وأخيرا هبت العاصفة (1-4): الدخول إلى الكويت: الخروج من عنق الزجاجة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
المأزق
في تحليله الأكاديمي للفرضيات المفسرة لنشوب الحروب بين الدول، يتوقف مسلم بن علي بن مسلم عند عدد من السيناريوهات التي أشار لها المختصون ومنها ما يسمى بـ"لعبة الفراخ".
حسب هذه اللعبة يتم تخيل يافعين يسوقان سيارتين مسروقتين. ولكي يثبتا شجاعتهما أمام أندادهما، يضع اليافعان السيارتين بشكل متقابل على طرفي طريق طويل مستقيم. وتبدأ اللعبة حين ينطلق السائقان بأقصى سرعة أحدهما نحو الآخر. هنا سيكون أمام كل سائق خياران فقط: إما ينحرف أو لا ينحرف. والحكمة في اللعبة هي إن الذي ينحرف أولا يعتبر "الفرخة" بينما يعد الثاني باسلا وشجاعا.(1)
حسب هذا السيناريو فان النتائج لا تزيد على أربع يشرحها روبرت ج ليبر في " theory and world politics ":
"إذا ما انحرف السائقان المعروفان هنا باللاعب (أ) واللاعب (ب) في الوقت نفسه عد كلاهما "فرخا" ولا أحد منهما يخجل. إذا ما انحرف (أ) ولم ينحرف (ب) عد (أ) فرخا وحقق (ب) مكانة عالية بين أنداده. وإذا ما انحرف (ب) ولم ينحرف (أ) فالنتيجة هي العكس. أخيرا إذا واصلا الانطلاق من غير أي انحراف كانت النتيجة اصطداما وكانت العاقبة في هذه الحال هي الموت". (2)
المواجهة بين نظام صدام حسين والمجتمع الدولي أثناء احتلال الكويت ربما كانت شبيهة بهذه اللعبة. قاد صدام دبابته بجنون ليكون "باسل" الخليج وكان يعتقد، حتى آخر لحظة، أن السائق الآخر سيتراجع وينحرف عن الجادة فيكون " الفرخة".
وكانت النتيجة ان اصطدم العراق بالعالم اصطداما مدويا انتهى بسيادة منطق اللعبة نفسها: الانتحار او لنقل الموت اختيارا.
في السنوات التالية، بالأحرى، ستكون هناك مضامير أخرى و"يافعون" مختلفون. شعراء، رسامون، أكاديميون، انصاف مثقفين، فقهاء من أمثال محمد محمد صادق الصدر وزعماء عشائر من امثال كاظم الريسان.
سيكون هناك ايضا ضباط وجنود اختاروا الانتحار بعد أن ارتدوا أكفانهم بأيديهم وانطلقوا في الطرف الآخر من "طريق الموت" الذي حفرت الطائرات الأميركية ملامحه بقسوة بعد تحرير الكويت.
كانت "لعبة الفراخ"، بعبارة أخرى، قد تحولت الى منطق شامل مع الاحتفاظ بفرق وحيد عما جرى بين نظام صدام حسين والعالم. ففي الوقت الذي راهن ذلك النظام على احتمال ان يتراجع السائق الآخر وينحرف عن الطريق كان عدميو العراق قد نزلوا الى مضاميرهم دون ان يكون ثمة أي أمل في تراجع السائق " الباسل" وانحرافه. كان الموت بالنسبة لهم اختيارا.
العبارة الأخيرة "الموت اختيارا" ليست من عندنا بل هي عنوان كتاب شوهد يباع في شارع المتنبي ووثق غلافه فوتغرافيا في إحدى المرات بطريقة شديدة الإيحاء: ففي العام 1999، عام اغتيال محمد الصدر، أعيد إصدار "الطليعة الأدبية". وفي العدد الأول نشرت الصورة الفريدة: قدم حمال تعبر في شارع المتنبي وفي الخلفية كتاب معروض للبيع عنوانه "الموت اختيارا".
كانت اللقطة بديعة ولعلها عكست مزاج تسع سنوات من الجنون والعدمية وتساوي قيم الموت والحياة في ذلك العراق المضطرب. ذلك العراق الخارج من نفق الحرب، الداخل إلى قمقمها حيث "الفراخ" ستنطلق في رحلة بحث عن سفن نجاة من طوفان العدم.
الدخول إلى القمقم: الأسباب
ثمة عدد من التفسيرات التقليدية الرائجة التي حاولت تفسير الحدث المزلزل، احتلال الكويت، ومعظم هذه التفسيرات يدور في فلك مزدوج أحد ركنيه هو الاقتصاد بينما يعزى الركن الثاني إلى شخصية صدام حسين الميالة لحل المشاكل مع الآخرين عن طريق العنف والقسوة.
إلى جانب هذين المرتكزين ثمة مأزق آخر ركز عليه سعد البزاز، أبرز من أرخ لذلك الاحتلال، وهو مأزق "خنق العراق" بمنعه من الإطلال على البحر. ويستعيد البزاز،هنا، عبارة قالها نوري السعيد في الأربعينيات تفيد أنه "لا استقلال ناجز للعراق ما لم يستعد منفذه الواسع على البحر"(3)
أول مرتكزي النظرية التقليدية يتمحور حول الاقتصاد إذن وهو يفيد، حسب سعد البزاز، أن احتلال الكويت لم يكن سوى نتيجة لحرب الخليج الثانية. والتفاصيل تقول أن ديون العراق في عام 1988 "تجاوزت حسب إحصائيات غير رسمية 70 مليار دولار يضاف إليها ما أنفقه العراق من احتياطيه قبيل بدء الحرب مع إيران وكانت تتجاوز50 مليار دولار" (4).
وكان ذلك يعني خروج عراق منهك اقتصاديا بدل خروج عراق منتصر سياسيا.
لدى ماريون وبيترسلوجت والآخرين ممن وثقوا ما جرى إحصائيات مفيدة للغاية: عوائد النفط تنخفض من 29 مليار دولار عام 1980 إلى 9 مليارات عام 1982 ثم إلى 7 مليارات عام 1983، أكبر ديون لدولة عربية كانت تعود بعد الحرب للسعودية والكويت اللتين باعتا البترول نيابة عن العراق بمبلغ يتراوح من 18 إلى 20 مليار دولار وهو ما يرفع إجمالي ما منحته الدولتان للعراق إلى ما بين 50 إلى 60 مليار دولار(5).
ليس هذا فقط: معدلات التضخم تتسارع بشكل خطير حتى أنها تصل إلى 45 بالمائة عام 1990(6).
وفي حديثه الموجه للقادة العرب المنعقد قبل الغزو تحدث صدام حسين بالأرقام وبين أن انخفاض أسعار النفط بمقدار دولار واحد كان يعني خسارة العراق مليار دولار سنويا.
وحسب مجريات الأحداث كانت الكويت مصرة على زيادة حصتها من الإنتاج في أوبك. الأمر الذي كان سيؤدي إلى انخفاض أسعار البترول بشكل يؤثر سلبا على العراق (7).
وحسب تحليل سياسي وزع على نطاق محدود بعد اجتياح الكويت فإن عراقا مرفها لن يكون ممكنا إذا لم تحل معضلته الاقتصادية التي نتجت عن حرب استنزاف دامت ثماني سنوات ويضيف التحليل أن الحرب مع الكويت كانت محتومة ٍولو أن العراق سمح للكويت بإغراق السوق بالنفط لباتت مداخيل العراق غير كافية لسد احتياجاته الاقتصادية الداخلية فضلا عن خدمة ديونه.(8).
عدا ذلك، كان العراق قد خرج من تلك الحرب بجيش قوامه مليون رجل وكان هذا الجيش قد تحول إلى"وحش من صنع صانعي القرار وكانت الحاجة إلى إطعامه وإلى إبقائه منشغلا مصدرا دائما للقلق"(9).
وهناك باحثون يعتقدون، بهذا الصدد، أن القنبلة الاجتماعية في العراق كانت الجيش إذ إن" ثلاثة أجيال على الأقل وربما أربعة جندوا وسيقوا إلى ميادين المعارك وابقوا فيها نحو عقد كامل. لقد عانوا الرعب وآلام حرب طويلة نازفة وحرموا من خير سنوات حياتهم الشابة الناشطة وأصبحوا جائعين إلى كل شيء تقريبا" (10).
كل ذلك أدى بالدولة العراقية إلى البحث عن حل حتى وان كان باجتياح الكويت التي يعتقد حكام العراق ابتداء من الملك غازي بعائديتها لبلادهم. وكان ذلك يعني، بالنسبة لنظام صدام حسين المنهك، خلق منظومة اقتصادية جديدة تتيح للعراق موارد مضافة.
هذا أولا، أما ثانيا فكان ذلك يعني استعادة حلم الإطلالة على البحر. وأخيرا، كانت المغامرة تعني تصدير أزمة اجتماعية خانقة نشأت عن حرب السنوات الثماني ومن ثم إيجاد مخرج لها.
وأخيرا كان الأمر يعني، بالنسبة لصدام، تحقيق حلم شخصي عجز عن تحقيقه الملك غازي وعبد الكريم قاسم قبله والاثنان كانا طالبا بالكويت واعتبراها جزءا لا يتجزأ من العراق.
في هذا المفصل يبرز الدور الشخصي في تلك الأزمة إذ حسب ما يورد أغلب الباحثين والمؤرخين، كان احتلال الكويت قرارا فرديا يعود إلى صدام حسين وحده وحتى يوم 27 تموز لم يكن أحدا من القيادة العراقية قد عرف بالقرار (11).
وفي تفسيره لأسباب الغزو يضع مسلم بن علي بن مسلم، مستهديا بنظرية "كينيث نيل والتز" القائمة على ثلاثية " الدولة، الشخصية، النظام الدولي"، أثر الشخصية الفردية كواحد من أهم المؤثرات في نشوب الحرب.
ويقارن هذا الباحث بين صدام وهتلر وستالين لجهة أن الثلاثة ولدوا في بيئات فقيرة ونشأوا من خلفيات اجتماعية متدنية وهي بيئة مثالية لإنتاج الطغاة كما يرى (12).
قدر تعلق الأمر بصدام فقد تربى في قرية فلاحية فقيرة، وكانت طفولته قاسية لدرجة أنها أنتجت لنا شخصية تعاني من مركب نقص. وقد ربي لدى زوج أمه الذي أساء معاملته ودفعه إلى التفكير أنه غير مرغوب فيه (13).
ويعتقد مسلم بن علي أن تربية مثل هذه لعبت دورا فاعلا في تشكيل ملامح شخصيته، وأن مثل هذه التربية القلقة يغلب أن تكون ذات علاقة بنماذج مسلكية في سن الشباب تتسم بالشك، الغضب والعدوانية. منبها إلى أن طفولة ستالين وهتلر كانت شبيهة. (14)
وفي تحليله لشخصية صدام يعتقد حازم صاغية أن استعداده للعنف وجد من يغذيه لاحقا وهو خاله خير الله طلفاح الذي يوصف بـ" الصلابة" وكان يعتنق الأفكار القومية بحماس.
وفي السنوات اللاحقة نشط صدام في العصابات القومية التي عرفت بتصديها لـ" المقاومة الشعبية" الشيوعية (15).
ويمضي التحليل الذي يتفق عليه الكثير من الباحثين إلى أن نزعة صدام العنفية واتسامه بقمع معارضيه ورفاقه على حد سواء تشير، بشكل لا يقبل الشك، إلى ركونه للاعتقاد أن" العمل الجريء، الصارم العنيف، لابد منه لتحقيق النتائج "(16).
لذلك يرى أغلب من درسوا أسباب حرب الخليج الثانية، عدا سعد البزاز، أنه لو لم يكن صدام يحكم العراق حينها لما حدث الاجتياح ولما جرت الحرب بعدها. واعتقاد هؤلاء مستنبط من النظريات الأكاديمية التي حاولت تفسير تفجر الصراعات بين الدول. وثمة بهذا الصدد مثلث يتكون من ثلاث ركائز هي:الشخصية، الدولة، النظام الدولي.
النظام الدولي: فوضى ما بعد القطبين
لم يكن الأمر مصادفة بالتأكيد، فقبل أن يقدم صدام حسين على مغامرته، كان العالم الاشتراكي في طريقه إلى الانهيار مثل قطع الدومينو وكانت شمس الحرب الباردة في طريقها إلى غروب نهائي.
وعلى المرء ألا ينسى، هنا، أن نظام البعث ربما كان نتاج تلك الحرب لا بمعنى انتمائه إلى أحد طرفيها إنما بمعنى إفادته من ذلك الصراع ودخوله، منذ بداية السبعينيات، كطرف فاعل في منظومة توازن القوى في الشرق الأوسط.
ولعل حرب الخليج الأولى كانت، في واحدة من تجلياتها، شكلا من أشكال إدامة ذلك التوازن الهش.
إن فكرة كون العراقيين "حراس البوابة الشرقية"، وهي فكرة روج لها نظام البعث أثناء الحرب وبعدها، لم تكن شكلا من أشكال الابتزاز السياسي لدول الخليج لجهة أنها مهددة من قبل إيران وأنه لولا العراق لابتلعت هذه الدول واحدة بعد الأخرى. كلا كانت الفكرة صحيحة إلى حد بعيد وكان صدام يعيها جيدا وهو يتحدث إلى السفيرة الأميركية حين التقاها يوم 25 ـ 7 ـ 1990 قائلا: خرج العراق من الحرب وهو مدين للآخرين بحدود 40 مليار دولار عدا المساعدات التي قدمت للعراق، والتي لا تزال مسجلة عليه كديون من قبل بعض الدول العربية مع إنهم يعرفون وأنتم تعرفون بأنه لولا العراق لما بقيت هذه المبالغ عند أصحابها ولأصبح مستقبل المنطقة على غير ما هو عليه" (17).
كانت تلك الرؤية مستقرة في ذهن صدام حسين وكانت الشكوك تراوده حقيقة في إنه كوفئ بغير ما يستحق وبات مهددا بأن يكون الطرف الأضعف في خارطة سياسية جديدة ترتكز على قطب واحد بعد انهيار الحليف السوفيتي.
لذلك لم يخف صدام قلقه لهذا الطرف أو ذاك ومنهم السفيرة الأميركية التي ذكرها بالأجواء العدائية التي تسود ضده في الولايات المتحدة، متحدثا عن حملة إعلامية تشن من مركز الإعلام الأميركي الرسمي لجهة أن"الولايات المتحدة تظن أن حال العراق مثل الحال في بولونيا أو رومانيا أو تشيكسلوفاكيا" (18).
ولوهلة اعتقد صدام أن أنشوطة غامضة تلتف حول عنقه وأن من دافع عنهم لثماني سنوات هم المبادرون إلى حياكة تلك الانشوطة، مستغلين وضع العراق الاقتصادي لإضعافه أكثر وأكثر.
والخلاصة أن نظام البعث الذي خرج من الحرب العراقية ـ الإيرانية منهكا ومهلهلا اقتصاديا كان يحتاج بالفعل إلى وثبة كبرى للتملص من عنق الزجاجة الذي يعتقد انه وضع فيه.
وحين سال سعد البزاز طارق عزيز إن كان بالإمكان الركون إلى حل آخر أقل خطورة من الاجتياح كأن يدبر العراقيون انقلابا، مثلا، أجاب وزير الخارجية المقرب من صدام حسين:"كان لابد من ضربة استراتيجية إذ أن المعالجات الصغيرة لم تكن مناسبة للمشكلة وما بلغته من خطورة وكان أمامنا أحد خيارين: إما نأخذ المبادرة ونضرب أو إننا نؤكل تدريجيا" (19).
لم تكن هذه الرواية، وهي رواية تسرد الوقائع والأسباب، إلى حد ما، بلسان السلطة في العراق مظهرة، هذه الأخيرة، وكأنها ضحية مؤامرة متعددة الأطراف، لم تكن هذه الرواية هي الوحيدة المتاحة أمام أولئك الذين خبروا أساليب نظام البعث واستراتيجياته.
ولئن بدا الأمر معقولا، قدر تعلقه بالجانب الاقتصادي، فإنه من المعقول أيضا الحديث عن تلك العقدة التي استحكمت بالنسبة لصدام حسين طوال تاريخه في السلطة، نقصد عقدة "توهم الأعداء" والاستنفار الدائم لمجابهتهم داخليا وخارجيا.
ولهذا لم يكن من المستغرب لجوء القيادة العراقية آنذاك إلى منطق الحرب الاستباقية سواء في الحرب ضد إيران أم في الحرب ضد دول الخليج. ولدى المرء من الدلائل ما لا يحتاج إلى إثبات.
قدر تعلق الأمر بأولئك الأعداء المتخيلين فإن زوال الحليف السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم ربما أعطى الانطباع لدى صدام بان مرحلة تصفية الأنظمة الشمولية الشبيهة بتلك التي انهارت قد بدأت وكان ذلك يعني، ليس الاستعداد للمجابهة حسب، إنما اختيار الزمان والمكان وتهيئة مسرح المعركة. وكان من سوء حظ الكويت أن تكون ذلك الميدان.
المعركة: انتحار الثور في الخليج
في 2 آب /أغسطس 1990عبرت قطاعات كبيرة من الجيش العراقي الحدود الكويتية متوغلة في العمق الكويتي ثم سيطرت كليا على المراكز الرئيسية في شتى أنحاء الكويت ومن ضمنها البلاط الأميري. كما قام الجيش العراقي بالسيطرة على الإذاعة والتلفزيون الكويتي.
وبعد يومين من الاجتياح نصبت في الكويت حكومة صورية برئاسة علاء حسين واستمرت لأربعة أيام قبل أن تختفي وتعلن الكويت كمحافظة عراقية. وعين عزيز صالح النومان، قائد الجيش الشعبي في الكويت، بمنصب محافظ للمدينة الجديدة.
لقد كان من الواضح من التطورات المتسارعة أن السلطة العراقية قد وضعت نفسها في موقف لا تحسد عليه إذ سرعان ما أصدر مجلس الأمن عددا من القرارات من ضمنها القرارين 660 و678 والأخير أمهل العراق حتى 15 كانون الثاني / يناير 1991 كموعد نهائي للخروج من الكويت. وخلال الأشهر التالية حشدت الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها قرابة مليون جندي وكانت النية واضحة لاستخدام القوة فيما لو رفض صدام حسين الانسحاب من الكويت.
في فجر16 يناير/ كانون الثاني 1991 أي بعد يوم واحد من انتهاء المهلة النهائية التي منحها مجلس الأمن للعراق لسحب قواته من الكويت شنت طائرات قوات الائتلاف حملة جوية مكثفة وواسعة النطاق شملت العراق كله من الشمال إلى الجنوب وقامت بـ109،867 غارة جوية خلال 43 يوما بمعدل 2،555 غارة يومياً. أستخدم خلالها 60،624 طنا من القنابل والبعض يقفز بالرقم إلى 10000 طن وأكثر من 400 صاروخ. (22)
وفي 26 فبراير 1991 بدأ الجيش العراقي بالانسحاب بعد أن أشعل النار في حقول النفط الكويتية وتشكل خط طويل من الدبابات والمدرعات وناقلات الجنود على طول المعبر الحدودي الرئيسي بين العراق والكويت. وقصفت قوات التحالف القطعات العسكرية المنسحبة من الكويت إلى العراق ما أدى إلى تدمير ما يزيد عن 1500 عربة عسكرية عراقية. وبالرغم من ضخامة عدد الآليات المدمرة إلا أن عدد الجنود العراقيين الذين قتلوا على هذا الطريق لم تزد عن 200 قتيل لأن معظمهم تركوا عرباتهم العسكرية ولاذوا بالفرار. سمي هذا الطريق في ما بعد بطريق الموت أو ممر الموت (23).
في 27 فبراير1991 أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب عن تحرير الكويت بعد 100 ساعة من الحملة البرية: "الكويت أصبحت محررة، والجيش العراقي هزم"
العودة إلى الذات: انتفاضتان في عراق مجنون
كانت صورة الانسحاب تشبه لحظة جمدتها الكارثة: خيط كابوسي طويل من دبابات محترقة وجثث متفحمة تزاحمت للهرب من الموت.
إنه "المطلاع" حيث الممر الوحيد الرابط بين أضغاث الكويت وحلم النجاة باتجاه البصرة يتحول في آخر ساعات الانسحاب إلى ممر موت لا مثيل له. ولئن نجح مصورو وكالات الأنباء في اصطياد مشاهد ذلك الممر في مئات الصور فان المصورين أنفسهم فشلوا في التقاط مشاهد ولقطات مماثلة لدخول الجنود الهاربين إلى البصرة.
لدينا هنا مدونة وحيدة مكتوبة بصدق من قبل شاعر ثمانيني خدم في الكويت بصفة ضابط احتياط. كان علي عبد الأمير، المهتم بالموسيقى قد أصغى بكل جوارحه لصرخات العودة وكتب نصا بعنوان "عائد من الموت توا" بعد اقل من عشر سنوات من الحرب (24).
هنا تطالعنا المشاهد ذاتها التي طالما واجهتنا في العديد من الكتب والشهادات: لحظة رعب جامدة، جثث مرمية في الطريق العام،عربات مدمرة، دبابات محترقة، كلاب تنهش الأجساد وأجساد تنازع آخر أنفاسها.
كانت الصور كابوسية بالفعل:"ما لن أنساه إطلاقا هو مشهد ذلك الجندي الشاب وهو جالس على طرف الطريق والدماء تكاد تغطي كتفه وظهره، استدار بوجهه نحو الأفق وامتداد العشب والطين، كان يحرك رأسه بإطراقة، بندم كنت اعرفه، ظهره إلينا وآخر الضياء في عينيه يختلط بآخر الضباب الذي بدأ ينقشع"(25).
إن الصورة هذه تذكر بتلك الصور التي تفنن كنعان مكية بتصويرها في كتابه "القسوة والصمت" لاسيما الوصف الدقيق لجثة ذلك الجندي العراقي الذي رآه أحد الكويتيين في ممر المطلاع: " لن أنساه مطلقا طالما حييت، كان ميتا بالطبع..ممددا، وجهه على الطريق في زاوية عند اتساع إسفلتي صغير محاط بسيارات محطمة، كان جسمه باتجاه الشمال الشرقي باتجاه الفاو كما أظن، كانت قبضتاه مطبقتين وذراعاه متوازيين يشكلان قوسا من حول جبينه.لم يكن بالوسع رؤية أي من ملامح وجهه، فقط مؤخر الرأس بدا وكأنه واحد على وشك تلقي رسالة أو كأنه مستلق باستقامة على بطنه من أجل أن يدع الشمس تسمر ظهره "ص 28 (26)
كان العائدون أشبه بالأشباح وقد بدوا، بالفعل، وكأنهم موتى خرجوا للتو من قبورهم:الشعور مشعثة والملابس ممزقة، حفاة ويتصارخون خوفا من الطائرات الأميركية التي لاحقتهم بطريقة مرعبة. وكان بينهم أناس ربما شارفوا حافة الجنون. ومنهم ذلك الجندي الذي صوب مدفع دبابته إلى صورة كبيرة لصدام حسين تنتصب في ساحة سعد ثم أطلق عليها النار مدشنا انتفاضة آذار.
بعيدا عن تلك الرؤى التي تعزو الانتفاضة إلى تحريض الرئيس الأميركي للخروج على السلطة في العراق، كانت العودة من الكويت شبيهة بالعودة إلى الذات. لكن الذات، هذه المرة، محطمة مثل عربة عسكرية أصيبت في الصميم، منكسرة وشبه ميتة.
وفي المدونة التي بين أيدينا عبارات تشي بمثل هذه الانكسارة السيكولوجية المريعة بسبب الدخول في تجربة الكويت:" تناثرت الشظايا وظلت عجلتنا بين حريقين، بين نارين نتأملها وهي مستمرة في الطريق كأنها تنادينا:هيا فالرحلة طويلة ومن نثار ما تبقى من مجموعات الجنود بدأت صيحات تتعالى،هستيريا لمشاهد تتضمن حركات مثل الارتفاع إلى فوق ثم الارتفاع إلى الأرض،عناق بين اثنين ثم يفترقان وكل يغطي وجهه بكفيه،تحاملت على بقاياي المتشظية وأثناء مسيري أحسست بعجزي عن الحركة أحسست أن ظهري انكسر...نعم انكسر ظهري..انكسر ظهري.. انكسر ظهر بلادي.. انكسر ظهري"(27).
يمكن القول هنا أن "ذاتا" تخرج من تجربة نادرة مثل تجربة الكويت،حيث الطائرات الأميركية تحرق آلاف الجنود الهاربين في الصحراء، كانت مهيأة تماما للانتحار احتجاجا على السلطة التي أدخلتها إلى تلك التجربة الرهيبة.
لذلك وقدر تعلق الأمر بالتطورات التي أعقبت الانسحاب لا تبدو حادثة إطلاق أحد الجنود العراقيين النار على صورة لصدام في ساحة بمدينة البصرة غريبة أبدا فنحن إزاء لحظة جنون غير مسبوقة. لا في سيكولوجية الجندي الذي نجا بأعجوبة من جحيم ارضي، إنما في سيكولوجية أهالي أولئك الجنود الذين رأوا بأنفسهم صورة الانسحاب، وقبل ذلك عاشوا، قرابة خمسين يوما، وسط الجحيم ذاته ولكن بطريقة أخرى حيث الطائرات الأميركية تدمر البلد كله وتحوله إلى أنقاض.
لقد بدت البلاد، بالفعل، وكأنها "مكسورة الظهر"،غير أنها، في الوقت نفسه، نصف مجنونة وتمر بحالة هستيريا غير مسبوقة. الغضب يختلط بالعار والخيبة بالانكسار.
لذا لم يكن غريبا أن يندفع آلاف الشبان إلى الانتقام من السلطة في مدن الجنوب والفرات الأوسط ليحتلوا المباني الرسمية والمعسكرات ومقرات حزب البعث وليشكلوا مجاميع مسلحة قوامها أولئك الجنود الناجون من الكارثة وبعض الضباط من ذوي الروح الثورية.
ثم يشرعون، في الأيام الأولى، إلى الانتقام ممن اعتبروهم عملاء ومتعاونين مع النظام".ولاحقا سيؤكد القائد العسكري رعد الحمداني أن السلطة والمنتفضين كانوا قساة ضد بعض(28).
في التطورات اللاحقة أفتى أبو القاسم الخوئي بضرورة تشكيل لجان لحفظ الأمن بعد أن غابت السلطة نهائيا. وكانت لغته الأبوية تنصح بالرأفة وإظهار أقصى درجات الرحمة بالبعثيين. (29)
كانت الانتفاضة، مثل جميع الثورات الشعبية العفوية، سريعة وعارمة، وبدت في الكثير من فصولها أقرب إلى الهستيريا الجماعية التي تختزن خيالا دمويا انتقاميا هائلا.
كان الشبان الناقمون أسرع الجميع للالتحاق ببؤر الثورة التي تكونت في الحال في اغلب مدن الجنوب والفرات الأوسط.
وفي شهادته عن تلك الأحداث يسرد القائد نجيب الصالحي انه في يوم 2 آذار اعلنت الانتفاضة في ذي قار ـ مثلا ـ على أيدي عشرين ثائرا. وفي اليوم التالي انتقلت الانتفاضة الى الجبايش والفهود وسوق الشيوخ والاصلاح والقلعة والكرمة وكان لعشائر سوق الشيوخ أثر كبير في سريان الانتفاضة مثل النار في الهشيم (30)
أما عبد الخالق كيطان، وهو لحسن الحظ شاعر تسعيني آخر دون بعض مشاهداته عن تلك الأيام، فيحدثنا في "سيرة مبكرة للألم" عن مجريات الأحداث في العمارة مفتتحا شهادته بنداء مرعب كانت وجهته السلطة إلى الأهالي بعد هروب المنتفضين إلى أهوار الناصرية وإيران.
كان النداء يقول "يا أبناء مدينة العمارة الشجعان..هذا نداء تحذيري أول وأخير..عليكم بإخلاء بيوتكم خلال ساعات من قرائتكم هذا التحذير، والخروج أنتم وعوائلكم إلى خارج المدينة لان طائرات جيشنا الباسل ستبدأ بعد ساعات بقصف المدينة بالأسلحة الجرثومية لطرد العملاء والجواسيس منها "(31).
وفي النص الذي نشر بعد عشر سنوات من الانتفاضة يصف عبد الخالق كيطان وضع مدينته بعد استتباب الأمر للسلطة. كانت العبارات مكثفة لكنها دالة: "كانت الطرق مغلقة ورأيت بعيني العديد من الجثث المتروكة في العراء ومنها جثة أحد مجانين المدينة وهي تغرق بالدم بعد أن نخرها رصاص القوات النظامية وربما اعتقدوه القائد العام للانتفاضة فمثلوا بجثته، جثة أخرى لم أتعرف عليها وكانت الكلاب تنهش فيها على مقربة من وجود مفرزة للجيش كانت تعتقل المارين تارة وتفتش هوياتهم وموجوداتهم تارة" (32).
وهكذا انتهت انتفاضة آذار: جنون الناجين من الموت يقابله جنون سلطة بالكاد نجت هي الأخرى من السقوط.
والمحصلة هي أكثر من 145ألف قتيل أكثر من 35 ألفا منهم قتلوا على أيدي الأجهزة الأمنية.(33)
ويرجح معظم المؤرخين سبب فشل الانتفاضة أن اتفاقا عقد في صفوان وفيه سمح قائد القوات الأمريكية نورمان شوارزكوف لقيادات الجيش العراقي باستعمال المروحيات التي استعملها الجيش العراقي بكثافة لإخماد الانتفاضة (34).
في غضون ذلك، خرج صدام حسين من على شاشة التلفزيون ليعد بإجراء إصلاحات سياسية جذرية منها تنظيم انتخابات تشريعية وفصل رئاسة الوزراء عن رئاسة الجمهورية ووضع دستور دائم للبلاد وإطلاق حرية الصحافة.
لقد فهم الخطاب، حتى مع يقين الجميع أنه كان ردة فعل سريعة على ثورة الشيعة والأكراد، على أنه أشبه بـ"انتفاضة"مقابلة تقودها السلطة ضد نفسها.
هنا ستطالعنا نظرية قديمة ـ جديدة ستركن إليها السلطة بغية إعادة رسم المشهد السياسي والثقافي العراقي بما يتناسب مع فهمها للأحداث العاصفة آنذاك.
إنها نظرية "الضد النوعي" التي ستكون ملمحا جديدا في عراق التسعينيات.
هوامش
1ـ ينظر بن علي ، مسلم " لماذا غزا صدام الكويت ، محاولة نظرية " ـ الطبعة الأولى 1994 ـ دار الساقي ـ ترجمة ص 130
2 ـ المصدر نفسه
3 ـ ينظر البزاز( سعد) "حرب تلد أخرى ، التاريخ السري لحرب الخليج " الطبعة الأولى ـ الأهلية للنشر والتوزيع 1992 ـ 1993 ص 16
4 ـ المصدر نفسه ص 35
5ـ ينظر سلوجلت ( ماريون وبيتر )، "العراق الحديث من الثورة الى الدكتاتورية" ـ الزهراء للإعلام العربي ترجمة مركز الدراسات والترجمة الطبعة الأولى 1992 ص 370
6 ـ المصدر نفسه ص 370
7 ـ ينظر البزاز ( سعد) " حرب تلد أخرى" ص 43
8 ـ المصدر نفسه ص30
9 ـ ينظر بن علي ( مسلم) " لماذا غزا صدام الكويت ، محاولة نظرية " دار الساقي ص 130
10 ـ المصدر نفسه ص 130
11 ـ ينظر البزاز ( سعد) ، مصدر سابق ص85
12 ـ ينظر بن علي ( مسلم) ، مصدر سابق ص 66
13 ـ المصدر نفسه
14 ـ المصدر نفسه
15 ـ صاغية ( حازم ) "بعث العراق قياما وحطاما " ـ الطبعة الأولى دار الساقي 2004 ص 42 .
16 ـ بن علي ( مسلم) مصدر سابق ص 197
17 ـ البزاز ( سعد) " حرب تلد أخرى " ص 168
18 ـ ينظر حسين ( صدام) ـ التصدي ـ الطبعة الأولى دار الحرية 1990
من حوار مع وفد الكونغرس في 12 نيسان 1990 السيناتور ارين بسكتر ص 90
19 ـ ينظر البزاز ( سعد) " حرب تلد أخرى" ص 32
20 ـ عن تفاصيل الغزو ينظر ، مثلا ، مكية ( كنعان) ، "القسوة والصمت" وايضا "حرب تلد اخرى "
22 ـ للمزيد حول مجريات الحرب راجع ـ مثلا ـ "حرب تلد أخرى" لسعد البزاز و"الامر لا يحتاج بطلا " لنورمان شوارسكوف وايضا " قبل ان يغادرنا القرن " لرعد الحمداني و"القسوة والصمت" لكنعان مكية
23 ـ ينظر الحمداني ( رعد ) " قبل ان يغادرنا التاريخ" ـ الطبعة الأولى ـ الدار العربية للعلوم ـ شرقيات ـ القاهرة 2007 ص 238
24 ـ ينظر عبد الامير ( علي) ، مجلة المسلة العدد الخاص بالذكرى العاشرة للانتفاضة سنة 2001 العدد الثالث ـ السنة الثانية "في بيتي عائد من الموت توا " ـ عام 2001 ص6
25 ـ المصدر نفسه ص8
26 ـ ينظر مكية ( كنعان) " القسوة والصمت " مصدر سابق ص 28
27 ـ علي عبد الامير مصدر سابق
28 ـ رعد الحمداني مصدر سابق
29 ـ " ينظر مكية ( كنعان) " القسوة والصمت " ، مصدر سابق، وأيضا تريب ، تشارلز ، "صفحات من تاريخ العراق" الدار العربية للعلوم 2006 ترجمة زينة جابر إدريس ـ ص 334
30 ـ ينظر الصالحي (نجيب) "الزلزال، وقائع غزو الكويت والانتفاضة" ـ صادر عن مكتبة المجلة 2009 ص174
31 ـ ينظر العدد الخاص من مجلة المسلة لمناسبة مرور عشر سنوات على الانتفاضة العدد الثالث ـ السنة الثانية ـ آذار (مارس) 2001 ص23
32 ـ المصدر نفسه ص32
33 ـ الجزائري ( زهير) " المستبد ، صناعة شعب ، صناعة قائد " معهد الدراسات الاستراتيجية ص 222
يتبع
التعليقات
جيد
كامل جابر -هذه قراءة موضوعية جيدة لأحداث الهزيمة والإنتفاضة. لحد هذه اللحظة لم يستطع العراقيون لسبب أو لآخر من كتابة ما حصل. سأنتظر بفارغ الصبر الأجزاء الأخرى لهذا الموضوع.
أيام مؤلمة
أحمد توفيق -أيام مؤلمة عشناها بالكويت، وعايشنا بها الإحتلال ومن ثم الهروب الجماعي، في صبيحة اليوم الأول للإنسحاب قبل دخول الجيش الكويتي بساعات شاهدت بعض الأفراد من الجيش الشعبي جالسون في أماكنهم المعتادة يعدون الشاي فاستغربت وجودهم وسألتهم لما لم تنسحبون مع الجيش العراقي، فوجئت بأنهم لا يعرفون شيئاً عن الإنسحاب كما فوجئوا هم بما سألتهم.