الأحزاب (( المُعربة )) و الأحزاب (( المَبنية ))
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يقول النحويون : أن الأسم المبني، هو الأسم الذي يلزم حالة واحدة في الكلام، ولا يتغير إعرابه بتغير العوامل اللفظية الداخلة عليه.
ونقول هنا : أن الحزب (( المَبني )) هو الحزب الذي يلزم حالة واحدة من الأحداث، ولا يتغير بتغير الظروف الداخلة عليه، من الحوادث، والنوازل، والمستجدات.
ويقول النحويون إيظا ً : أن الأسم المُعرب، هو الأسم الذي تتغير أواخره، بتغير العوامل اللفظية الداخلة عليه. فيرفع تبعا ً لذالك، وينصب، ويجر.
ونقول هنا أيظا ً : أن الحزب (( المُعرَب )) هو الحزب الحي الذي يغير وسائله وأساليبه، بتغير الأحداث والظروف الداخلة عليه. فيطور بذلك، ما يتمكن معه، من الأستجابة للتحديات، والتصدي لها، والتغلب عليها.
ومن حيث أتصالها بالواقع، وتكيفها مع المتغيرات، تخضع الأحزاب السياسية، لمعادلة حتمية من طرفين : فأما الأستجابة، والتصدي، والتغلب، على تحديات الواقع. أو الفشل في الأستجابة، والذي يعني التوقف، والتقهقر، والأنسحاب من معترك المسؤلية. وليس هذا سوى الموت، الذي يبقى، في كل الأحوال موتا ً، حتى لو جاء بطيئا َ، وعلى وجبات.
يقول بعض سدنة الأحزاب السياسية، إن المبدئية، والصلابة، والثبات، هي سمة الأحزاب الناجحة. ويقول آخرون إن الواقعية، والمرونة، والتحول، هي سمة الأحزاب المتفوقة. ويتنافس الرأيان بقوة، لإثبات الواقع الأصح، والتصدي لقيادته.
وكلا الرأيين مقبولان، إلا أن للرأي الأول مكانا، وللرأي الثاني مكانا آخر. فالحزب الناجح في برامجه وسياساته، هو الحزب المبدئي، والصلب، والثابت، في الأهداف والغايات النهائية. أما الواقعية، والمرونة، والتحول، فمحلها الوسائل والآليات العملية، التي يُتوصل من خلالها لتحقيق الأهداف والغايات.
وكثيرا ً ما يقع الخلط والألتباس بين هذيين الرأيين، وينشأ عن ذلك، المزيد من الجدل، والتنافس، والمماحكة، بين ممثلي كلا الرأيين. فمتى ما طرح الكلام، والتنظير، والتثقيف، عن عقيدة الحزب، وأهدافه، وغاياته الكبرى، ومقاصده المهمة. تصدى من يقول : إن الكلام في كل ذلك أصبح مكرورا ً، وتحصيلا ً للحاصل، وعلينا الأهتمام بالجديد من الحوادث، والكلام أكثر عن الواقع.
وكلما طغى التنظير لهذا الواقع، وكثر الكلام عن الوسائل، والآليات، والتساهل في التعاطي مع المتغيرات، أنتفض من القوم، من يدافع عن الثوابت والأهداف، ويذكر بالمبادئ والأوليات، ويقول إن التساهل والتماهل، سيُضيع علينا عقائدنا، ويجرنا للمداهنة، والمساومة، والأنحراف. ثم يستعيذ بالله من عاقبة السوء.
وعندما تكون الأجواء الحزبية سليمة وطبيعية، ويسير هذا الجدل بتلقائية أكبر، وصدق، وحرص، ونيات حسنة. فإن الأمور ستتجه في النهاية إلى التركيز على تشخيص المشكلة محل الأبتلاء، والنظر فيما إذا كانت مبدئية ثابتة، أم وسائلية متحركة. فإن كانت الأولى، فالتشدد المطلوب. وإن كانت الثانية، فالتساهل المرغوب. وفي كلتا الحالتين، فإن العامل المجتهد، معذور في إجتهاده وعمله. ويبقى التوفيق من الله وحده، في إصابة الواقع.
قليلة، وموفقة، هي الأحزاب التي تنجح في الموازنة بين هذين الأتجاهين، فتحافظ في الأهداف، وتنفتح في الوسائل. والمتحقق من هذا الجمع، هو النجاح على المستويين : النظري، والعملي. أما على المستوى النظري، فإننا سنجد أنفسنا منسجمين في عملنا وأدائنا السياسي، مع ما نؤمن به، ونعتقده، من عقائد، ومبادئ، وقيم أخلاقية وروحية عليا. وهذا الأنسجام، بين ما يعتقد به العامل، وما يمارسه في عمله، يعتبر من الشروط المهمة في توفير الأجواء الروحية، والمعنوية، والنفسية، السليمة في داخل الحزب. لأن الإزدواج يخلق حالة من عدم الثقة بالنفس، ويترك أثرا مدمرا على شخصية الفرد، والجماعة، على حد ٍ سواء.
وأما على المستوى العملي، فإن التوفيق بين الأتجاهين، سيخلق حالة مثالية من الإنسجام بين العاملين، ويجعل وجهات النظر المختلفة، تعمل في مسافات قريبة من بعضها للبعض الآخر. ويجنب العمل الحزبي، المزيد من الأختلاف، والتباعد، والتضارب في الإتجاهات. وبالتالي يحفظ وحدة الحزب، وينجو به من خطر الإنقسام، والإنشقاق، والتشظي. وهذه الأخيرة، أمراض، ومخاطر، كبيرة، قلما نجت وتنجوا منها التجارب الحزبية في العالم.
بينما ينشغل الجيل القديم في هذه الأحزاب، بالحفاظ على ما هو كائن. تفزع الأجيال الحزبية الشابة إلى مستقبل الأحداث، وتتطلع لما سيكون.
وليس المعيار في ذلك فارق الأعمار، أو عدد السنين. فالطالما وجدنا في هذه الأحزاب، من وهن عظمه، واشتعل رأسه شيبا ً، وهو يفيض بالحيوية، والعطاء، والتجدد. فتجده متابعا ً للجديد من الأفكار، ومستأنساً بالبكر من الأراء. والسبب في ذلك يبقى دائما ً في النشاط الذهني، والوعي المتجدد، والقراءة، والمتابعة rsquo; ومحاربة الكسل، والمقولات التي تدعوا اليه، مثل : (( ليس في الأمكان أبدع مما كان ))، و (( ما ترك الأول للآخر )). يقول إبن عبد البر ((...ليس أضر على العلم من قولهم : ما ترك الأول للآخر. بل الأصح عندي : كم ترك الأول للآخر..)).
وكم وجدنا في هذه الأحزاب، من هو في مقتبل العمر، ومستهل التجربة، وهو غارق في سلفيته، ومستغرق في صور الماضي التليد. وليس ذلك إلا بسب التقليد الأعمى، والإجترار الممل. هذا هو مشهد العمل الحزبي الراهن، وبعض تجلياته، وإشكالية (( المجايلة )) في داخله.
السكونيون في الأحزاب تتناولهم عدة تعابير، مثل (( القيادة التاريخية ))، و (( الحرس القديم ))، و (( الرموز الحزبية ))، و (( الجيل المعتق )). وهم في كل الأحوال يتربعون في أقصى اليمين المحافظ : مسلكيين، ماضويين، سلفيين، لا يغامرون بالحركة، ولا يجترحون الأصلاح.
أما الحزبيون الجدد، فهم (( الكوادر الشابة ))، و (( القيادة الصاعدة ))، و (( الطاقات الواعدة )). وهم في كل ذلك، إصلاحيون، واقعيون، اجتهاديون، مجددون. همهم الخوض في الجديد، وتجاوز غير النافع من القديم.
وحسم نتيجة هذا التنافس، سيقود إلى تشكل صورة الأحزاب بوضوح أكبر. فهي محافظة إذا نجح المحافظون،ومتطورة إذا تفوق الأصلاحيون.
التغير و التحول المستمر، سنة ماضية في الكون والمجتمع، فكيف لحزب سياسي، قائم على معادلات الواقع، أن يتخلف عن هذه السنة الكونية، التي خضعت لها الذرات والمجرات. وفوق ذلك هي سنة حميدة، وصفة حسنى، إتخذها الله تبارك و تعالى لنفسه، وتفرد بكمالها لوحده، حيث قال (( كُلَ يَوم هو في شأن )).
وإن كانت هذه السنة تجري على الأشياء وفق الطبيعة الكونية، ومن غير تدخل أحد، أو إرادة مريد، غير إرادة القاهر الجبار الذي قال لها كوني فكانت، فإنها تجري على الإنسان العاقل على وفق إرادته، ومن خلال وعيه لما يريد، وإدراكه لما يقصد.
الحياة حافلة بالحركة، والأنسان بطبيعته ميال إلى الأصلاح، وينزع إلى التأثير بالأشياء، تحويرا ً وتطويرا ً، وصولا ً إلى تشكيل البيئة التي يستوطن، والمحيط الذي يعيش، بالصورة التي تلبي حاجاته الأساسية، وتشبع رغباته الطبيعية المشروعة. من يقطع إتصاله بواقع الحياة المستمر والمتحول، سيذوي ويموت. فكما أن الأنهار إذا انقطعت عن منابعها، تجف وتموت. والأشجار إذا تقطعت عروقها، تتيبس وتموت. كذلك الأحزاب تنتهي إذا انقطعت عن محيطها، والتزمت السكون، أمام واقع متحرك، يزخر بالتحولات، ويعج بالمتغيرات.
تحيا الأحزاب فقط، عندما تلتزم شروط الحياة، وتخضع لقوانينها، والسياسة علم له قوانين، ينجح من اخذ بها، ويتقدم إلى الامام، ويفشل من أعرض عنها، ويتراجع إلى الخلف.
الأحزاب التي لا تقرأ الواقع، ولا تعرف أبجدياته، هي أحزاب أمية مع سبق الاصرار و الترصد. جوفاء وإن بدت عظيمة، متهالكة وإن بدت متماسكة، خرساء حتى لو ملأت الدنيا صراخا ً. أما الأحزاب التي تتفحص مواضع أقدامها، وتنظر دائما ً إلى الأمام،فهي احزاب معافاة. إن بدت غضة وحديثة، فإنها صلبة ومؤثرة في قابل الإيام
من زاوية محددة، نستطيع القول، أن الأحزاب الحية و المؤثرة، هي التي تقود العالم. عندما تعيش هذه الأحزاب، وتعطي، وتقدم للناس، فإنها تقود العالم، وتوجه فعل الأنسان، في السيطرة على الكون، واستثمار الطبيعة. العالم تقوده حكومات، والحكومات تقودها أحزاب، فالعالم تقوده الأحزاب هكذا يفضي المنطق.
الأحزاب تتضمن الثقافة، وتلتقط الأفكار. مابقي من حضارات حية، يعدونها خمس، لا تزال تتمتع بالأعمال (( السكرتارية )) للأحزاب. فهي التي تقود السياسة : تفاوض وتساوم وتحارب وتسالم، وتقود الجيوش، وتوجه الأقتصاد. ثم أنها تقدم للناس قادتهم، وتقترح عليهم زعمائهم، هؤلاء الزعماء يطبخون في مطابخ الاحزاب، وتمتحنهم صناديق الإنتخاب التي ترفع و تضع، والبقاء للأصلح، فتلك سنة قاهرة : الساكن لا يقود المتحرك، والقاعد لا يقود القائم، والبالي لا يقود المتجدد، كما أن الموتى لا يقودون الأحياء (( فاما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض )).