تعقيبا على عزيز الحاج: مأزق العلمانيين العرب أكبر بكثير مما يبدو
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
طالعت مقال الأستاذ عزيز الحاج "العلمانية الأوروبية بين النقاب والمأذنة!" المنشور على صفحات إيلاف (29 سبتمبر 2010)، وقد لفت نظري أمور:
الأول: أنه على كثرة التعقيبات التي تناولت الاستفتاء التركي الأخير فإنه توقف أمام مقال العبد لله معقبا، ما قد يعني - وهو مجرد احتمال - أن فيما كتبت شيئا يستحق التوقف والرد حتى لو كان الرد غاضبا، كما هو مقال عزيز الحاج.
الثاني: أن الرد جاء سريعا فقد نشر مقالي في الحياة اللندنية في 28 سبتمبر ونشر تعقيبه في إيلاف في اليوم التالي مباشرة، رغم أنه - حسب مقاله - سبق له إبداء رأيه في الموضوع قبل أيام.
الثالث: أن الكاتب أشار إلى مقال العبد لله وناقش كل أفكاره تقريبا دون أن يشير اسم الكاتب المستهدف بنقده الناري، ولا أدري هل كان هذا:
إغفالا؟
أم غفلة؟
أم إهمالا؟
أم ترفعا؟
أم...
فهو يبدأ مقاله بقوله: "تواصل صحف عربية النقاش حول مغزى نتائج الاستفتاء التركي، وهل خسرت العلمانية أم لم تخسر........أحد المقالات يفرق بين ما يعتبرهما: "علمانية شاملة وعلمانية جزئية، فيشيد بالعلمانية الأمريكية التي تتساهل مع حديث أوباما عن الإنجيل، وينتقد العلمانية الغربية الأوروبية لأنها "اعتبرت الدين والتدين "ثمرة محرمة" فلم تتحمل الحجاب ولا النقاب ولا المآذن، وأصبحت موضع انتقاد شديد حتى من المنظمات الحقوقية الغربية."الملفت أيضا في المقال الإشادة بسركوزي لكونه يريد "إعادة بناء علاقة إيجابية بين العلمانية والدين في اعتراف ضمني بأن العلمانية الأوروبية ولدت في بلاده مسكونة بمعاداة التدين عموما." ["الحياة" عدد 28 سبتمبر 2010].
وينتقل عزيز الحاج بعد ذلك إلى الحديث مباشرة عن صلب ما أردت أن يكون الفكرة الرئيسة في مقالي: " ردا على ياسين الحاج صالح: بل خسر العلمانيون وخسرت العلمانية أيضا!ا" وهو رد على مقال للكاتب لياسين الحاج صالح عنوانه: "خسر العلمانيون وفازت العلمانية!". هذه الفكرة الرئيسة هي أن العلمانية الفرنسية مشكلة وليست حلا وأنها أصولية لادينية معادية للأديان السماوية وللتدين.
يقول عزيز الحاج في مقاله: "في السنوات الماضية، نشرت عدة مقالات عن العلمانية، وعن علمانية فرنسا بالذات، مبينا بوضوح أنها ليست ضد الدين والتدين، بل قامت على أساس فصل كل من ميداني السياسة والدين. ومن هنا، قانون حظر حمل الرموز الدينية في مدارس الدولة منذ 1905، وقد أعيد تأكيده عندما كان سركوزي نفسه وزيرا للداخلية. صحيح، أنه بشر فترة قصيرة بوجوب إدراج الأصول الدينية المسيحية واليهودية في الدستور، ولكنه تراجع عن ذلك".
وما يتجاهله الأستاذ عزيز الحاج أنه - وبعد قرنين من الثورة الفرنسية - أصبح مفهوم "الدين" في العلوم الإنسانية الغربية يكتنفه غموض، فكيف يمكن القول بأن الثورة الفرنسية معادية للدين والتدين أو غير معادية إذا كان مفهوم الدين نفسه يلفه الغمض، فهناك عديد من المفاهيم المتباينة للدين. وهي يمكن أن نكتشف عمق المشكلة من استعراض "عينة" - مجرد عينة من تعريفات الدين في الثقافة الغربية ومن هذه التعريفات:
ما هو ظاهراتي يحاول عرض ما هو مشترك بين كل الأشكال المعروفة للأديان مثل تعريف قاموس أوكسفورد: "الدين اعتراف بشري بوجود سلطة فوق بشرية مسيطرة هي الإله أو الآلهة المؤهلون لأن يطاعوا ويعبدوا".
وهناك تعريفات سيكولوجية مثل تعريف وليام جيمس: "الدين هو الأحاسيس والأعمال وتجارب البشر في العزلة حينما يعلمون أنهم مرتبطون بالشيء الذي يعتبرونه إلها".
وثالث اجتماعي كتعريف تالكوت بارسونز الذي عرَّفه بأنه: "مجموعة الاعتقادات والممارسات والمؤسسات الاجتماعية التي طورها البشر في مجتمعات مختلفة".
ومن يستعرض عينة ممثلة من تعريفات الدين التي تمتليء بها المصادر الغربية يجد عدداً من زوايا النظر التي ربما تستعصي على الحصر، فمثلا، يقول سيسرون في كتابه "عن القوانين" إن: "الدين هو الرباط الذي يصل الإنسان إلى ربه"، ويعرفه كانط بأنه: "الشعور بواجباتنا من حيث كونها قائمة على أوامر إلهية"، بينما يقول شلاير ماخر في "مقالات عن الديانة": "قوام حقيقة الدين شعورنا بالحاجة والتبعية المطلقة". أما روبرت سبنسر، فيعرف الدين في خاتمة كتاب "المبادئ الأولية" بأنه: "الإيمان بقوة لا يمكن تصور نهايتها الزمانية ولا المكانية، هو العنصر الرئيس في الدين".
ويقول تايلورفي "الثقافات البدائية" إن "الدين هو الإيمان بكائنات روحية". فيما يرى ماكس ميلر في كتاب "نشأة الدين ونموه" إنه: "محاولة تصور ما لا يمكن تصوره، والتعبير عما لا يمكن التعبير عنه، هو التطلع إلى اللانهائي، هو حب الله". إيميل دوركايم، من جانبه، يقول في "الصور الأولية للحياة الدينية" إن: "الدين مجموعة متساندة من الاعتقادات والأعمال المتعلقة بالأشياء المقدسة - أي المعزولة المحرمة - اعتقادات وأعمال تضم إتباعها في وحدة معنوية تسمى الملة".
ومن منظور الأديان السماوية فإن للأديان بشكل عام خصائص عامة هي حسب الأستاذ الدكتور يحيي هاشم حسن فرغل:
أولا: التسليم الأولي أو "الاعتقاد" الذي لا يشترط البرهان.
ثانيا: وجود مجموعة من المبادئ العليا التي لا يمكن الاستغناء عنها، ومع ذلك فهي غير قابلة للبرهنة.
ثالثا: الإيمان بموجود لا يمكن إدراكه بالحواس سواء كان هذا الإدراك مباشرا أو غير مباشر.
رابعا: الخضوع أو التعبد لقانون أو (و) إرادة ذلك الموجود.
وللدين في الفكر الإسلامي مجموعة تعريفات تعكس وضوحا تاما في أن العلاقة بين الدين والدنيا لا يمكن نفيها وأن الارتباط بين القول والفعل لا يجوز فصمه وأن الترابط بين العقيدة والشريعة لا يسوغ إنكاره. وكلمة الدين في اللغة العربية تدور حول عدة معانٍ متقاربة تشير إلى ملامح توجه عام يشمل الإنسان والكون وما وراء الكون. وتنطوي كلمة الدين على معانٍ عديدة. فالدين: "هو الملك، وهو الخدمة وهو القهر وهو الذل وهو الإكراه وهو الإحسان وهو العادة وهو العبادة وهو السلطان وهو الخضوع هو الإسلام وهو التوحيد"، وهو: "اسم لكل ما يُعتقد أو لكل ما يُتعبَّد به".
وفي الحقيقة لا يوجد مبرر للقول برجحان أي من هذه التعريفات على غيره كونها جميعا نتاج قناعات مسبقة لا تقبل البرهنة، وإصرار المتشددين من العلمانيين العرب على فرض تعريفات تقطع بأن الدين شأن جواني فردي لا مكان له في المجال العام (الثقافي أو الاجتماعي أو السياسي)، لا يعدو أن يكون "إمبريالية معرفية" لا تتفق مع صورة العلمانية كمحرر للإنسان.
أما حديثه عن ساركوزي فهو صحيح لكنه ليس دقيقا، فهو أقرب إلى أن يكون "جسرا" بين تصورين، والجسر دائما لا ينتمي إلى المكان الذي ينقل منه ولا الذي ينقل إليه، فهو سيظل فترة انتقالية قد تتغير بعدها صورة فرنسا وقد لا تتغير لكنه تعبير عن تحول لا عن استمرار ولذا فإن مواقفه في قضايا الحجاب والنقاب "مفهومة" وإن بقيت - في تقديري المتواضع - مرفوضة.
وينتقل عزيز الحاج إلى قضية متصلة قائلا: "وبالارتباط بالموضوع، هناك دعوة إلى الأمم المتحدة "لتجريم الإساءة للأديان." فما المقصود بالإساءة هنا؟؟ وهل نحسبها إساءة عندما يقف خطباء مساجد ليعتبروا اليهود أحفاد قردة ويجب استئصالهم مع أطفالهم؟! أو أن غير المسلمين هم أصحاب ذمة ومواطنون من الدرجة الثانية "في دولة المسلمين"؟! وهل من الإساءات حرق الكنائس ومهاجمتها، وقتل القسس، وتنظيم المظاهرات ضد رجال الكنيسة كما في مصر؟! أو الدعوة من فضائيات لقتل الأميركيين أو غيرهم؛ وغير هذه من ممارسات لم نجد لها صدى استنكار يذكر بين دعاة تجريم الأمم المتحدة "للإساءة للأديان"؟!
والعبارة يحتاج الرد على ما فيها إلى عدة مقالات وأجمله فيما يلي:
- القول بأن الله مسخ يهودا قردة واردة في القرآن ولا يترتب عليها شيء في حق يهود اليوم، والغوغاء موجودون في كل العصور وفي كل المجتمعات، وإذا كان هناك من يدعو لقتل اليهود وأطفالهم فهو داعية عدوان والإسلام برئ منه.
_ غير المسلمين في مصر ليسوا مواطنين درجة ثانية، ولا تشهد مصر حرق كنائس ولا قتل قساوسة، أما تنظيم المظاهرات ضد رجال الكنيسة فيحكم عليه بمعايير قانونية، وعواصم أوروبية عديدة شهدت مؤخرا مظاهرات ضد الفاتيكان فاعتبرت مؤشرا على الديموقراطية، فكيف يصبح التظاهر ضد أي شخص - حتى لو كان من رجال الكنيسة - جريمة تستحق الاستنكار؟
ويختم الحاج مقاله بالقول: "على من راحوا ينشرون المقالات عن "الإسلاموفوبيا" أو"الإساءات للأديان" أن ينظروا أولا لما يجري في العالم الإسلامي نفسه: من تطرف، ومن قهر للمرأة وللحرية الدينية، ومن كتاتيب تنشر التزمت والغلو الديني، ومن عدوان متكرر على غير المسلمين - من العراق فمصر وإلى ماليزيا وغيرها -، ومن فضائيات تظهر قطع الأعناق، وتذيع بيانات بن لادن والظواهري. إن الحصيف هو من نظر في عيوبه قبل تشريح الآخرين!"
وفي الحقيقة كنت أتمنى ألا ينطلق الكاتب من "الخطأ ليجعله مبررا للخطأ"، فما يعتبره نقائص في واقع المجتمعات المسلمة هي من ثمار حكم أنظمة علمانية منذ تم القضاء على المظهر الأخير من مظاهر حكم الإسلام بإلغاء الخلافة......يا سيد عزيز اسمح لي أن أقول لك إن المأزق هم مأزق العلمانيين العرب في المقام الأول، فالدين بدأ يعود إلى أخذ موقع شديد التأثير في الشأن العام في جزء كبير من الغرب - وهذه وقائع لا معنى لإنكارها - حتى لو خالفت القناعات المسبقة، والعلمانية الفرنسية تواجه أصعب الاختبارات وتتعرض لنكسات وانتقادات في الغرب نفسه. ومناقشة الموقف من العلمانية الفرنسية يكشف عن أن غير قليل من العلمانيين العرب المتشددين هم ملكيون أكثر من الملك، والعقل العربي سيكون في حال أفضل كثيرا عندما يصبح أقل "تأوربا" وأقل "فرنكفونية"!