت إلى مطعم الفندق لتناول وجبة الإفطار، وبعدها اتصل مسؤول العلاقات العامة الدبلوماسي، ليخبرني بأن السيارة تنتظرني وزملائي الأردنيين، للتوجه إلى مقر البرلمان "الكنيست"، وبعد تجمعنا تحركت بنا السيارة إلى هدفها، وفي الطريق وصف لنا مرافقنا الدرزي عدداً ليس بالقليل من المقار الحكومية الإسرائيلية في القدس، ومنها وزارة الأمن الداخلي التي مررنا بجانبها، ثم وزارة الخارجية التي سنزورها بعد زيارتنا للكنيست.

على مرمى النظر اطل مبنى البرلمان الإسرائيلي، تلوّح فوق أركانه الأعلام الإسرائيلية، ودون ترتيب مُسبق خيم الصمت على جميع من بالسيارة الفارهة، لمتابعة أدق تفاصيل المبنى، والمساحة الشاسعة التي يحتلها، وبدأت سرعة السيارة تنخفض رويداً رويداً في إشارة إلى أننا أشرفنا على الوقوف أمام بوابة الكنيست الرئيسية، وما إن توقفت السيارة إلا هبط منها مرافقنا الإسرائيلي، وطلب جوازات سفرنا ليعرضها على امن البرلمان، ولم تستغرق إجراءات الدخول سوى دقائق معدودة، انطلقنا بعدها إلى باحة واسعة أمام المقر ذاته، ومنها دلفنا إلى داخل المبنى لتقودنا فتاة ترسم على وجهها ابتسامة عريضة، عرفنا بعد ذلك أنها سكرتيرة القاضي الإسرائيلي "اليكيم روبنشتين" رئيس اللجنة المركزية للانتخابات العامة، وفور وصولنا إلى قاعة كبيرة خرج علينا روبنشتين، ليمطرنا بعبارات الترحاب والسرور من زيارتنا للدولة العبرية.

ألمحت في حديثك إلى ظنّك بأن زيارة الكنيست ربما تكون بعيدة عن مهمتك الصحفيّة، فهل استشعرت ذلك؟
شعرت بذلك في كل خطوة داخل إسرائيل، وليس فقط في زيارة الكنيست، إلا أن لقائنا رئيس اللجنة المركزية للانتخابات عكس إلى حد كبير شعوري، فحديث الرجل عن منصبه ومهمته، والانتخابات العامة، وترتيب جداول العملية الانتخابية، كانت جميعها معلومات تقليدية، يمكن الحصول عليها عبر شبكة المعلومات الدولية "الانترنت"، لكنه زجّ في حديثه العديد من العبارات، التي حاول من خلالها استقطاب عقول الحضور، وإقناعهم بمدى دفئ العلاقات بين بلاده من جهة، ومصر والأردن من جهة أخرى، إبان التوقيع على اتفاقيتي السلام "كامب ديفيد" مع القاهرة، ووادي عربة مع عمّان، ومدى حرص كافة الأطراف على صياغة قرار بالسلام.

وساق المسؤول الإسرائيلي مواقفاً لإقامة الدليل على ما يقول، ومنها انه حال التوقيع على اتفاقية السلام مع مصر، كان السياسي المصري المخضرم الدكتور أسامة الباز من بين مهندسي الاتفاقية، ورغم أن روبنشتين كان دبلوماسياً صغيراً حينئذ، إلا انه اقترب كثيراً من الباز، وتعرّف كلاهما على الآخر في أجواء مفعمة بالود والصداقة، لدرجة ان الدكتور الباز كان يناديه بـ "أبو البنات"، حينما علم أن روبنشتين لم ينجب ذكوراً. ولم تكن قصة روبنشتين مع الدكتور أسامة الباز اقل دفئاً من نظيرتها، التي ساقها عن الأردنيين.

ما ابرز المشاهد التي لفتت انتباهك خلال زيارة البرلمان الإسرائيلي؟
أبرز المشاهد اختزلها افتراش عدد كبير من أطفال المدارس الذين لا تزيد أعمارهم عن خمس سنوات أرض إحدى قاعات الكنيست، بينما تقف أمامهم إحدى المعلّمات، لتشرح باهتمام بالغ ماذا تعني كلمة برلمان، وما معنى الديمقراطية، وكيف أن إسرائيل - على حد زعم المُعلّمة - تعتلي قائمة دول العالم الأكثر ديمقراطية، وأمام دهشتنا آثر المرافق الإسرائيلي شرح كافة تفاصيله، مشيراً إلى أن المدارس تقوم بمثل هذه الزيارات الفنية تلو الأخرى للكنيست وكافة مؤسسات الدولة العبرية، لترسيخ مفهوم العمل السياسي في عقول الأطفال، وتحريضهم على الانتماء لإسرائيل منذ نعومة أظفارهم.

وماذا بعد زيارتكم لمقر البرلمان الإسرائيلي؟
لم يستغرق تواجدنا في الكنيست سوى ساعة ونصف الساعة، طلبنا بعدها من الدرزي الإسرائيلي التوجه إلى المسجد الأقصى للصلاة وزيارة قبّة الصخرة، خاصة أن موعدنا في الخارجية الإسرائيلية كان في تمام الساعة الرابعة من عصر اليوم ذاته، فاستجاب المرافق لطلبنا، لكن بعد أن أوصانا بعدم التأخير، وفي البلدة القديمة استقبلنا أذان صلاة الظهر، صادحاً من مآذن ثالث الحرمين، فهرولنا في أزقّة المدينة المحتلة حتى وصلنا إلى باب دخول باحة المسجد الأقصى، وهناك كان في انتظارنا جندياً إسرائيلياً، عابس الملامح مدججاً بالسلاح، فاستوقفنا لفحص أوراقنا والتأكد من هويتنا وديانتنا، بينما وقف الدرزي الإسرائيلي بعيداً، لعلمه المسبق بأن مرافقتنا إلى المسجد من المحاذير الأمنية، التي لا يجب اختراقها. بعد الصلاة عدنا واستقلتنا السيارة إلى القدس الغربية مجدداً، لنتناول طعام الغداء في أحد المطاعم، وبسرعة البرق انطلقت بنا السيارة ذاتها إلى مقر الخارجية الإسرائيلية.

صف لنا مشهد دخول الوزارة
وقفت بنا السيارة أمام البوابة الرئيسية للمبنى، ورغم إننا كنا بمرافقة الدبلوماسي الدرزي، إلا أن إجراءات الفحص والتفتيش، كانت اشد تعقيداً من تلك التي جرت معنا في الكنيست، كان موظف الاستقبال بلحية كثّة، ويضع فوق رأسه الطاقية اليهودية الشهيرة، بينما يعاونه في عمله شاب نحيل، يرسم على وجهه ابتسامة دائمة، وحينما علم بجنسيتي المصرية، اقترب مني وأعرب عن أمنيته في زيارة مصر، وقال انه سمع كثيراً من جده الذي كان يقيم بالقاهرة ذات يوم العديد من الحكايات عن مصر والقاهرة، لذلك لن يفارقه حلم الزيارة حتى يخرج إلى حيز التنفيذ في يوم من الأيام، وأسهب الشاب الإسرائيلي النحيف في حديثه عن التحولات السياسية التي تشهدها مصر ودول الربيع العربي، مشيراً إلى أن بلاده تأمل في أن يكون هذا التحول خطوة على مسار الإصلاح السياسي والاقتصادي، وفرصة لالتفاف حكومات وشعوب المنطقة حول السلام.

وبعد الانتهاء من إجراءات دخول المبنى، عبرنا بوابة رقمية ومنها إلى أخرى تعمل بنفس الطريقة، لنجد أنفسنا في ساحة واسعة، يتوسطها حوض ضخم به أسراب هائلة من الأسماك المزركشة بالغة الجمال، وفي حين استوقفنا هذا المنظر لدقائق، طلب منا الدبلوماسي الدرزي دخول المبنى، للقاء عدد ليس بالقليل من الكوادر الدبلوماسية التي تنتظر وصولنا، وحال دخولنا لاحظنا كثافة كبيرة في عدد مستخدمي الوزارة، ورغم أن الساعة كانت تجاوزت الرابعة عصراً، إلا أن مستخدمي الوزارة يتحركون كخلايا النمل في كل اتجاه.

من كان باستقبالكم في مقر الدبلوماسية الإسرائيلية؟
استقبال حافل، كانت كافة الكوادر الدبلوماسية، خاصة مستخدمي إدارة مصر في استقبالنا، بما في ذلك السفير الإسرائيلي بالقاهرة يعقوب أميتاي، والوزير المفوّض ارئيل شفرانسكي، وسفير تل أبيب الأسبق في القاهرة شالوم كوهين، ورئيسة إدارة مصر في الخارجية الإسرائيلية أميرة اورون. وخلال حديث جانبي أظهرت الأخيرة - التي تجيد العربية بطلاقة - مدى رغبتها في التوصل إلى سلام بين إسرائيل وكافة شعوب المنطقة، وكانت جريئة حينما أكدت أن مفتاح سر التوصل إلى سلام حقيقي هو تسوية الخلافات العالقة في الملف الفلسطيني الإسرائيلي، وإعلان قيام دولة فلسطينية مستقلة إلى جانب الدولة العبرية، تعيشان الواحدة إلى جانب الأخرى في امن وسلام. أما السفير الإسرائيلي بالقاهرة ووزيره المفوّض، فاكتفيا بتوزيع الكروت والابتسامات علينا.

وماذا بعد ذلك؟
تلا هذا اللقاء الذي يمكن وصفه بلقاء تعارف، لقاء آخر مع مدير عام الخارجية الإسرائيلية، الذي لم يدّخر وسعاً في محاولات إقناعنا بمدى حرص إسرائيل على ترسيخ السلام مع الفلسطينيين ومع سائر شعوب المنطقة، وجافى الواقع حينما ادعى ان الفلسطينيين هم السبب في تعثُر مسار العملية السلمية، معتبراً أن بناء المستوطنات على أراض فلسطينية ضرورة تضطر لها الحكومة، بداعي استيعاب أعداد كبيرة من الشباب اليهودي، واعتبر أن التحدي الأكبر الذي تواجهه إسرائيل في الوقت الراهن هو الملف النووي الإيراني، ومدى حرص الحكومة الإسرائيلية على التعامل معه وفق أي خيار ترتئيه.

لم يطُل لقاؤنا ومدير عام الخارجية الإسرائيلية، وانتهى بمتابعة الكوادر الدبلوماسية الإسرائيلية التي حضرت اللقاء لانطباعات الحضور من الصحافيين والإعلاميين العرب وأنا منهم، وكان سفير إسرائيل الأسبق في القاهرة شالوم كوهين أكثر جرأة، حينما أوصانا في نهاية اللقاء بالعودة إلى بلادنا، والكتابة عن رغبة إسرائيل حكومة وشعباً في التوصل إلى سلام مع كافة شعوب المنطقة، وهنا اتضحت الرسالة التي استقبلتنا إسرائيل من اجلها. خلال مغادرة المبنى ابلغنا مرافقنا الدرزي أننا سنتوجه إلى الفندق لحمل حقائبنا، والتوجه من القدس الغربية إلى مدينة تل أبيب، لزيارة وتفقد عدد من اللجان الانتخابية صباح اليوم التالي.

كيف رأيت مدينة تل أبيب؟
مدينة ساحلية تطل على البحر الأبيض المتوسط، بالغة التنظيم في شوارعها، وتختلف تماماً في طرازها المعماري عن القدس، ففي حين تتميز المدينة المحتلة بطرازها وزخمها التاريخي في كل التفاصيل، تبدو تل أبيب كالمدن الجديدة ذوات الأبراج الشاهقة، وتشبه كثيراً مدينة دبي الإماراتية.

الفندق الذي أقمنا فيه كان بحي "طييلت"، وهو من أكثر الأحياء هدوءاً في تل أبيب، وحينما وصلنا مساءً إلى الفندق، اصطحبنا مرافقنا الدبلوماسي الدرزي إلى احد المطاعم المطلة على ساحل تل أبيب لتناول وجبة العشاء، وفي طريقنا من الفندق إلى المطعم المتاخم لاحظنا أعداداً هائلة من الكروت ملقاة على الأرض، تحمل أرقام هواتف وأسماء أصحابها من بائعات الهوى في المدينة، كما يحدد كل كارت سعر صاحبته مقابل قضاء ليلة ساخنة في أحضانها.

أما المطاعم المنتشرة على طول ساحل المدينة، فتقف أمام كل واحد منها فتاة جميلة، تعرض على المارة تناول وجبة العشاء لديها، إلا أننا فطنا إلى أن اختيار المطعم منوط بمرافقنا الدبلوماسي، وبرر هو ذلك حينما قال أن الجهات القائمة على رحلتنا في إسرائيل تعاقدت مع مطاعم بعينها، ولا يجوز اختيار مطاعم غيرها.

جلستُ أنا وزملائي الأردنيين إلى طاولة ومعنا مرافقنا، فاقتربت منا فتاة تبلغ من العمر 30 عاماً تقريباً وسألتنا عن طلبنا، ثم انصرفت بعد وعد منها بسرعة تلبية الطلب، لكن ما لفت انتباهي هو تلك الفتاة التي تعمل في المطعم، فكانت على غير عادة زميلاتها، عابسة الوجه، متشنجة الحركة، وتضع الأطباق على الطاولة بعنف يخالف بروتوكولات الضيافة، وفور انتهائها من وضع الطعام أمامنا، بدّلت ملابس المطعم "اليونيفورم"، وارتدت ملابسها الخاصة، لتغادر المطعم في لمح البصر، وأمام هذا المشهد الغريب قررت التخلص من فضولي، حينما استدعيت إحدى زميلاتها وسألتها بلطف مستفسراً عن تصرفات تلك الفتاة، فلم تتردد في زميلتها في شرح ظروفها، وقالت بابتسامة تعبر عن تعاطفها: "بالأمس القريب سافر صديقها إلى الصين بغرض الدراسة، وهى على تلك الحالة منذ هذا اليوم، واعتذر سيدي إن كانت تصرفاتها معكم غير لائقة، وسأظل أنا وزميلاتي في خدمتكم".

هل عُدتم بعد وجبة العشاء إلى الفندق؟
نعم عُدنا إلى الفندق ولكن بعد جولة قصيرة على ساحل تل أبيب، تعرّفنا فيها بعض المعالم والمباني الشاهقة في المدينة، بينما اعتذر مرافقنا عن مشاركتنا الجولة، وعاد إلى منزله بعد أن أوصانا بالاستيقاظ مبكراً، استعداداً لزيارة بعض اللجان الانتخابية، إذ كان الغد هو يوم التصويت في انتخابات رئاسة الوزراء الإسرائيلية.

كيف رأيتم العملية الانتخابية صباح اليوم التالي؟
انضم إلينا في المرور على لجان الانتخابات احد المصورين الإسرائيليين، وآخر يحمل جهاز تسجيل، وزرنا إحدى مدارس تل أبيب التي تضم اكبر عدد من اللجان الانتخابية، وأمام المقر الانتخابي اصطفت أعداد كبيرة من المشاركين في حملات المرشحين الانتخابية، يدعون الجماهير للتصويت إلى المرشحين بمختلف أطيافهم السياسية، فكان هناك من يدعو إلى نتانياهو "رئيس الوزراء حالياً" ويائير لابيد "وزير المالية حالياً" ونفتالي بيلين "وزير الاقتصاد حالياً" وغيرهم.

المثير أن الداعين للمرشحين ابتكروا أساليب غير معهودة في الترويج للمرشحين، فكانوا يرتدون ملابس شخصيات كاريكاتورية مثل "ميكي ماوس"، ولم تحدث أية مناوشات أو احتكاكات بين مناصري كل مرشح، فالجميع يعلم أن القول الفصل في نهاية المطاف هو صندوق الانتخابات. كما لفت انتباهي كثافة عدد الناخبين من كبار السن والمعاقين، الذين لم يتقاعدوا عن الإدلاء بأصواتهم رغم ظروفهم الصحية القاسية، وهو الأمر الذي اختلف تماماً عند زيارتنا لإحدى اللجان الانتخابية في مدينة يافا حيث الأغلبية العربية من السكان، إذ كانت نسبة التصويت ضعيفة للغاية.

وماذا بعد نهاية جولتكم في اللجان الانتخابية؟
اصطحبنا المرافق في السيارة من يافا إلى احد مطاعم تل أبيب لتناول وجبة الغداء، وخلال تواجدنا في المطعم اخبرني بأنه سيقوم بتوصيل زملائي الأردنيين إلى المعبر البري "جسر اللمبي"، ليعودوا إلى بلدهم بعد أن انتهت مهمتهم، وطلب مني أن استقل سيارة أجرة "تاكسي" إلى مقر الفندق في حي "طييلت"، ووعدني بأنه سيعود إلى الفندق ليلاً، ليصطحبني إلى المطعم المخصص لنا لتناول وجبة العشاء، ورغم تعهده بالعودة إلا انه كشف عن أن انطباعي عنه منذ بداية الزيارة البداية كان صحيحاً، فبعد أن ودعت زملائي الأردنيين استوقفت "تاكسي" وطلبت منه التوجه إلى الفندق، وبعد الوصول اكتشفت أن السائق يطالبني بأجر كبير لم أتوقعه، ولولا أنني كنت احمل نقوداً كافية، لكنت تعرضت لأزمة كبيرة.

دخلت الفندق وأنا أتوعد مرافقي الدرزي بالويل فور عودته من "جسر اللمبي"، إلاَ انه سلم من وعيدي، عندما تسبب في حرماني من تناول وجبة العشاء في ليلتي الأخيرة بإسرائيل، ففي حين دلفت إلى غرفتي ونمت لأكثر من ثلاث ساعات، لم يتصل بي الدرزي ولم يعد إلى الفندق مجدداً، فحاولت الاتصال به غير ذي مرة لكن دون مجيب، ولم يرد إلا بعد الساعة العاشرة مساءً، فبادرته بسؤال استنكاري، هل هذه أخلاق معاملة الضيوف في نهاية زيارتنا لبلدكم"؟! فرد بلهجة مستكينة خشية أن ارفع الأمر إلى رؤسائه: سامحني صديقي، عدت متعباً من "جسر اللمبي"، فتوجهت إلى منزلي لأستريح، فسألته: وماذا عن وجبة العشاء؟، فرد قائلاً: "صديقي حاول أن تعتني بنفسك الليلة، لان عودتي إليك ستستغرق وقتاً طويلاً، ولن نتمكن من اللّحاق بأي مطعم قبل أن يغلق أبوابه"، فأغلقت خط الاتصال في وجهه دون مقدمات، إلا انه عاد في صبيحة اليوم التالي يوم العودة إلى القاهرة، ليتقدم بسيل جارف من الاعتذار، طالباً الصفح والسماح حتى أنني خجلت من عتابه.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف