فضاء الرأي

ساركوزي ومؤشرات الثراء

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان
ركزت مؤشرات الثراء الاقتصادية في القرن العشرين على الناتج المحلي الإجمالي، لتحديد مستوى التنمية، وقد تعرض هذا المؤشر للنقد الشديد بعد الأزمة المالية لعام 2008، لكونه يمثل حسابات القيمة السوقية للبضائع والخدمات التي تنتجها الدولة سنويا، ولا يعكس النشاطات الاقتصادية خارج السوق، من جهود الأمهات والعائلة في البيت، وجهود الدولة في الخدمات الصحية والتعليمية العامة، ومدى استهلاك الهواء والماء، والنشاطات اللازمة لمعالجة التلوث البيئي، وأوقات المتعة والسعادة التي يقضيها المواطن مع العائلة والأطفال والأصدقاء، ويبقى السؤال: هل سيتقدم العالم في القرن الحادي والعشرين بدون مقاييس دقيقة لنشاطات الثراء الإنسانية؟
لقد لاحظ الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي هذه المشكلة بعد الأزمة المالية لعام 2008، فشكل لجنة عالمية لوضع أسس جديدة لقياس الأداء الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، وعين على رأسها ثلاثة من خيرة علماء الاقتصاد في العالم الحائزين على جائزة نوبل: جوزيف ستيجلتز، وامارتيا سن، وجين بول فتويسي، وضمت عدد كبير من الخبرات الاقتصادية العالمية. وجمعت اللجنة نتائجها في كتاب بعنوان، سوء قياس حياتنا: لماذا لا يضيف الناتج المحلي الإجمالي، وكتب المقدمة ساركوزي، وبدأها بقوله: "لن نستطيع تغير سلوكنا، إلا حينما نغير الطريقة التي نقيس فيها أداءنا الاقتصادي. ولنجنب أحفادنا المعاناة من ماسي مالية واقتصادية واجتماعية وبيئية، علينا تغير طريقة معيشتنا واستهلاكنا وإنتاجيتنا، بل علينا تغير المقاييس التي تحكم منظماتنا وسياساتنا العامة. وهناك ثورة هائلة تنتظرنا، ولن تكتمل إلا حينما نبدأ في تغير عقولنا، وذلك بتغير الطريقة التي نفكر فيها، وتغير مفاهيمنا وقيمنا، وتغير الطريقة التي نعرض فيها عواقب أفعالنا ونتائج أعملنا. ولو استخدمنا المعايير الدقيقة التي اقترحه التقرير لتقيم نشاطاتنا الاقتصادية للعقود الثلاثة الماضية، وراجعنا الحكم في قراراتنا، وثبت فشل نموذجنا، وتأكد سوء أدائنا، لأصبحت الحاجة للتغير واضحة."
ويستطرد ساركوزي في القول: من الضرورة أن تعكس إحصائياتنا وحساباتنا طموحاتنا والقيمة التي نحددها للأشياء، ولو اعتبارنا إحصائياتنا معطيات موضوعية، معصومة من المساءلة، سنكون مطمئنين، ولكن ستكون العواقب وخيمة، حيث سنصل لنقطة نتوقف السؤال عن هدف ما نقوم به، وما الذي نقيسه، وما هي الدروس التي تعلمناها. وبذلك ينغلق الذهن، فيترك نظرياتنا مجردة عن الشك والمسائلة، فنمضي عشوائيا إلى الأمام، مقتنعين بأننا نعرف طريقنا، لنخلق فجوة بين إحصائيات خبراء المعلومة وخبرة المواطنين الحياتية، وستكون فجوة خطيرة، توهم المواطنين بالخداع وتدمر ثقتهم بالديمقراطية. وبعد أن أكد خبراء المال للمواطنين، ولسنوات طويلة، بتحسن مستواهم المعيشي، وبأن المال محرك للتنمية، ساءت أوضاعهم الحياتية يوم بعد الآخر، وجرت مخاطرة خبراء المال العالم لحافة الهاوية، ليخسر الكثير من المواطنين بيوتهم ووظائفهم وتقاعدهم. والمشكلة، بأن عالمنا ومجتمعنا واقتصادنا تغير بعد أزمة عام 2008، ولم تستطع مقاييسنا الاقتصادية أن تجاري هذه التغيرات، بعد أن تلاعب خبراءنا بالإحصائيات والحسابات، فتصورنا بأن أحلام الثراء هي الثراء نفسه، وسيأتي اليوم الذي علينا دفع ثمن المخاطرة والمغامرة، بعد أن خدعنا ببحور من المعطيات وغرقنا في أعماقها.
ويعلق ساركوزي على التقرير، فيقول: بين تقرير اللجنة بأن حقائقنا وإحصائياتنا كاذبة، وبأن طريقة تفكيرنا التقليدية عاجزة، وبأننا في حاجة لإعادة البناء والاختراع. وسيبقى السؤال: ما هو نموذج التنمية والمجتمع والحضارة التي ستلهمنا، لنعيشها، ونرثها لأطفالنا؟ ولن يكفي أن يكون السياسي إداريا يقرر حلول للازمات الاقتصادية، ويساعد على التغير، بل عليه أن يكون محرض للتغير، وبسرعة، ويحدد أهدافه. وعلينا تحديد طريقنا، وأهدافنا وكيفية تحقيقها، وحينما نتأمل العلاقة بين الكمية والكيفية، وبين الموضوعية والذاتية، وبين القطاع الخاص والعام، نعكس بذلك بوضوح إدراكنا لمفهوم الحضارة، والتي على أساسها سنقرر ما سنحققه. ولو اعتبرنا الخدمات التي نقدمها لعائلاتنا، والساعات التي نقضيها في راحتنا ومتعتنا، كالثقافة والرياضة، لا قيمة سوقية لها، فنحن نعبر عن حضارة تقدم معيار الإنتاجية العالية، على إدراك الطاقات البشرية الكامنة، لنخالف القيم الإنسانية التي نتشدق بها. فما الذي سيبقى من فكرة التطور إذا لم نحسب في اقتصاديات السوق زيادة الكلفة الطبية لحوادث سوء صيانة البنية التحتية، والموارد المالية التي تخصص لمحاربة القلق النفسي، وكلفة الخدمات الطبية والتعليمية والاجتماعية والأمنية العامة؟ ولو انغلقنا على مؤشرات ما نخلق لا ما ندمر، كالتلوث البيئي والتغيرات المناخية، ولم نخصم من ما ننتجه مما نستهلكه خلال عملية الإنتاج، ونتناسى الديون التي نسحبها من مستقبل الأجيال القادمة، فكيف سنقنع مواطنينا الثقة بنا؟
وستعتمد الحضارة التي سنخلقها على الطريقة التي نبني فيها حساباتنا، فلو رفع نظام قياسنا قيمة النشاطات التجارية المالية، وربطها بزيادة قيمة المخاطرة المصطنعة، والتي ستؤدي لزيادة تقلبات السوق، فأين قيمة الخدمات المالية التي تحمينا منها؟ ولو بالغ نظام قياسنا فائدة المضاربة على حساب قيمة العمل والإبداعات الذهنية، فسيعكس رؤيتنا المغلوطة للتقدم، وسيدخل في قلب نظامنا الرأسمالي تناقض يدمره. والمشكلة بأن معظم قراراتنا تعتمد على معطيات مرتبطة بنظام قياس مرتبط بقيمة المعدل الوسطي، وهي قيمة تبتعد يوميا عن الواقع، فلم يخلق نظامنا الرأسمالي مؤخرا الفرد المتوسط، بعد أدى التلاعب لتصاعد التباين الهائل في الدخل، ليصبح الحديث عن المعدل المتوسط طريقة لتجنب الحديث عن اللامساوة. ويعتقد البعض بأن السوق تستطيع حل جميع المعضلات، وقد أثبتت الخبرات السابقة بأن السوق ناقصة، وبعيدة عن المسئولية والخطة والرؤية، ولا نعرف حتى قيمة أصولنا لأن قيمتها السوقية تتغير كل ثانية، لذلك لا يمكن أن نبني مشروعنا الحضاري فقط على السوق، ولحظية العرض والطلب. كما لن نستطيع معالجة تحديات التغيرات الحرارية بترك توازن العرض والطلب لخلق سوق للكربون، ولا نستطيع التركيز على المعطيات التي توفرها لنا السوق، واعتبار السوق منبع لكل الحقائق، ولو كانت تلك الأكذوبة صادقة لما كنا اليوم في هذه الأزمة. ولم يخبرنا التقرير أين حقيقة الأزمة، ولكنه سيساعدنا على طريقة البحث عنها، ويجبر كل منا لمواجهة مسئولياته، لنفكر بطرق متعددة، ونقرر قرارات مختلفة، ولن نستبدل طريقة إحصائية بطريقة أخرى، بل علينا تدمير أسلوبنا العقائدي في التفكير، لنخرج من العقيدة المأساوية التي سجنا في قلاعها، والتي منعتنا من التفكير والمسائلة، وحبستنا بطريقة وحيدة لرؤية الأشياء.
واستخلصت اللجنة بأن الناتج المحلي الإجمالي لا يعتبر مقياس للرفاهية الاقتصادية، فلا يمكن تحديد سعر لبعض البضائع والخدمات المجتمعية، فمثلا، لا تحسب السوق كلفة إنتاج الطاقة على هواء المجتمع وصحة أفراده، والكوارث البيئية الناتجة عنه، كما أن هناك منتجات قياس درجة نوعيتها معقدة، كالخدمات العائلية والصحية والتعليمية والأمنية، والنشاطات البحثية والمالية. بل قياس نوعية الحياة، مفهوم أوسع من الإنتاجية الاقتصادية، ويشمل عوامل كثيرة تتجاوز المعيار المادي، كرفاهية البشر ومتعتهم وسعادتهم وتحقيق أمالهم، والتي لا يمكن تقدير سعرها في السوق. لذلك، يجب أن يعتمد قياس نوعية المعيشة الحياتية على تقيم اقتصادي ونفساني مشترك، لتلعب استطلاعات الرأي دورا في قياس مدى رفاهية البشر وسعادتهم في المنزل والعمل والمجتمع، ومستوى وضعهم المالي، ودرجة إحساسهم بالألم والقلق والغضب، أو المتعة والفخر والاحترام. بالإضافة، هناك قياسات موضوعية، كمدى صحة المواطن، ومستوى تعليمه، ومدى الحرية المتوفرة له للعمل لتحقيق أهداف حياته في السياسة والعمل والعائلة، ومدى توفر ساعات الفراغ ليتمتع بوقته مع عائلاته وأصدقائه، ومدى توفر فرص متساوية للمشاركة السياسية، والمحافظة على بيئة صحية نظيفة، والضمان الأمني والاجتماعي والاقتصادي. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
افق واسع
منير العبيدي -

مقالات من هذا النوع، و خصوصا ما تضمنته من عرض لافكار ساركوزي، تظهر حقائق كثيرة اهمها مدى تخلف التفكير العولمي الشامل عن مستوى تطور العولمة الاقتصادي و المعلوماتي. اي العجز في ادراك العولمة و اللحاق بتسارعها نظريا.يشير ساركوزي الى خطورة النظرة العقائدية لدور السوق، و هو كما ارى يرد على الريغنية و النمط الامريكي في التعامل مع السوق كمصحح للاقتصاد، و كنت اشرت في مقال ارسلته لايلاف قبل نشر هذا المقال بثلاثة ايام و لم ينشر لحد الآن، الى مدى خطورة تحويل اللبرالية الى عقيدة على يد بعض معتنقيها كما حصل للماركسية.شكرا للكاتب.