أصداء

تركيا- إيران.. ليتهما آخر المتاجرين بالقضايا العربية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أمران لفتا الإنتباه في زيارة أردوغان إلى لبنان الأول ما ذكر عن وساطة له لتفادي تصدع محتمل في الوضع اللبناني، ناجم عن القرار الظني الذي تنوي المحكمة الدولية الخاصة بمقتل الحريري إصداره في الأسابيع المقبلة الذي يوحي اتهام حزب الله بمقتله حتمياً، ما يدفع بقطاع عريض إلى الإعتقاد بإنزلاق هذا البلد مجدداً إلى إقتتال داخلي جديد، وهو احتمال ضعيف. أما تصميم طرفي التناقض الرئيسيين ذي العلاقة بالملف اللبناني، إيران والسعودية، كل على إنفراد، بعيداً عن أي تنسيق، على كبح جماحه، فالأولى قطعت شوطاً كبيراً في استمالة الحريري الابن وحكومته إلى جانبها، من خلال زيارات بين قادة البلدين، إيران ولبنان، على أرفع المستويات. تمخضت عن توقيعهما لعقود واتفاقيات كثيرة في مختلف المجالات لا بد أن تغلب المصلحة الدائمة على العداوة اللا دائمة حسب مبدأ تشرشل. ناهيكم عن تفضيل رجل إيران القوي في لبنان حسن نصر الله، حل أزمة مقتل الحريري بغطاء سوري - سعودي على ما يصدر عن تلك المحكمة. والذي من الطبيعي أن ينزع إليه الحريري على خلفية قبول لبنان بمبادرات ووساطات سعودية سابقة. لذا، فإن أردوغان الذي لم يكلفه أحد مشقة إدلاء دلوه في الشأن اللبناني، سيصطدم بطرفي التناقض المشار إليهما، فالسعودية رجل المهمات الصعبة في تذليل المشكلات اللبنانية، أثبتت دبلوماسيتها الهادئة والبطيئة على حد وصف المراقبين لها أكثر من مرة على نزع فتيل الإقتتال في لبنان. لهذا فأن الأنظار لدى حصول أزمة ما شبه مستعصية فيه، سرعان ما تتجه إلى السعودية لتتجاوزها. عليه فان دخول أية مبادرة عدا مبادراتها على الخط في الحالة اللبنانية، محل شك، فالتفاف عن قصد أو غير قصد على المبادرات السعودية المجربة في تحقيق النجاح عند التعاطي مع الملف اللبناني. والذي يعمق من الشك في مسعى أردوغان، أنه حصل في غياب العاهل السعودي بسبب من إدخاله المستشفى في الولايات المتحدة لإجراء عملية جراحية له، وبذلك يبدو هذا المسعى منه وكأنه إنتهاز للفرصة.

من الثابت أن القاعدة تصاغ من تكرار الحالة، فإذا كانت المبادرات السعودية قد نجحت واحدة تلو الأخرى لرأب الصدع في لبنان، فإن المبادرات التركية السابقة على مبادرة أردوغان للتوفيق بين أطراف النزاع المتعددة، لم يكتب لها النجاح، ففي حينه فشلت للتقريب بين السوريين والاسرائيليين، وفيما بعد بين الإيرانيين والغربيين وكذلك بين العراقيين والسوريين، وفي أحدث فشل، للمبادرات التركية ودبلوماسيتها التي سبقت زيارة أردوغان تلك بنحو اسبوعين على وجه التقدير، تلك التي نفذها وزير الخارجية التركية أحمد داوود أوغلو إلى أربيل وبغداد والتي عاد منها ليس بخفي حنين فحسب بل بنقمة وغضب الكرد والشيعة العراقيين عليه أيضاً الذين وجدوا في مبادرته إقصاء لهم عن الحكم والتنازل عنه لإئتلاف العراقية السني. وقد فضح الطالباني رئيس الجمهورية العراقية بشدة مرامي أوغلو وعدم وقوفه على مسافة واحدة من الجميع في تدخله الصارخ في الشأن العراقي. وهكذا فشلت مبادرته مثلما فشلت سابقاتها من المبادرات التركية التي عرضنا لها لخلوها أصلاً من الشروط التقليدية التي يجب توافرها في الوسيط أو الحكم وفي مقدمتها الحياد الذي سرعان ما كانت ترتد عنه تركيا. ففي النزاع السوري - الاسرائيلي كشفت عن انحيازها فيما بعد لسوريا، وفي الإيراني - الغربي لإيران، وفي العراق كما رأينا لإئتلاف العراقية.

يستنتج المراقب لما تقدم، أن تركيا وسيط وحكم فاشل بحق في التحكيم بين الفرقاء المتنازعين. والذي يبعث على التهكم اختيار مجلة أمريكية لأوغلو كواحد من بين أفضل "100" مفكر في العالم لهذا العام 2010 عام فشل واخفاق المبادرات التركية الخارجية!!.

أما الأمر الثاني، فهو التحذير الذي وجهه إلى اسرائيل في حال شنها لهجوم على لبنان وغزة، من أن بلاده "تركيا" لن تصمت، ولا ريب أن خروج تركيا عن الصمت الذي ورد في تصريح أردوغان، احتمال ضعيف أيضاً. نابع عن إحتمال ضعيف آخر ألا وهو قيام اسرائيل بشن هجوم عليها، دع جانباً القول أن تحذيره يأتي في زمن غير مناسب، كونه يتقاطع مع أضخم المساعي الأمريكية والغربية والعربية لفرض إحلال السلام بين الاسرائيليين والفلسطينيين الذي يعلق عليه العديد من الأوساط الدولية الآمال على نجاحها أو على الأقل إرجاء التصادم بينهما لأجل غير منظور أو مسمى ما يعطي للمساعي السلمية فرصاً أكبر لحل المشكلة، أضف إلى ذلك قرار اسرائيل بالإنسحاب من قرية "الغجر" الذي بعث بالحيرة في نفوس الكثيرين، لأنه يشكل حادثاً غير مسبوق في تاريخ الاحتلالات الاسرائيلية للأراضي العربية. ما يفيد أن تحذير أردوغان ذاك يبدو كنغمة نشازة تعزف في وقت غير مناسب. والذي يقيناً لن يؤخذ على محمل من الجد على خلفية الصمت التركي المهين للحادث الذي تعرض له اسطول الحرية قبل شهور من الآن والذي راح ضحيته عدد من الأتراك كانوا على متنه عندما أطلقت البحرية الاسرائيلية النار عليهم وقتلتهم، وما ترتب عليه من إرغام للإسطول على تغيير مساره. ولم تكن تداعيات الحادث هذا بأقل إهانة لتركيا من الحادث نفسه، وقبله حادث إهانة السفير التركي لدى اسرائيل، حين رفضت اسرائيل تقديم أي إعتذار وتعويض لتركيا نزولاً عند طلب الأخيرة كشرط لإصلاح ذات البين. لذا، لا يعقل أن تثأر تركيا للبنانيين والفلسطينيين في حال تعرضهم إلى هجوم اسرائيلي جديد، في وقت لم تتأثر لنفسها من الصفعات التي كالتها لها اسرائيل. ويبقى أردوغان مفتقداً إلى المصداقية، طالما بقي الصمت التركي متواصلاً على الإهانات التي تلقتها.

على سنوات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين قتل واغتيل زعماء دول وأحزاب ولكن من غير أن يتسبب مقتلهم في معظم الحالات في نشوب الحروب، ومن بين الدول التي شهدت عمليات اغتيال لزعمائها وأعلامها بشكل لافت لبنان، فلقد اغتيل كمال جنبلاط وبشير الجميل ورفيق الحريري وبيار الجميل، ومن الأرجح أن لا يقود القرار الظني في الكشف عن قتلة الحريري، إلى نشوب حرب أهلية في لبنان. هب أنها إندلعت، يقيناً أن أسباباً أخرى، متراكمة وغير مباشرة هي التي تدفع بهذا البلد ومواطنيه إلى الإقتتال لا سمح الله.

إذاً، والحالة هذه، ربَّ من ينبري متسائلاً: إذا كان الفشل نتيجة حتمية للمبادرات التركية ودبلوماسيتها، فما الفائدة التي تجنيها الأخيرة من الاستمرار عليها؟.

إن ما يهم تركيا، ليس إحلال الصلح والوئام بين المتنازعين في المنطقة، ولا أُغالي إذا قلت أن بقاء الخصومات واستمرارها واستفحالها من صميم مصلحتها ومصالح أطراف دولية أخرى مثل إيران والولايات المتحدة الأمريكية. إن ما يهم تركيا بدرجة أولى، هو خروجها من مبادراتها ومساعيها بمكاسب تجارية واقتصادية كالتي حصلت عليها يوم توسطها بين العراق وسوريا حين وقعت على اتفاقيات وعقود تجارية مع الجانبين المتخاصمين على حد سواء، والتي لا بد وأن تدر بأرباح كثيرة عليها، وبدت أي تركيا في وساطتها تلك، كالثعلب الذي توسط بين أرنبين لحل خلافهما على قطعة الجبن كما في الحكاية التي قرأناها في المرحلة الإبتدائية. لقد وقعت تركيا على 11 اتفاقية تجارية مع سوريا نتيجة توسطها ذاك. أضف إلى ذلك أن شركاتها نالت حصة الأسد في تعاملاتها مع العراق وبالأخص في إقليم كردستان. كل ذلك من دون التطرق إلى حرب المياه المقبلة لتركيا على هذين البلدين، ولا يغيب عن البال، أن دبلوماسيتها التي اخفقت في فرض "العراقية" على الإئتلافات الانتخابية العراقية الأخرى، إلا أنها كانت موفقة قبل توصل الكيانات السياسية العراقية إلى اتفاق وفق مبادرة البارزاني، في فرض "صديقها" أسامة النجيفي الذي وصفه الطالباني بـ "صديق تركيا" والصديق هنا كناية عن العميل، فرضه على العراقية لترشحه إلى منصب رئاسة المجلس الوطني العراقي.
والآن إلى الشق الثاني من عنوان المقال، أي الصراع التركي الإيراني على النفوذ في المنطقة. وأقول أن من أسباب التحرك التركي الاقليمي الجالب للملاحظة، أو كما يسميه بعضهم بالدول التركي المتنامي والذي لم يتجاوز إلى الآن البلدين العراق وسوريا، هو منافسة إيران بدرجة أولى والسعودية بدرجة ثانية، مع الفارق بين دور السعودية والدورين الإيراني والتركي. فالدور السعودي وكما رأينا مقبول ومطلوب على علاته، ويأتي الدور التركي منسجماً مع رغبات الغرب والولايات المتحدة الأمريكية بالأخص، بالرغم من أن ظاهر الأمور يوحي عكس ذلك. فالاتحاد الأوروبي الذي كانت نسبة دوله المعارضة لعضوية تركيا العلمانية فيه تقدر بنحو 80% في الماضي، انخفضت النسبة الآن إلى أقل من 40 % إزاء مسألة عضوية تركيا الإسلامية فيه. ومما له دلالاته على عدم حصول أي تغيير جذري جدير بالذكر في علاقات تركيا بالغرب، موافقتها على المشاركة في مشروع الدرع الصاروخية وبناء قاعدة لها في أراضيها. دع جانباً القول عن الإنطباع الذي روجته المجلة الأمريكية عن شخصية أوغلو، ويؤكد على صدق ما نقول، أكثر من مثال، لعل أقواه تصريح البارزاني حين عودته من بغداد إلى أربيل، في مؤتمر صحفي بتدخل أمريكي في الاتجاه عينه الذي رمى إليه أوغلو الذي فضحه الطالباني كما نوهنا. أما منافستها لإيران والموثقة بأدلة وقرائن عدة، تتجسد فيما تتجسد بمحاكاتها الأخيرة وتقليدها لها. فزيارة أردوغان إلى لبنان جاءت في أعقاب زيارة الحريري لأحمدي نجاد إليه والتي كان لها دوي للتهديدات التي أطلقها ضد اسرائيل والشيء نفسه فعله أردوغان في تحذيره المذكور لها ومن باب المزايدة. ذكر غزة إلى جانب لبنان والثأر لها عند تعرضها لهجوم اسرائيلي، وذلك على أمل تلقي دعوة من "حماس" لزيارة غزة كالتي وجهتها الأخيرة إلى الرئيس الإيراني لزيارتها. وقبل أسابيع أعلنت إيران عن عزمها بناء جدار عازل بينها وبين العراق وبالذات في المناطق الحدودية مع كردستان العراق، فما كان من أردوغان إلا أن يعلن عن نية حكومته في نشر وحدات عسكرية تركية على طول الحدود ومع كردستان العراق أيضاً. وعندما أعلنت إيران عن إلغاء تأشيرة الدخول بينها وبين كردستان العراق، اتخذت تركيا للفور إجراءاً مماثلاً في مجال تسهيل منح الفيزا للعراقيين الراغبين في السفر إليها. ويوم ترددت فكرة ترسيم الحدود بين العراق وإيران في ضوء اتفاقية الجزائر التي وقعت بينهما عام 1975 في الجزائر والتي أظهرت بأن الترسيم لم يتم بشكل كامل أو تام، فأن تركيا بدورها طالبت بترسيم للحدود بينها وبين العراق. وعلى أثر إطلاق تصريح من قبل البارزاني قبل نحو أكثر من "5" أشهر حول أحقية "العراقية" بتشكيل الحكومة الجديدة في العراق عملاً بالإستحقاق الانتخابي، قامت إيران بقصف مركز غير مسبوق للمناطق الحدودية في كردستان العراق، وكما يقال شر البلية ما يضحك، وجرياً على العادة في تقليدها لإيران، أقدمت تركيا في الفترة والأيام نفسها على تصرف مماثل. علماً أن كلا الإعتداءين والإعتداءات السابقة واللاحقة لهما، تلتقي لتحقيق هدف واحد وهو إجلاء السكان الكرد من الشريط الحدودي الشمالي والشرقي للعراق، وما ينجم عنه من فراغ تسعى الدولتان المتنافستان لملئه. ومن أهداف إيران في إخلاء سيما منطقة سلسلة جبال قنديل الوعرة والاستراتيجية، من مقاتلي حزب العمال الكردستاني PKK تحويل هذه الجبال إلى معسكر لمنظمة "القاعدة" المصنفة على الإرهاب وذات الإرتباطات القوية بإيران. مما فات، يتراءى من مسلسل الصراع التركي - الإيراني تقليد تركي ببغائي لإيران أو ترجمة حرفية لسلوكياتها. ما يعني أن المبادرة بيد الأخيرة، فيما الثانية "تركيا" تلهث للحاق بها ومحاكاتها. ويصح القول أن المقلِّد دون المقلَّد. وبزيارة أردوغان للبنان تكون تركيا قد تورطت في منافسة أخرى، ألا وهي منافسة السعودية.

لقد بات من المؤكد، أن القول بمتاجرة بعض من الدول العربية وجهات دولية أخرى بالقضية الفلسطينية في الماضي وفي الحاضر كذلك والإبقاء عليها مشتعلة خدمة لمصالحها، مصالح هذه الدول، يسري بقوة على تركيا وإيران اللتان ستقلقان من دون أدنى شك على نجاح أي حل للمشكلات العربية. ولسوء حظ العرب، أن مشاكلهم في الأعوام الأخيرة تعددت لتضاف إلى المشكلة الفلسطينية مشاكل لبنان والعراق والبقية تأتي، ما يفتح الباب على مصراعيه أمام التدخلات والمتاجرة بالقضايا العربية والمزايدة عليها أكثر فأكثر.


Al_botani2008@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف