تكنولوجية الدفاع والعمل الحر (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقشت صحيفة اليوميوري شمبون اليابانية في الثامن من شهر أغسطس الماضي، إمكانية استفادة القطاع الصناعي الخاص الياباني من تكنولوجية الدفاع لتطوير صناعات مدنية جديدة، لتنمية الاقتصاد، والمحافظة على استمرارية دعم الحكومة لها. فقد درست وزارة الدفاع اليابانية خطة لتحويل طائرات البحث والإنقاّذ والنقل لقوات الدفاع البحرية، إلى طائرات شحن مدنية كبيرة، وطائرات إطفاء للحرائق. وقد ذكرني هذا الخبر بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتينياهو، إلى موسكو، في شهر فبراير الماضي، لإقناع الحكومة الروسية بإلغاء صفقة السلاح الإيرانية، لكي تلغي إسرائيل صفقة أسلحتها مع جورجيا. تلاحظ عزيزي القارئ كيف تحولت تكنولوجية الدفاع، لأداة في المساومات الدبلوماسية، ونواة أساسية للتنمية الصناعية، وتطوير العمل الحر، والازدهار الاقتصادي في إسرائيل، والتي تحاول اليابان الاستفادة منها. فما هو سر نجاح هذه الصناعة؟ وكيف دعمت من القطاع الخاص؟ وهل يستطيع العرب الاستفادة من هذه التجربة لتطوير تكنولوجيتهم الدفاعية، وتنمية قطاعهم الصناعي الخاص، لكي يحققوا تنميتهم واستقرارهم الأمني والدفاعي، ويضمنوا السلام العادل والشامل؟
عمل اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة لإصدار كتاب بعنوان، بدء أمة، قصة معجزة إسرائيل الاقتصادية، ليقوي مواقع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنجامين نتينياهو السياسية، وذلك بإلقاء الضوء على دوره في الاستفادة من التكنولوجية الدفاعية لتطوير الصناعة في القطاع الخاص، حينما كان وزيرا للمالية. ويصف الكتاب إسرائيل، بالدولة الصغيرة التي استطاعت، خلال ستة عقود من عمرها، وهي في حالة حرب مستمرة، وبقلة مواردها الطبيعية، أن تنشئ بيئة الإبداع والعمل الحر، لشركات تكنولوجية مبتدئه، تضاهي في عددها وكفاءتها اليوم، الشركات "المبتدئة" في اليابان، والصين، وكوريا، وكندا، والمملكة المتحدة، والهند. ولينبهر بهذه البيئة ويصفها بأنها: "ليست فقط بيئة دولة في حالة ذهنية متكاملة لقبول الإبداع التجاري، بل حينما تكون هناك فكرة مبدعة لإسرائيلي ليتاجر بها، يبدأ تحركه بسرعة، وفي نفس الأسبوع، لتلعب أنظمة الهجرة، والتدريب، والبحوث، والخدمة العسكرية، دورا كبيرا في تحقيقها."
وتتقدم إسرائيل دول الغرب في الصرف على البحوث والتطوير، وتقدر ميزانيتها بحوالي 4.5% من إنتاجها المحلي الإجمالي، بينما تصرف اليابان 3.2%، والولايات المتحدة 2.7%، وكوريا الجنوبية 2.6%، وألمانيا 2.5%، من إنتاجها الإجمالي المحلي على البحوث والتطوير. وتقدر عدد الشركات الإسرائيلية "المبتدئة" المسجلة في سوق أسهم النازداك الأمريكية بحوالي 63 شركة، بينما سجلت كندا 48، واليابان 6، وايرلندا 5 من هذه الشركات. وسر هذا الإبداع هو التحاق جميع الإسرائيليين بالخدمة العسكرية الإجبارية، والتي يتعلمون من خلالها الالتزام والانضباط، وتتحسن مهاراتهم في حل المعضلات والمسائلة، وتتطور خبراتهم التكنولوجية. وتدربهم هذه التجربة على خلق علاقات واسعة مع القطاع العام والخاص تفيدهم في التعامل مع التحديات المدنية في المجتمع الإسرائيلي.
ويلعب نظام الاحتياط الدوري العسكري دورا مهما لاستمرارية بيئة الإبداع والتواصل. وقد علق على ذلك المحامي وعقيد الاحتياط، ناتي رون، بقوله: " يتلاشى هرم المسئولية في نظام الاحتياط، حينما يتمكن سائق التاكسي أن يقيد المليونير، وحينما يدرب شاب في الثالثة والعشرين أحد أعمامه، كما تفقد الرتبة العسكرية معناها بين عساكر الاحتياط، فيمكن أن ينتقد احتياطي القطاع الخاص أخطاء جنرال كبير، بل ويعلمه." وحاول المفكر الإسرائيلي، أموس أوز، أن يوضح دور الثقافة اليهودية في هذا التطور بقوله: "لقد خلقت اليهودية ثقافة الشك والمسائلة، ولعبة لا متناهية من التفسيرات والتفسيرات المضادة، وتكرار التفسير ومعارضة التفسير، فمنذ البدء تميزت الحضارة اليهودية بالمجادلة."
وقد دفعت تحديات المقاطعة العربية التجار الإسرائيليين بالانفتاح على باقي دول العالم، والتوجه لصناعة التكنولوجيات الخفيفة المتطورة، والتي تتميز بقلة تكلفة نقلها لاماكن بعيدة، كالانترنت، والكومبيوتر، والتلفونات النقالة، وبرامج تشغيل الكومبيوتر. ومع أن المقاطعة كلفت إسرائيل أكثر من مائة مليار دولار، خلال العقود الستة الماضية، ولكنها دفعت التجار الإسرائيليين للإبداع في المجالات التكنولوجية، ولدمج شركاتهم في اقتصاديات الصين والهند وأمريكا الجنوبية، كما حولت شباب اليهود من مشجعي الأيديولوجيات الصهيونية، لتجار مبدعين يبنون الاقتصاد الإسرائيلي. فقد أرتفع الناتج المحلي الإجمالي في الفترة بين عام 1948 وحتى 1970 لأربعة أضعاف، ولكن ترافقت هزيمة عام 1973 بدمار كبير للبنية التحتية، وانخفضت الهجرة، وتوقفت الصناعة، وزادت الديون.
وقد وضعت الحكومة في عام 1985، بالتعاون مع البنك الدولي، والولايات المتحدة، خطة لخصخصة القطاع العام. فنشطت التجارة منذ عام 1990، لتتحول البلاد لمركز رائد للإبداع والاختراعات، بعد أن نفضت الحكومة يدها من إصلاحات بن جوريون الاشتراكية، وتوجهت للسوق الحرة، فحررت السوق من قيودها، وألغت الأنظمة المقيدة للمؤسسات المالية، وشجعت الاستثمارات الأجنبية، وساعدت تجار البلاد في تطوير الصناعة بالاختراعات التكنولوجية، كما بدأت الشركات الأمريكية بفتح فروع لها في البلاد. واستقبلت إسرائيل أعداد هائلة من العلماء والمهندسين السوفيت، بعد انتهاء الحرب الباردة، وساعدتهم للتحول لتجار وصناع مبدعين. واستثمرت الشركات الأمريكية في السوق الإسرائيلية بجرأة، لتتجاوز مبيعات غوغل 100 مليون دولار، وتوسعت شركة ميكروسوفت، واستثمرت شركة إنتل أكثر من 200 مليون دولار في مصانع رقائق الميكروشب، وأشترى التاجر ألأمريكي، وورن بوفت، شركة أسكار للصناعات الإسرائيلية بحوالي 4.5 مليار دولار. كما استفادت إسرائيل من حوادث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 لترويج تكنولوجياتها الأمنية، لتزداد استثماراتها في الفترة بين عام 2002 وحتى عام 2005، لثلاثة أضعاف. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان