أصداء

الفن ونار السياسة.. وحركة 23 يوليو

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

مع رحيل الفنانة السيدة برلنتي عبد الحميد وهي إحدى نجوم السينما العربية خلال مرحلة أواخر الخمسينيات وحتى منتصف ستينيات القرن الماضي يتواصل رحيل وإختفاء الجيل الذي عاصر وعاش وتقلب في مراحل التغيير الكبير الذي عاشته مصر منذ إنقلاب ( وليس ثورة ) 23 يوليو 1952 وحتى اليوم تسدل مرحلة مهمة من تاريخ الصراع والتداخل بين الفن و السياسة المتداخلان بطبيعتهما في المجتمع العربي، وشهرة الراحلة برلنتي عبد الحميد لم تأت من طبيعة أدوارها الأنثوية الخاصة التي كانت تمثل في ذلك الزمن الفني الجميل إنقلاب مجتمعي هائل وحالة خاصة من حالات التحول الإجتماعي وحيث فنون الآغراء البعيدة عن الإباحية و التهتك والتي أنتجت جيلا واسعا من فنانات ذلك الزمان كهندرستم وناهد شريف وسعاد حسني وغيرهن..

بل بسبب المعاناة الشخصية التي عانتها وأنعكست حتى على مستوى عطائها الفني الذي توقف بعد إرتباطها الزوجي بالمشير الراحل منحورا عبد الحكيم عامر والذي كان أبرز الجناة والمجني عليهم في قصة إنقلاب 23 يوليو، فقد شاء سوء حظ الفنانة الراحلة أن تعيش شخصيا لحظات إنهيار وتفكك ذلك النظام العسكري والأمني وأن تجد نفسها على غير رغبة منها في خضم وفوهة مدافع نيران هائلة من الأحقاد وتصفية الحسابات بين مؤسسات ذلك النظام الأمنية والمخابراتية والعسكرية والسياسية، ليس سرا أبدا معرفة حقيقة أن عبد الحكيم عامر كان يعتبر الجيش المصري مملكته الخاصة بعد أن إنفرد في شؤونها منذ أزمة عام 1962 وبعد أن فشل جمال عبد الناصر في سحب يد المشير وجماعته عن الجيش منذ الإنفصال السوري عام 1961 والذي أظهر النظام الناصري فيه فشلا ذريعا في إدارة أزمة الصراع و بما أسس لتجذر الخلافات و الصراعات السياسية داخل مؤسسة السلطة العسكرية، فالمشير كان يعتبر نفسه الرجل الأول مكرر في النظام الذي قام إعتبارا من عام 1953 بعد إلغاء النظام الملكي لأسرة محمد علي وقيام الجمهورية التي أكلت رئيسها الأول اللواء محمد نجيب والذي ألغى جمال عبد الناصر إسمه من خارطة التاريخ وحاول محوه بالكامل بل لم يتبق من ذكراه شيء سوى محطة للمترو بإسمه في وسط ( القاهرة )! بعد أن توفي بصمت وعزلة و إنقطاع عن العالم عام 1982 وهنالك أجيال مصرية كبيرة جدا لم تسمع بإسم محمد نجيب حتى اليوم!، لقد إستأثرت قلة قليلة من ضباط حركة 23 يوليو 1952 بالسلطة و الثروة و الجاه و المنصب و كان حظ عبد الحكيم عامر أن يكون هو ما غيره المسؤول الأول عن حماية النظام الذي شيده صديقه الحميم جمال عبد الناصر و أن يكون مانعة الصواعق ضد أية محاولات إنقلاب عسكرية كان عبد الناصر يتحسب منها كثيرا و تؤرق مضاجعه، وكان التحالف العسكري / الإستخباري و الإرتباط العملي العميق بين الجيش و المخابرات قد خلق في النظام المصري مراكز قوى و إستقطاب حادة أفرزت تصنيفات قيادية متصارعة، فالكل يتجسس على الكل و الخيوط كلها تصب في تقارير مختلفة تتوحد عند مكتب عبد الناصر الذي كان يراقب الصراع المحتدم بين مراكز القوى الحامية لنظامه و المعبرة عن سياسته، عبد الحكيم عامر وهو ينفرد بأمور الجيش و القوات المسلحة و ينظم العمل الإستخباري بالتعاون مع صلاح نصر كان تحت رقابة عيون جمال عبد الناصر بالكامل وكان راضيا بكل تلك التحركات، وكان من الطبيعي لضابط شاب و ريفي محدود الثقافة و الإطلاع و ترفع بطفرة وراثية من رتبة رائد في الجيش لرتبة لواء ثم لأعلى رتبة في سلم القيادات العسكرية للجيوش وهي الفيلد مارشال ( المشير ) و التي قلده فيها فيما بعد ( صدام حسين ) في العراق رغم كونه متخلفا عن الخدمة العسكرية!، أقول كان من الطبيعي أن يتوه و يختل توازنه في السلطة لأنه لم يحقق الإنتصارات و لا النتائج المبهرة في تاريخه العملي فهو أحد المسؤولين عن الهزيمة العسكرية الساحقة في سيناء و التي تحولت لنصر سياسي عام 1956 بسبب الصراع الدولي و ملفات و مقتضيات الحرب الباردة!! كما أنه كان أحد المسؤولين عن إنتكاسة الوحدة المصرية / السورية عام 1961 و حدوث الإنفصال ! و لكنه بدلا من أن يبعد أو تغير مواقعه القيادية على الأقل ظل في منصبه و تلقى الترفيع و الثواب بدلا من العقاب و كان صمام الأمان لنظام عبد الناصر الذي لا يثق بقادة عسكريين مصريين سواه حتى و لو كانوا من أعضاء و زملاء و رفاق السلاح في مجلس قيادة الثورة القديم الذي تفكك و أنتهى، فأمتد نفوذ المشير و شلته في القيادة العامة و المخابرات لكل مجالات الحياة من إدارة القصور و البنوك و المؤسسات المصادرة بفعل عمليات التأميم و القرارات الإشتراكية إلى إدارة كرة القدم!! إلى توزيع سيارات ( نصر )!! إلى إنتاج الأفلام و التدخل في حياة الفن و الفنانين!! وصولا للتدخل في اليمن و العراق و الأردن.. وبقية القصة معروفة، فكان سوء حظ الفنانة برلنتي عبد الحميد و كانت في أوج عطائها و تألقها آنذاك أن تلتقي بالمشير عامر الذي تضخمت سلطاته كثيرا و تعاظم دوره وسط الجيش و القوات المسلحة التي كانت تعتبر مفخرة للشعب المصري وقتذاك لأن المرحلة كانت تتطلب أن ( يكون السلاح صاحي )!! في زمن الشعارات الثورية و الإنقلابية، ولكن تلك العلاقة الزوجية تحولت للعنة قاتلة أنهت حياة الفنانة بالكامل و أختطت لها مسيرة حافلة بالدموع و الآلام و المعاناة بل و حملوها كما حملوا فنانين آخرين و منهم السيدة أم كلثوم مسؤولية هزيمة حزيران / يونيو 1967 التي لا يتحمل مسؤوليتها سوى النظام السياسي المصري و تحديدا قيادة جمال عبد الناصر التي أناطت بالفاشلين و العاجزين مسؤولية حماية الوطن و الشعب رغم أنه وهو الضليع في متابعة تقارير المخابرات يعلم تماما بعجز تلك القيادات المترهلة و الجاهلة ذات الطبيعة العشائرية و التي لا تمتلك مواصفات القيادة ولا شروط الإبداع و التميز، لا علاقة لأهل الفن في مصر بما حدث من إنتكاسة لأنهم شأنهم شأن بقية الشعب المصري ضحية لطغمة عسكرية كانتتتصارع على السلطة و النفوذ و كسر العظام فيما بينهم، ولم يؤخذ رأي الشعب في التصعيد و في إغلاق مضايق تيران أو في طبيعة التكتيك العسكري أو حماية المطارات و الطائرات الرابضة بها وهي مكشوفة تماما و كانها مواقف تاكسي تنتظر الزبائن في المطارات المتقدمة في سيناء!! فكانت الضربة العسكرية الإسرائيلية سهلة و ميسرة تهيأت لها أسباب النجاح بفعل غفلة القيادة العسكرية و مراقبة القيادة السياسية التي يبدو أنها كانت تنتظر تلك النكسة المريعة للإجهاز على خصومها في القيادة العسكرية مما جعل الشعب المصري ضحية لصراعات الضباط، لقد أنتشرت روايات خيالية حول خيانة أهل الفن في مصر وهي كما نرى روايات للإستهلاك ليس إلا فشلة المشير مثل مدير مكتبه أحمد شفيق صفوت كان متزوجا من الفنانة المرحومة مها صبري و كذلك آخر كان متزوج من سهير فخري، وحتى مدير المخابرات صلاح نصر كان متزوج عرفيا من السيدة إعتماد خورشيد حسبما اكدت هي في كتابها و مذكراتها حول الموضوع !!

أما برلنتي عبد الحميد فقد حامت الأساطير و الأكاذيب حول دورها رغم أنها كانت إنسانة تزوجت من إنسان يحبها و لكن المصيبة هي أن ذلك الإنسان لم يكن شخصا عاديا أو حتى ضابطا عاديا في الجيش بل أنه المشير عبد الحكيم عامر الرجل الأول مكرر في النظام وصاحب الصولة و الصولجان و الآمر الناهي الأوحد بشؤون الجيش و القوات المسلحة الذي تم بالكامل تحميله مسؤولية الهزيمة و التي هي في حقيقتها هزيمة تضامنية يتحملها النظام الناصري المخابراتي بأسره، لقد عانت برلنتي من قسوة التسلط الأمني بعد مصرع المشير وهي قضايا مؤلمة اشارت لها في كتابها القديم ( المشير و أنا ) ورغم أنها عادت للعمل الفني مطلع السبعينيات في عدة أعمال مع محمود ياسين إلا أن إنطفاء الوهج و قسوة الظروف و قوة المعاناة كانت واضحة على ملامحها و أدائها، لقد كانت الفنانة الراحلة إحدى ضحايا نظام حركة 23 يوليو و كانت شاهدا خيا على صراعات سياسية و عسكرية حاسمة، وعانت كما عانى الشعب المصري من قسوة تلك الظروف ولم تهز أبدا عرش إنقلاب 23 يوليو بل كانت واحدة كما أسلفت من أبرز ضحاياه، فتداخلات الفن و السياسة و المخابرات في العالم العربي تظل من أهم الملفات السرية و المسكوت عنها في عالمنا العربي السعيد بهزائمه التاريخية الكبرى!!؟... و كما يقول المثل المصري الشعبي الجميل و المعبر: ( ياما في الحبس مظاليم )!

dawoodalbasri@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الإنصاف
ابن الرافدين -

معروف عن داود البصري دفاعه المستميت عن الكويت. إنه يرفع معها شعار: انصر أخاك ظالما أو مظلوما، حتى حين تكون في خلاف مع وطنه العراق. وفي هذا المقال يشن الكاتب هجوما كاسحا على نظام الراحل عبدالناصر، ولا يترك مذمة إلا ويلصقها به. ولأن داود يكتب بحدة وانفعال، فإنه في خضم انفعالاته القصوى المتحاملة على عبدالناصر، نسي أن العراق في سنة 64، أي قبل وصول صدام حسين والبعث إلى السلطة ب 26 عاما، كان العراق يعتزم غزو الكويت، وأن تدخل عبالناصر الحاسم، ورفضه للأمر، هو الذي حال دون حصول الغزو. على الأقل، بالمقاييس الكويتية التي يعتمدها في مقاربة القضايا والمشاكل، يتعين على داود، حين الكتابة عن عبدالناصر، أن يستحضر أن ناصر هو الذي تصدى لكارثة الغزو العراقي للكويت، ومنعها من الوقوع في عهده. فلقد أخرها حضوره إلى 1991 حيث لم يكن في مصر قائد في حجمه وفي عظمته وقوة شخصيته، فوقعت المصيبة التي ما زال العراق يجر ذيولها إلى اليوم. قليلا من الإنصاف للآخرين، ففي ذلك إنصاف للذات وتكريم لها ياداود..

تنبيه
ابن الرافدين -

لأسباب تقنية أثناء الكتابة وقع خطأ غير مقصود مني في التعليق رقم 1، فحزب البعث وصل إلى السلطة في 17 تموز/ يوليو 1968، والغزو العراقي للكويت سنة 1990. وبه وجب التنبيه.

ضمير عربي حي نادر
معاوية -

من النادر أن نرى كاتباً عربياً أصيلاً جريئاً نزيهاً كالأستاذ داود البصري يشعر بآلام وآمال المواطن العربي بحيادية نادرة، يتميز بسعة الإطلاع ودقة وعمق التحليل وكشف الأنظمة الارهابية الشمولية وفسادها وخيانتها لأوطانها وتعتيم مرتزقتها عليها وتلميع صورها الشنيعة. عبد الناصر بإستنساخه النظام الشيوعي ، جر على البلاد العربية الدمار والخراب وتنافس الثلاثي البلطجي صدام وأسد والقذافي على تقمص شخصيته وأكملوا المهمة بالنيابة عن الصهيونية العالمية التي منحتهم طول البقاء وأوسمة العمالة والخيانة للأوطان.

السؤال
حسام جبار -

يا أستاذ داود البصري هل الهروب من أداء الواجب الوطني في الخدمة العسكرية لحظة الحرب يعتبر حالة عادية وطبيعية، وهل من يقوم بذلك يحق له أن يحاضر فينا بصوت عال عن الوطنية؟

التافه
حسام جبار -

التافه منتحل اسمي تعليق (4) من اتباع بطل الحفرة وياحبذا لو سأل سيده وقتها هل الاختباء في حفرة حقيرة في تكريت من الرجولة بشىء ام مقاومة الامريكان حتى أخر اطلاقة في بغداد ؟؟؟

الاستشهاد
أحمد الفراتي -

عرض على صدام حسين مغادرة العراق واللجوء السياسي إلى أي بلد يشاء مع المبلغ المالي الذي يريد، ولكنه رفض، وحارب، وقرر ككل الأبطال الاستشهاد في أرض العراق، بخلاف آخرين يقدمون لنا دروسا في الوطنية اليوم، ولكنهم فروا من أداء واجبهم الوطني في الخدمة السكرية وقت حرب الثماني سنوات، وعادوا إلى وطنهم على ظهور دبابات الغازي المحتل..

وماذا عن عبير؟
د. سعد منصور القطبي -

تمنيت لو أن الكاتب المحترم السيد داود البصري تفضل علينا بمقال عن الطفلة عبير الجنابي ذات 16 ربيعا التي اغتصبها جندي أمريكي وقتلها وأفراد عائلتها وصب عليهم البنزين وأضرم النيران في جتثهم. قصة عبير الجنابي يفترض أنها قصة أكثر تأثيرا وأدعى لتعاطف الكاتب العراقي داود معها، من قصة برلنتي عبدالحميد. فصاحبتنا هذه عاشت حياتها بالطول والعرض منعمة مكرمة في خيرات الشعب المصري إلى أن أخذها الله، بعد أن بلغت من العمر عثيا، إلى عالم الملكوت. عبير اغتصبت قي طفولتها، وانتزعت منها حياتها في ريعان شبابها، وهي عراقية، أي من المفترض أنها أقرب إلى قلب الكاتب الوطني الكبير داود، ما عدا إذا كان الأجانب من كويتيين ومصريين أقرب إلى قلبه من إخوته في الوطن.