خواطر جمهوريّة عن: التركة الانتقاليّة والاستئناف
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في الثالث من آب 1954 صدرت ارادة ملكية من فيصل الثاني تقضي بحل المجلس النيابي الذي لم يمارس اي جلسة سوى الافتتاح، ومنذ ذلك الحين دخل النظام في ازمة الحكم الذي اعتمد على سياسة المراسيم استنادا على الفقرة الثالثة من المادة السادسة والعشرين في القانون الاساسي العراقي (الدستور) وهي سياسة مشابهة لحكم الطوارئ، وكان السبب الذي ادّى الى حلّ مجلس النواب هو فوز المعارضة باحدَ عشر نائبا من 135، ولم تستطع الملكية حل ازمتها الداخلية من خلال الاتفاقيات الخارجية التي عقدتها منذ 1955 مثل ميثاق بغداد الذي ضمّ اضافة الى العراق كلاً من بريطانيا وتركيا وايران وباكستان مع اسهام اميركي في بندي الاقتصاد والجيش، ولا من خلال الاتحاد الهاشمي بين العراق والاردن في 1958 قبيل 14 تموز، ولا ايضا بدعم مداخيل النفط التي اخذت بالتزايد ومعها انتشت السلطة السياسية نفوذا وقسوة في سلوك طرديّ.
قررت الاحزاب الاساسية التخلص من الازمة عبر انهاء النظام الملكي، ففي 1956، وهو تاريخ ذو اهمية قومية بعد الحرب على مصر، نضجت فكرة الانقلاب العسكري المسنود سياسيا من طرف احزاب : الاستقلال، الوطني الديموقراطي، الشيوعي، البعث. لكنّ الانقلاب الذي وقع بعد عامين والذي نجح في هدفه المباشر (اسقاط الملكية) ؛لم يوفًق في الخروج من الازمة، باقامة نظام جمهوريّ يعتمد على ما يسمّى الحياة البرلمانية وبقيت البلاد محكومة بسياسة المراسيم وتعطيل الدستور " دستوريا " كما حصل بعد 1954.
انّ الطابع الانتقالي للحكومات التي اعقبت 14 تموز 1958، والذي ظل يعاني من قصوره الذاتي، كان وراء الدكتاتورية، كما انه شجع المجتمع العراقي فيما بعد على الاستجابة السلبية او الدراماتيكية للانقسام سواء بشكل صريح او ضمني، وهو انقسام يقوم على هواية تعدّدّّ"المكونات" و"الكيانات" التي يمارسها محترفون في ابتزاز الظرف الاستثنائي ودفعه نحو مصالحهم الضيقة، بواسطة الفساد الذي يتجه الى ان يكون تداولا بين بعض المسؤولين المتنفذين وبعض المستشارين، بغضّ النظر عن جنسياتهم. (فما يتركه اللص ياخذه فتاح الفال، كما يقول المثل العامّي، )وقد انتظر هذا الاستعداد للانقسام الى ما بعد 2003 في ظروف فوضوية وطوباوية معا، ليكون تاسيس الحكومة وفقه، وهو ما يعطي الطابع الانتقالي او ما قبل الانتقالي، تفويضا "دستوريا" في عدم القدرة، وعدم الرغبة ايضاً، في الانتقال بالفعل الى ما بعد المرحلة الانتقالية، اي مرحلة التاسيس للدولة التي تقلصت بدورها الى مستويات اصغر حتى من الحكومة، وهذا هو الذي لم يسمح بتجميع التراكمات والمبادرات لاظهار التعويض الذي هو بمثابة ثمن الكلفة الوطنية منذ 1954، قبل الازمة الجمهورية والى الان، في مجتمع اخذ منه التثبيط ماخذه.
لابدّ هنا من الاشارة الى انّ الاحتلال الاميركي في 2003 قد جعل من الانقسام حقيقة اقوى من مفهوم المواطنة، كما انه برهن على اختلاط الفوضى بالطوباوية، ففي حين يصدر المراسيم في الغاء القوانين والمؤسسات وافراغ دوائر الحكومة كان يخفّ الى اصدار قرارات عملية واحيانا مصيرية، في الظرف الاستثنائي، وبعض القرارات كان في حاجة الى قيادات ادارية وموظفين مدربين الاّ ان كل ذلك كان يُلبَّى على نحو عشوائي واستغلالي، و بهذه الطريقة تاسست ادارات حكومية، هي في الواقع تسبق المرحلة الانتقالية (لانعدام مشروعات القوانين اما الصياغة والاقرار فهما امران انتقاليان)، ولاعلاقة لتلك الادارات بمفهوم الدولة او الخدمة العامة، ولم يعد هناك مضمون للحكومة، وهو الحال نفسه الذي كان يعاب على فترة الحكم الثاني للبعث، واستطاعت فئات غير قليلة من المجتمع انّ " تتمتّع " بالهاوية التي وجدت نفسها فيها، في غياب الامن وشبه غياب للتلاحم الذي كان قد ضُرب في الصميم حين صدر القرار بحلّ الجيش، باعتباره يمثل الانضباط والعقلانية بالقياس الى بقية المؤسسات التي اهتزت مؤخرا (من حيث كونه جيشا حديثا، بدرجة تزيد او تنقص، يعتمد اساسه - الجنود - على المواطنة مائة بالمائة بالتجنيد الالزامي حسب المواليد، فقد كان الجندي يدخل الجيش من مختلف البيئات لكنه يخرج منه عراقيا، كما كان يقال عن جيش نابليون اذا جاز التمثيل.. وانا محرج هنا) مهما تعرض له في مراحل قاسية من التشويه ومصاحبات التوريط السياسي. وبهذا ونتائجه تمت الاساءة الى المجتمع على نحو مفضوح.
كتب احد السياسيين العراقيين، والذي كان عسكريا ثوريّا ترك الجيش من جراء حركة 1941، بعد سنوات قليلة من 14 تموز 1958 انه بدا له : " ان عمليّة الثورة بحد ذاتها لم تهدف الى تصحيح اوضاع كان الشعب العراقي يشكو منها بقدر ما توخت الاستيلاء على الحكم والاستئثار به، ولو كان على حساب تدمير اجهزة البلاد، والقضاء على مقومات بناء الشعب الذي اتمه في اربعين عاما.. وتفكيك مجتمعه تفكيكا اعاد الى اذهان العراقيين عهود القرون الستة المظلمة التي تخبط في دياجيرها اجدادهم " ومن غير النادر ان نجد مثل هذه الندامة الجمهورية على الفترات التي جاءت بعد 14 تموز 958(8شباط 963، 18 تشرين الثاني 963، 17 تموز 968، ثم 9-4-2003)، الاّ انّ " محمود الدرة " مؤلف كتاب "القضية الكردية " كان في صلب الحوادث العسكرية والسياسية، باعتباره قوميا مبرزا ومتعقلا، فمشكلة الحكم الجمهوري ظلّت متعلقة بالحكومات الانتقالية وبتجنُّب وضع دستور دائم، وعدم الانتقال نهائيا الى الديموقراطية ومستحقاتها، وبهذا فقدت الجمهورية الفارق بينها وبين الملكية من ناحية تمسك الرؤساء بالسلطة، الاّ انها زادت من فقدان هويتها الجمهورية بالاثار الاجتماعية التي ترتبت على الانقلابات، ومع ذلك، وكما يذكر سياسي عراقي في مذكرة الى رئيس الوزراء عام 1965 " انّ الديموقراطية لم تكسب انصارا واعوانا في بلد من البلدان، وفي وقت من الاوقات، بقدر ما كسبت في العراق في السنوات الاخيرة من انصار واعوان امنوا بمبادئها " ويشددّ هذا السياسي على انّ الحوادث القاسية هي التي ساعدت الديموقراطية على كسب مزيد من المؤيدين. (النص في كتاب محمود الدرة).
انّ المفارقة الجمهورية كانت موجودة في سياسة المراسيم الملكية المذكورة آنفا، ولم تقو الجمهورية على الخروج من الطابع الانتقالي للحكومات، وهذا ما جعل الاستبداد حتميا (تراجع اطروحة نيكوس بولنتزاس في- السلطة السياسية والطبقات الاجتماعية-)، اما قضية المؤسسات التي تمثل بدرجة او باخرى عقلانية الدولة، فانها احدى المشكلات المستعصية حتى الان، ففي الغالب كان النفوذ والمال يشكلان السلطة التي تزاحم المؤسسة وتجعلهاعقيمة، وهذا على كونه امرا عالميا، غير انه يمثل احد موروثات السياسة العربية والاسلامية، والذي كان ابن خلدون يسميه "النصاب" ولم يكن بالامكان تاسيس دولة متعقلة، وقد حصل في العراق أنْ تأسّس "مجلس الخدمة " المعني بتعيين الموظفيّن، وهو مؤسسة بروقراطية صحيحة، تقوم على الحاجات واللوائح المعلنة، الاّ انه اُلغي بسبب السلطة، التي جعلته صوريا، واستعيض عنه بمركز يسهل اختراقه بالنفوذ. ومن الطبيعي ان نلاحظ الان، عددا كبيرا من المراكز المتنافسة والتي تعتقد انها في الوقت نفسه تتقاسم التوظيف حسب تقديرات "سرية " للحصص، وهكذا يتم هدر المال العام واقصاء الكفاءات، وانعدام قياس الاحتياجات، وليس من الممكن في مثل هذا الجوّ اللاعقلاني أن تنشأ المؤسسة، التي يكون فيها، عادة، الشئ الكثير من تجريد الدولة ومن اجراءات الحكومة وفيها كذلك السلطة بمعناها التنافسي ولكن الواقعيّ.
انّ حكم المؤسسات، الذي قد يمهد لديموقراطية ما، لم يقم في اثناء الحكم الجمهوريّ، بل قامت هياكل تخترقها السلطة دائما، لذلك لم تنتج تراكما له قابلية على التعويض والتطوّر وتقبٌل الحوافز الجديدة، في حين انتج النفوذ تراكما ظهر نشاطه المحموم بعد احتلال العراق في 2003 و وجد مناسبته في الغاء "المؤسسات"، وكان هذا الوضع (تفوّق السلطة على المؤسسة) هو الطابع المميز للجمهورية العراقية حتى الان، وبدرجات متصاعدة كانت ذروته حكم الحزب الواحد، ثم ماتبع ذلك من استغلال اختمار العجين الفاسد، وبهذا فانّ حظوظ الديموقراطية، مع تعطش الشعب لها، تكون تحت رحمة السلطة تصوغها كما يشاء فهمها غير البرئ للنصوص الدستورية او تاجيل بعضها، او تقديم نص على نص تبعا للنفوذ او للموافقة المضطربة التي يبديها طرف ما مضطرا في ظروف معينة.
في عام 2005 جرى نقاش(كشفت المرحلة عبثيته) حول حكومة التكنوقراط، ولكن سرعان ما توصل الجميع الى انّ تجاهل السلطة الفتية (النفوذ الجامح) هو امر غير ممكن، وحتى التكنوقراط الايجابي، اي الذي له تطلعات ايديولوجية، لم يكن له نصيب في التداول الجدي في الاوساط المتنفذة، لان السلطة بدات بتعزيز مضاعفاتها بسرعة، بل صار اللجوء الى المكونات الكبرى من قبل فئات متارجحة يعني ما يعنيه في ظل اوهام المصير الحتمي، بتعبير الفيلسوف والاقتصادي الهندي امارتيا صن، ومثاله ما حدث لليزيديين، هو امر قد تكرر، ففي احصاء 1965 وخلال عملية تسجيل الاحوال المدنية، انقسموا فريقين : احدهما يدعي العروبة والاخر يدعي القومية الكردية، ولم تبتّ " مديرية تسجيل الاحوال المدنية العامة " انذاك في ذلك.
انّ الديموقراطية، كانت من اوضح الوعود بالعدالة والحداثة، التي ينشدها شعب سئم من التسكع الذي يبديه السياسيون المتنفذون وهم يدبجون له الشعارات لكي يلوكها بينما الساسة المتطفلون لا يهمهم الا الاستمرار في الحكم (وربما كان الحكم مفهوما مشكوكا في معرفتهم انهم انما يمارسونه سياسيا اللهم الا اذا كانت السياسة مطابقة للاوامر العسكرية بالكامل) وقد انتبه كامل الجادرجي بعد تحرره الصعب من حزبية المقترحات، مع عدد من رفقائه الى جوهرقضايا الحكم، بعد 1963 فكتب عددا من المذكرات التي تصب في اصل ازمة الحكم الانتقالي، ابتداءا من قضية الدستور لكي تعلو المؤسسة على السلطة (في 1 حزيران 1964) وانتهاءا بقانون الانتخابات (16 شباط 1967). وهي اطارات يُبنَى عليها الامل الديموقراطي مع مشروع حمايته، وقد كان الجادرجي الذي استوعب دروس 1963، يهدف الى قطع الطريق على ان تكون الديكتاتورية سياقا ثابتا التي لم تكن طارئة والتي اعتاشت على المراحل الانتقالية وضعف المؤسسات، لكن مذكراته ذهبت ادراج الرياح من الناحية العملية، امّا من الناحية النظرية فما زالت، مع غيرها، تنتظر التطوير، ولاسيما فيما يخص ّخطر المراحل الانتقالية واستشراء تسهيل تسويغها دستوريا، و ايضا فيما يخص تهميش المؤسسة عبر بنائها على اسس النفوذ وعدم السماح لها بالنمو العقلاني المستقل نسبيا من جراء الازمة منذ 1954. ولا شك ان العمل يحتاج الى جهود نظرية ليست بعيدة عن ذلك الامل، ولا متعامية فيه، وفي هذا النوع من المسافات ينبغي ان يقع مشروع النقد السياسي العراقي، وانّ اتقان فنّ الحاجات السياسية هو شئ جيد، لكن الاجود منه هو تعلُّم التفكير المتمهل بالاثار اللاسياسية لما هو سياسي بالفعل. ومادامت هذه الملاحظات قد ختمت على نحوٍ نظري فلا مناص من الاحتياط في اعتبار لفظ الانتقالي انما يشير الى الدور المبالغ فيه للسلطة (النفوذ..) حتى في المراحل المستقرة رسميا ورمزيا، كما ان نقد الحاضر لن يتخلص من النقائص الاّ بتجاوز اغلاط الماضي واعتباره (التجاوز)، في مستوى ما، من بين علامات التطور اللاحق وان الماضي القريب يتضمن بشكل ملح المراحل المتلاحقة كلها من غير استنكاف او ادعاء، وبموضوعية "اخلاق الواجب الوطني"، من حيث ان المقالات العلمية هي مقالات ظروف، فكل المراحل ما زالت تغذي الافعال و ردود الافعال المتباينة، ومثل هذا الجهد يشكل جزءا لا يستهان به من النماذج الارشادية لاستراتيجيات العمل حيث يكون من المجزي استثمار تراكم الاخطاء لغرض تعيين وتصحيح التعويضات التالية، والكف عن اقلاق الصيرورة الخاصة بالمواطنة، والامل - من ثم - بحدوث وثبة على هامش التراكم قد تكون بمثابة التعويض الذي افتقده العراقيون طويلا، ومن غير ان تبقى التركات محورا يدور حولها الاستئناف، ففي هذا الحال سيبقى محصولنا سلبيا بالمعنى المباشر ولن يكون للعجين الفاسد فيه الا اثارة الغثيان الشعبي.