فضاء الرأي

"انفيكتس" وحضارة التعاطف (2)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان
ناقش البروفيسور جيرمي رافكن في كتابه الجديد، حضارة التعاطف، الجنس البشري كمخلوق اجتماعي يتطور عقلا وذهنا بتواصله مع المخلوقات والطبيعة المحيطة به، وعرض تاريخ هذا التواصل النفسي منذ بدء الثورة الصناعية الأولي في عام 1848، بتحول الإنسان من فرد طيب متدين ومطيع، لشخصية نفسية جيدة، تتفهم وعيها النفسي بيولوجيا. والغريب بأن مفاهيم الوعي النفسي لم تتطور، حتى في المؤسسات الأكاديمية الطبية الغربية، إلا في القرن العشرين. فمثلا حينما ناقش الجراح البريطاني وليام لورانس، رئيس المجلة الطبية البريطانية، لانست، في القرن التاسع عشر، بأن الأمراض العقلية والنفسية ليست نتيجة لاضطراب الروح، بل هي تغيرات كيماوية في المخ، كفرته الجمعية الطبية البريطانية، وطالبته بترك كرسي الأستاذية وسحبت كتبه من الجامعات البريطانية.
وقد ربط البروفيسور ديفيد جونسون الوعي النفسي بالتواصل البشري بقوله: "منذ لحظة ولادتنا وحتى لحظة الموت، فالعلاقة الإنسانية هي صميم وجودنا، فحملنا ضمن هذه العلاقة، وولدنا في هذه العلاقة، ونعيش حياتنا ضمن هذه العلاقة." وتناقش نظرية البروفيسور أبراهام ماسلو لهرم الحاجيات، بأنه حينما يضمن الإنسان حاجياته الأساسية من شرب وأكل وأمان، تزداد حاجته لعلاقة تواصل ودية، توفر احترامه وتقديره لنفسه ولعطف وانتباه الآخرين، ليكتشف من خلالها طاقاته الإبداعية، وليطور إحساسات تعاطف ناضجة. وربط البروفيسور كارل روجر عملية التواصل بمفهوم "علاج التركيز على الزبون" بدخول المعالج (طبيب، معلم، سياسي، أو تاجر) لعالم الزبون وتجربة خبرات واقعه، وكلما زاد التعاطف بين المعالج والزبون كلما زادت الثقة بينهما، وكلما تفتح الطرفين لفهم عالم الطرف الآخر. وقارن البروفيسور فليب ريف الوعي الديني بالوعي النفسي بقوله:"لقد ولد الرجل الديني لكي ينقذ نفسه من نار آثامه، بينما ولد الرجل النفسي في القرن العشرين لكي يستمتع بحياته." ويعتقد البروفيسور ثيوردور روزاك بأن الوعي النفسي قد أدى "لاحتجاجات بعمق فلسفي، ليصبح كل شيء تحت مجهر التساؤل: العائلة والعمل والتعليم والنجاح وتربية الأطفال وعلاقة الرجل بالمرأة والجنس والمدنية والحداثة والعلوم والتكنولوجية والتطور، ومعنى الثراء ومعنى الحب ومعنى الحياة. وزاد هذا الوعي النفسي في القرن الواحد والعشرين بزيادة عدد البشر الذين يعيشون في تواصل تكنولوجي واقتصادي، ليعبروا بجهازهم العصبي المركزي عن حقيقة وجودهم، وليؤدي ذلك لبدء حضارة عولمة تعاطفية."
وقد انتشرت بنية عولمة اقتصادية واجتماعية وسياسية مشتركة للجنس البشري، حيث يتبادل العالم يوميا 3.2 تريليون دولار بسرعة الضوء في سوقه الرأسمالية، وتحوم تسعة وأربعون ألف طائرة في سماءه، ويدور ألفين وخمسمائة قمر صناعي حول كوكبه لنقل الأخبار. وقد سمع في عام 1997 مئات الملايين من سكان العالم خبر وفاة الأميرة ديانا، وتعاطفوا مع حزن طفليها، ليعبروا بذلك عن حقيقة جديدة، بأن كوكبنا قد أصبح فناء للجميع، حيث أن اثنين ونصف مليار من البشر راقبوا جنازتها، وتعاطفوا مع حزن عائلتها. فحوالي 40% من البشر تجمعوا في لحظة فريدة من التعاطف مع هذا الحزن، ليتبادلوا عواطفهم مع بعضهم البعض، والتي عبر عنها فيلسوف الاتصالات الكندي، البروفيسور مارشال ماكلوهان بقوله: "وصلت تكنولوجية العولمة مليارات الأجهزة العصبية المركزية للبشر ببعضها البعض، وفي مختلف بقاع الأرض وللحظات قصيرة. وقد أصبح نقل التعاطف خلال الثقافات الوطنية والقارات والمحيطات والتقاليد قوة هائلة لأنسنة الجنس البشري، وستزيد عولمة التواصل الثقة والتعاطف بين الشعوب، لتنتهي مع الوقت لخلق هوية عالمية جديدة."
وقد بدأ يتحول المنطق العقلاني والمادي، بين الشعوب المتقدمة، إلى التعبير العاطفي الشخصي وسعادة المعيشة الحياتية، بينما حافظت الشعوب النامية على التركيز على أمنها الاقتصادي، وقد أكدت أبحاث البروفيسور انجلهارت بأنه: "حينما يصبح بقاء الإنسان مهددا، تعتبر ثقافة الاختلاف خطرة، ويؤدي نقص الحاجيات الأولية للنظر لغير المواطنين كأجانب خطيرين، قد يسرقون لقمة العيش، ليلتصق البشر بالتقاليد العرقية، ليضمنوا ايجابية احتمالات مستقبل مبهم. وحينما نضمن بقاءنا تصبح الاختلافات الثقافية والعرقية قيم حميدة، فالأمان الفردي يزيد التعاطف." وتبين استطلاعات الرأي بأن 83% من المجتمعات المرتفعة الدخل انتقلت لثقافة التعاطف، بينما 74% من المجتمعات الفقيرة غطست في ثقافة قيم البقاء. كما تؤكد الأبحاث العلمية بترافق زيادة الفقر بقلة السعادة، فحينما تتوفر الحاجيات الأساسية للإنسان تزداد سعادته، كما تقل بعدها السعادة بزيادة الثراء، ليزداد القلق والاكتئاب، وتقل القناعة، ويعلق البروفيسور تم كاسر على ذلك: "الأشخاص الذين يهدفون للثراء والتملك، تقل صحتهم النفسية عن الأشخاص الأقل اهتماما بهذه الماديات. كما أن الشباب المغرمين بالمال والشهرة، يصابون بقلة العواطف الايجابية، واضطرابات نفسية تشمل الاستحواذية والعزلة، وصعوبة السيطرة على انفعالاتهم، ويكونون سلبيين وعنيفين مع الآخرين، وتنتشر بينهم المخدرات." كما تؤكد الأبحاث علاقة السعادة بالمساواة في المجتمع، فكلما تباين الدخل بشكل فاحش كلما زادت نسب التعاسة، وبالعكس حينما تنتشر الطبقة المتوسطة في المجتمع تزداد سعادته وتقل ظاهرة التعاسة.
وقد طورت تكنولوجية الانترنت التواصل البشري، لتتبادل الشعوب أفكارها واختراعاتها، ولتؤدي لرؤية اجتماعية جديدة، والتي يعتقد الكاتب بأنها ستجمع المشاركة في القيم والطاقة والإبداع والاختراع، وتقضي على حقوق براءة الاختراع، لتمكن الملايين من شعوب العالم اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا وسياسيا واجتماعيا. فستصبح الطاقة حق اجتماعي وإنساني، يستطيع كل إنسان أن ينتج طاقته الشمسية، ويشارك بها الآخرين، في شبكة كهربائية محلية ووطنية وعالمية. وبمشاركة المليارات من البشر في إنتاج الطاقة، سيبدأ عصر جديد، لتتآكل الهرمية التقليدية للمؤسسات والإدارات، ولتنتشر شبكات تعاونية واسعة، تؤدي لاقتصاد أكثر عدالة وتعاونا. وستتزايد مهارات الاعتماد على النفس، وتنتشر شبكات التواصل والتعاطف، وسينمو الوعي البيئي، لتبدأ رأسمالية التوزيع.
وستتميز تكنولوجية الكومبيوتر المستقبلية بطاقة ذكاء آلية شبه مستحيلة، بتواصل مئات الملايين من الكومبيوترات التي يمتلكها المواطنون في شبكة، ستؤدي لثورة تكنولوجية معلوماتية ثانية. وستنتشر هذه الشبكة الآلية في المجتمعات التجارية، وستنشط شبكة عولمة اجتماعية، وستخلق ثورة تعليمية، وذلك بتبرع الملايين من الأفراد بجزء من وقت كومبيتوراتهم للخدمة المشتركة، لتخلق شبكة هائلة لظاهرة حكمة الحشود وسوق التعاون، ولتؤدي لرأسمالية توزيع، تعتمد على الشفافية والمشاركة والانفتاح والعمل بنظرة عولمة مشتركه. وبذلك ستنتهي رأسمالية السوق، بأنظمتها وقوانينها، لتستبدل جشع المنافسة المادية بغريزة التعاون الإنسانية، لتعمل في خدمة المجموعة، ولتتضاعف مصلحه الفرد بمفهوم أوسع وأجمل، وخير مثل لذلك موسوعة الإنترنت العلمية، اللوكيبيديا، وبرامج التشغيل الآلي، اللينوكس. كما سننتقل من مرحلة حقوق الملكية لمرحلة حقوق الدخول على الخدمة، ففي رأسمالية التوزيع، ستنتهي حقوق الاختراع والنسخ، وفي الاقتصاد التعاوني ستصبح منابع المعلومة التكنولوجية مهمة، وسينتهي احتكار تملك المعلومة. وستغير الأنظمة والقوانين الجديدة حقوق الملكية، وتعوضها بحق الدخول على مختلف أنواع الملكية، وستتطور تجارة شراء الأشياء، لتجارة الحصول على الخدمات، كخدمات توفر السيارة والمنزل، فلن نملك هذه الأشياء مستقبلا، بل سنحصل على حقوق استخداماتها. ويعلق الكاتب على ذلك بقوله: "تعودنا على التفكير في الملكية كحق لاستثناء الآخرين من استخدام أو الاستفادة من الأشياء، وتناسينا الحقيقة بأننا كنا نعرف الملكية بحق عدم الاستثناء من استخدام أو التمتع بشيء ما، كحق المشي في الحدائق العامة، وحق سياقة السيارة في الشوارع، وحقوق المشاركة في نظام السلطة، التي تمكن الفرد للعيش حياة إنسانية متكاملة."
وستتحول الإدارة مستقبلا من إدارة هرمية مركزية لإدارة مسطحة لامركزية، لكي يتم التواصل السريع للمشاركة في القرارات وتنفيذها. ويؤكد البروفيسور دانيال جولمان في كتابه، القائد الجديد، بأهمية التعاطف في الكفاءة الإدارية لرأسمالية التوزيع في القرن الواحد والعشرين، لتبرز الشفافية في جميع مستويات الإدارة، وتضم المشاركة في المعلومات، وتعبير العاملين بشفافية عن عواطفهم وأفكارهم وأفعالهم. وستبني الشفافية العاطفية الثقة بين العاملين، وتقوي الزمالة والتعاون بينهم، وستشجع شفافية المشاعر والإحساسات التعامل بثقافة التعاطف. وستكون بيئة التعاطف ميزة فاعلة في العمل، ومفتاح الإدارة التعاونية لاقتصاد رأسمالية التوزيع. فسيتميز الموظف التعاطفي بسرعة الاستماع وتفهم وتحقيق حاجيات الزبون، كما ستصبح ثقافة التعاطف في اقتصاد العولمة مهارة أساسية للتعامل مع عمالة متنوعة، والمتاجرة مع أناس من ثقافات مختلفة، ويعني ذلك خلق علاقات قوية ومرنة بحيث أن الجميع يستطيع المشاركة في المعلومة بسهولة، لتنسيق آلية عمل فاعلة. وتؤكد الأبحاث بأن معظم العاملين يقدرون المسئولين المتعاطفين معهم أكثر من تقديرهم لزيادة رواتبهم، وبأن زيادة الإنتاجية مرتبطة بالعواطف الايجابية التي يحس فيها الموظف نحو زملائه في بيئة العمل. ولتؤدي ثقافة التعاطف بتطوراتها التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية لبيئة الوئام في القرن الواحد والعشرين. والسؤال لعزيزي القارئ: هل ستتحول بيئة التطرف والعنف في منطقة الشرق الأوسط وفي الألفية الثالثة إلى ثقافة الوئام وحضارة التعاطف؟

سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف