فضاء الرأي

الحداثة الصينية والنظام العالمي الجديد (1)

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

بالرغم من النقد الغربي المستمر للنظام الصيني، أستطاع خلال الأزمة الاقتصادية لعام 2008 أن يثبت جدارته في التعامل مع معضلاته التنموية. فقد نمى اقتصاد الصين خلال الثلاث عقود الماضية بمتوسط نسبة تقارب 10% سنويا، وارتفعت مدخراته الخارجية في العام الماضي إلى 2.4 تريليون دولار. وتبين استطلاعات الرأي الأمريكية لعام 2009، بأن 44% من الأمريكيين يعتقدون بأن الصين هي القوة الاقتصادية الأولى في العالم، بينما 27% منهم يقدمون الاقتصاد الأمريكي. فقد أستيقظ التنين الصيني بعد نوم قرنين، ليستبدل انفعالات الثوريات الأيديولوجية، ببرغماتية الإصلاحات الاقتصادية، وليؤكد "بأن تحقيق التنمية لا يعتمد فقط على إطلاق الحريات السياسية اللبرالية، بل أيضا على التحكم المتزن للعثماتها المضطربة." والسؤال لعزيزي القارئ: ما سر هذه البرغماتية الناجحة؟ وهل ستطور الصين حداثة متميزة عن الغرب؟ وهل سينتهي ذلك بنظام عالمي جديد؟
يعلق البروفيسور البريطاني، مارتين جاكوس، في مقدمة كتابه الجديد، متى ستحكم الصين العالم؟ على التغيرات المستقبلية المتوقعة في الصين بقوله: لقد عشنا قرون طويلة في عالم صنعه الغرب وارتبطت الحداثة باسمه، بينما سيكون القرن الواحد والعشرين مختلفا تماما. ففي عام 2027 ستتجاوز الصين الاقتصاد الأمريكي لتصبح أكبر اقتصاد عالمي، وسيستمر اقتصادها في الصعود، ليتجاوز إنتاجها المحلي الإجمالي السبعين تريليون دولار في عام 2050، أي ضعف الاقتصاد الأمريكي في ذلك الوقت، وستسجل الهند نجاحات اقتصادية باهرة، ليتساوى الإنتاج المحلي الإجمالي الهندي والأمريكي. وسيترافق كل ذلك بتغيرات اجتماعية وثقافية وسياسية محلية وعالمية لا يمكن فهم صداها حتى الآن. وخاصة بأن الصين لن تمشي على خطى العولمة الغربية، بل ستشكل العالم بتصوراتها الخاصة والذي يعكسه دراسة تاريخها. فالحضارة الصينية ثرية وقديمة، وفي نظامها الرافد، والذي استمر لقرون طويلة، تمحورت جميع ولاياته حول المملكة الوسطى. ومع تغيرات العقود القادمة، ستبرز هذه الحضارة بأفكار معاصرة لهرمها العرقي السياسي، وسيطمئنها من جديد إحساسها القديم بالتفوق. وسينصدم الغرب بحقيقة أن نظمه ومؤسساته وقيمه لم تبقى الفريدة في عالم العولمة الجديد. ولتبدأ في حياتنا، عملية انتقال القوة الاقتصادية والثقافية من نيويورك ولندن إلى بكين وشنغهاي، وسيمتد الصعود الصيني ليستلم كرسي الغرب وليخلق نظام عالمي جديد، كما ستتطور الحداثة لتأخذ صيغ عديدة، فلن ينفرد الغرب بحداثته الأوروبية.
بدأت حضارة الصين على ضفاف النهر الأصفر، ويرجع تاريخها المدون لعصر الشانج (1550-1046 ق. م.) وقد عبد أسلافها آلهة كثيرة، وسمي إلههم الأعظم "بالشانجتي." وازدهرت الثقافة والفلسفة الصينية في عصر الزو (1045-256 ق. م.). واستطاع كين شي هونج، في عام 221 ق. م. توحيد البلاد، بعد سنوات من الحروب الداخلية، ليؤسس أول إمبراطورية صينية بنظام بيروقراطي، يحكم فيه الإمبراطور مختلف أرجاء البلاد الواسعة. وتوسعت هذه الإمبراطورية في عصر الهان (206 ق م- 221 ب م) لتمتد لمنشوريا ومنغوليا وكوريا وشمال الفيتنام. وقد ارتبطت الحضارة الصينية بفلسفة كونفوشيوس (551- 479 ق. م.)، وتلونت ثقافتها بالاختلاط بالثقافات الآسيوية، نتيجة الأمواج المتلاحقة من الهجرة والتوسع والاندماج.
وتقدمت تجارة الصين في عصر السونج (960-1279)، ليصف نشاطها التجاري في القرن الثالث عشر الرحالة الايطالي ماركو بولو بقوله: "اطمئن، فالأنهار تمر بمناطق كثيرة وبمسافات هائلة، وهناك الكثير من المدن على ضفتي النهر، كما تزيد كمية الحمولة النهرية فيها على ما تحمله جميع الأنهار المسيحية وبحورها." وبعد أن غزا المغول الصين، عانت البلاد من الجمود الاقتصادي خلال الفترة بين القرن الثالث عشر والسادس عشر، وليبدأ بعدها عصر اليون (1279- 1368) ولتنضم الإمبراطورية المغولية للبلاد. وفي عصر المنج (1368- 1644) منعت التجارة الخارجية لمدة ثلاث قرون بسبب القرصنة، ولم يبقى في عام 1757 إلا ميناء كانتون للتجارة القانونية، بالرغم من انتعاش التجارة النهرية بين الولايات الصينية. فنشط الاقتصاد الصيني خلال فترة القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، حيث توفرت المواد الغذائية بكثرة، بسبب زيادة المساحات الزراعية وتطور آلية الري وارتفاع نسب الإنتاجية مع تزايد الهجرة والاستيطان في الولايات الغربية والوسطى، والذي ترافق بتزايد السكان لخمسة أضعاف. وقد وصف ادم سميث الثراء الصيني في عام 1776 بأنه "أكثر من ثراء أي جزء في أووربا،" كما استمرت بكين أكبر مدينة في العالم حتى عام 1850.
وقد أغرى التاج البريطاني الازدهار الصيني، فبدأت تدخلاته في عام 1792 لغزو أسواقه، فأرسل الملك جورج الثاني وفد تجاري لميناء كانتون، حاملا معه الاختراعات الأوربية والهدايا للإمبراطور الصيني. وبعد رحلة شاقة وخلافات كثيرة حول كيفية الانحناء أمام إمبراطور الصين، قابل اللورد جورج ماكارتني الإمبراطور في شهر سبتمبر من عام 1793، وطالب بتمثيل دبلوماسي لبلاده في بكين، وفتح الموانئ الصينية للتجارة الأوروبية. وقد تجنب الإمبراطور كين لونج الرد عليه، ولكنه أرسل خطاب لملك بريطانيا يقول فيه: "لم نقدر قط اختراعاتكم المبدعة، ولا نحتاج لصناعات بلادكم، كما أن طلب الملك بإرسال ممثل للبقاء في العاصمة بكين، لا يتماشى مع قوانين إمبراطورية بلادنا العالمية، كما نشعر أيضا بأنه لن يفيد بلدكم." وقد كانت شركة شرق الهند البريطانية تتاجر في تصدير الأفيون من شبه القارة الهندية إلى الصين، وفي عام 1829 منعت الصين استيراد الأفيون، لترد بريطانيا بحرب الأفيون الأولى (1839- 1842) التي انتهت بهزيمة مهينة للصين. فاستسلمت هونج كونج للغزاة، وفتحت الصين جميع موانئها للتجارة الأوربية، كما دفعت تعويضات هائلة عن الحرب. وقد أدت تلك الهزيمة لانهيار الاقتصاد الصيني، وتصدع الجبهة الداخلية وضعف سيادة الدولة، بعد التدخلات الغربية المتعاقبة في شؤون البلاد. ولتستمر هذه المرحلة لقرن من الزمن (1850- 1950)، ولتبدأ بعدها الثورة الأيديولوجية الماوية، وتتبعها عصر براغماتية الإصلاحات الاقتصادية.
ونحتاج لفهم التغيرات السياسية والدبلوماسية الصينية المستقبلية، لدراسة مفاهيم فلسفتها الكونفوسوشية وتاريخ حضاراتها. ويرجع التطور السياسي في الصين لعصر الزو (1100- 256 ق م)، حيث ادعى الإمبراطور، ولأول مرة في التاريخ الصيني، "بأحقيه الحكم كوصية من السماء، تقع مسئوليته على عائلة تتميز بالمسئولية الأخلاقية، وتتم المحاسبة على الأداء من خلال هذه القوة السماوية، والتي ترشد المجتمع البشري." وأعتمد قانون الحكم السماوي الصيني على المعايير الأخلاقية للسلطة. وقد أدى ذلك لابتعاد الصينيين عن التنظير في فضائل حكامهم، ومدى صلاحيتهم للحكم، وترك ذلك لكفاءة تعاملهم مع تحديات الفقر وقلة الإنتاجية الزراعية والزلازل والفيضانات. فقد ثار الصينيون ضد إمبراطور كينج، في منتصف القرن التاسع، حينما صرخ العشرات الملايين بأن السلطة قد سحبت من السماء عن الإمبراطور، لعدم كفاءته في التعامل مع الأزمات البيئية والاقتصادية لحماية المواطنين وإعالتهم. لذلك كان الحكام يهتمون بمراقبة مخزون الحبوب وتوزيعه، لضمان توازن قانون العرض لاستقرار الأسعار، كما حققت مشاريعهم الضخمة تطور البنية التحتية، وتقدم آلية منع الفيضانات من النهر الأصفر، كما طورت مشاريع الممرات المائية التجارة النهرية.
وقد اعتقد مفكرو الغرب بان جميع الأنظمة السياسية في العالم ستنتهي بنماذج قريبة من الديمقراطية الغربية، وبأن ممارسة السلطة يجب أن تتم بنفس طريقة هذه الديمقراطيات، وقد علق الكاتب على ذلك بقوله: "بدل التحدث عن النظام السياسي كآلة متحجرة، سيكون النقاش منتجا لو فكرنا بمفهوم الثقافة السياسية، بسبب نبع جذور السياسة من ثقافة المجتمع. فقد يستطيع التاجر أن يتاجر بمهارته وبدون حواجز الحدود، كما يمكن أن يحاضر الأكاديمي في أي جامعة في العالم، بينما ترتبط موهبة السياسي وهيبته بمميزات مغروسة جذورها في ثقافة مجتمعه." وهناك اختلاف كبير بين مفهوم السلطة التقليدي في الصين عن المجتمعات الغربية التي يحركها السعي لفردية الهوية والحكم الذاتي الممثل بنواب البرلمان، بينما يحرك السلطة في الصين وباقي دول شرق آسيا رغبة الأفراد لهوية الفريق، والذي يجدون فيه معنى لوجودهم وحياتهم وأمانهم واستقرارهم.
فيعتمد مفهوم الحكومة في الغرب على الأسس النفعية، فعلى الحكومة أن تحقق للمنتخبين بعض من مصالحهم مقابل دعمهم لها، بينما ينفصل مفهوم السلطة الحكومية في مجتمعات شرق آسيا عن مسئوليتها. فالسلطة الحكومية غامضة ومحدودة في هذه المجتمعات، بسب ارتباطها بقوى إضافية سماوية خارجة عن إرادة البشر، والتي قد تحدد النتائج، فالعلاقة بين المسببات والتأثيرات معقدة ومراوغة. وبدل أن تحدد مسئولية سلطة الحكومة على النفعية الفردية للمواطن، ارتبطت هذه المسئولية في ذهن المواطنين بالخدمة الشاملة لازدهار المجتمع وتطوره، وألتزم دورها بالأبوة، واعتبر المواطنون أنفسهم تابعين لها. وقد انعكست هذه المفاهيم التاريخية على استمرارية الحكومات "الأبوية" للحزب الواحد ليس فقط في الصين، بل أيضا في الدول الأسيوية التي تنتخب حكوماتها، كاليابان وماليزيا وسنغافورة. ولنا لقاء.

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الصين والوطنية
ابو احمد -

شكرا للكاتب على هذه الجولة التاريخية التشخيصية والتى نتمنى ان نقراء بقية اجزائها قريبا، في الصين امثولة للمناديين بتقليد الليبرالية الغربية العمياء بدون تبصر ولا تدبر وكأنها هي الحل السحري الوحيد للمجتمعات العربية، قال الكاتب ان روح الفريق لخدمة الوطن هي التى تسود ثقافة الصيني وليس حب الذات والرغبة في النفع الفردي. لدي قناعة بأن الصيني هو اكثر شعوب العالم وطنية ورغبة في التضحية والتاريخ ملئ بأمثلة على ذلك . ابدي اعجابي بطرح الكاتب واستدلالاته ، اكرر شكري لسعادة السفير.

اين انتم
ابواحمد -

ما الذي يحدث في ايلاف اليوم ، مر يوم كامل على نشر المقال ولم يعلق اى احد سواء مؤيد او معارض ولم نرى من المتأمركين اى رد فعل ، هل لانهم يتمنون الا يصدق السفير في رؤيته ام يحملون بان تنهار الصين اليوم قبل الغد؟ ام أن الموضوع لا يثير اهتمامهم؟

رائع
خالد -

مقال رااائع يشكر علية صاحبة وكذلك صحيفة ايلاف

رائع
خالد -

مقال رااائع يشكر علية صاحبة وكذلك صحيفة ايلاف