المسئولية المجتمعية ورأسمالية التوزيع (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
رأى ولي عهد مملكة البحرين ورئيس مجلس التنمية الاقتصادية، صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، في جلسة إعادة التفكير في الرأسمالية، على هامش الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي، في دورته الأربعين بدافوس، بأن "الرأسمالية هي الخيار الأمثل، وينبغي العمل على إنجاحها، ويستوجب في هذه المرحلة التركيز على جانب المسئولية المجتمعية فيها، ومراعاة مصلحة أفراد المجتمع من ناحية تطوير التعليم، وتطوير التعاون بين القطاعين العام والخاص، للاستثمار في البنية التحتية، وتشجيع المشاريع الجديدة، وضمان شفافية الآليات التنظيمية، وهو ما سعت مملكة البحرين إلى تحقيقه من خلال الرؤية الاقتصادية 2030 التي دشنها جلالة الملك." وقد عانى النظام الرأسمالي العالمي صدمة كبيرة في عام 2008، وشككت هذه الصدمة ثقة دول العالم بإمكانية تعامل هذا النظام مع تحديات العولمة في قريتنا الكونية الصغيرة. والسؤال لعزيزي القارئ: هل يمكن إرجاع الثقة بالنظام الرأسمالي بعد هذه الصدمة، أم سنحتاج لنظام اقتصادي جديد؟
شارك مجلس التنمية الاقتصادي البحريني مع صحيفة الفينانشيال تايمز، في إصدار ملحق لمناقشة تحديات الرأسمالية في الألفية الثالثة. وقد علقت الصحيفة في افتتاحيتها على الأزمة المالية لعام 2008 بالقول: "لقد كرر التاريخ نفسه، فقد أدى عمى الجميع وفشل تنظيم السوق لفشل بنية نظامنا الاقتصادي. وقد يكون قاتلي الرأسمالية مخطئين، فسبب الأزمة ليس فشل السوق، بل سببها فشلنا في خلق سوق منظمة ومنضبطة وملتزمة، كما لم يعكس هذا الفشل إفلاس نظام اجتماعي، بل هو نتيجة الفشل الذهني والأخلاقي لمسئولي هذا النظام، فشل بغير عذر." وأنتقد الصحفي مارتين ولف السوق المنفلتة بقوله: "إله إيديولوجي آخر قد انهار، فالفرضيات التي اعتمدت على أن الحكومات سيئة وأنظمة تحرير السوق من القيود جيدة، والتي حكمت السياسات والسياسة خلال العقود الثلاثة الماضية، قد انتهى عمرها الافتراضي، كانتهاء عمر الثورية الاشتراكية... وستقرر تحركاتنا القادمة أين سنستقر بعد هذا الطوفان المالي، كما سيغير العالم تلازم الانهيار المالي مع الكساد الكبير، فستضعف شرعية السوق، وستتأثر مصداقية الولايات المتحدة، وستتصاعد سلطة الصين، وقد تعرج العولمة. فكيف حدث كل ذلك؟ ويشمل الجزء الأكبر من الجواب، في أن عصر الحرية الفردية والاقتصادية أحتوى بذرة انهياره، وكانت فترة نمو هائلة في ربحية القطاع المالي والإبداعات المالية المسعورة، وتزايد فقد توازن العولمة الاقتصادي، وتصاعد كبير في القروض الإسكانية وفقاعة أسعار الأصول."
وقد تساءل البروفيسور امارتيا سن، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد: "هل سنحتاج لرأسمالية بنظام اقتصادي يجمع مؤسسات برغماتية مختارة وقيم نستطيع الدفاع عنها بالمنطق؟ وهل سنبحث عن رأسمالية جديدة، أم لعالم جديد قد لا يكون بشكل رأسمالي؟ وفي الحقيقة، لم يستعمل آدم سميث عبارة الرأسمالية في كتاباته، ولم يفترض أية فكرة تؤيد كفاءة اقتصاد السوق أو الحاجة لقبول هيمنة رأس المال. بل تحدث في كتابه، ثروة الأمم، عن ضرورة القيم في سلوك الفرد، وعن أهمية المؤسسات المجتمعية، بينما أكد في كتابه الأول، نظرية الوجدان الأخلاقي، عن الدور المهم للقيم الغير ربحية، كالحكمة والحصافة في النجاحات الفردية، والعدالة والروح الجماعية في تقدم المجتمعات البشرية. ومع أن تعريف الرأسمالية اعتمد على الملكية الخاصة، ودافع الربحية في التجارة، وأهمية السوق الحرة في المعاملات الاقتصادية، ولكن اعتمدت معظم الدول الغنية في تطورها على تعاملات خارج ربحية السوق الحرة، كالضمان الحكومي للتقاعد والبطالة وتوفير الرعاية التعليمية والصحية. فيبدو بأن الاقتصاد يحتاج لقيم إضافية غير الربحية، كالتزامات الثقة المتبادلة والعمل بكفاءة. وقد أعتقد البعض بأن انجازات الرأسمالية، ارتبطت بتواجد مؤسسات فاعلة تجاوزت الاعتماد فقط على زيادة الربحية. وقد دافع آدم سميث عن مسئولية الدولة في القيام بما قد تفشل السوق القيام به، كالرعاية الصحية والتعليمية ومعالجة الفقر. وطالب بخيارات مؤسساتية تعالج المعضلات المجتمعية، بدل ربطها بصيغ ثابتة، كترك الأشياء مطلقا لحرية السوق. ولا تحتاج المعضلات الاقتصادية اليوم لرأسمالية جديدة، بل يلزمها ذهن منفتح لفهم محدودية اقتصاد السوق، والحاجة لآلية تنظم تفاعل منظمات السوق بمؤسسات الدولة، لخلق اقتصاد عالمي محترم."
ويعلق بروفيسور روبرت شيلر، أستاذ الاقتصاد بجامعة يل الأمريكية، على الأزمة الاقتصادية لعام 2008 بالقول: "قد ثبت في هذه الأزمة فشل الادعاء بأن الرأسمالية المنفلتة تؤدي لأفضل النتائج. كما عرف جون مينارد كينس من أهل زوجته الروسية مآسي الاشتراكية، ومن كساد التراجع الاقتصادي البريطاني لعام 1929، مآسي الرأسمالية المنفلتة، ليختار طريق وسط لاقتصاد معاصر. وقد أدت أزمة عام 2008 لولادة الطريق الوسط لجون كنيس من جديد، للوقاية من بطالة ورعب وهوس الرأسمالية، وتجنب السيطرة السياسية والاقتصادية للشيوعية. فنحتاج لحكومات قوية وفاعلة لزيادة الصرف على مشاريع جديدة، حينما تزداد نسب البطالة، وفي أوقات انخفاضها تجمع الضرائب لدفع الديون المتراكمة، وبتغيرات طفيفة وبأنظمة ملزمة يمكن أن يستقر النظام الرأسمالي." ويعلق بروفيسور العلوم الاقتصادية، شيلر بقوله: "هناك حاجة لحكومة قوية وفاعلة لكبح الغريزة الحيوانية للبشر في المخاطرة، فمعلوماتنا لتقدير الربحية، بعد عقد من الزمن، قليلة أو معدومة، ومع ذلك نشتري الأسهم بغريزة عفوية للمخاطرة. فعلى الحكومة تنظيم سوق الأصول لمنع الأفراد من شراء أصول خاسرة، وعليها أيضا توفير ظروف مناسبة في الأزمات لكي ينتج البعض ما يريد أن يشتريه البعض الآخر." وطالب اللورد لوسون، وزير المالية البريطاني السابق، بفصل البنوك الاستثمارية عن البنوك التجارية، وتركها لانضباط السوق. وانتقد الاقتصادي فرانسيسكو جيوريرا تقارير الربحية المباشرة الربع سنوية، التي تعتمد عليها الشركات الخاصة لإرضاء المساهمين، والتي اعتبرها نظرة قصيرة الأمد للربحية، وبأن خير طريقة لخلق القيمة للمساهمين هي الطريقة الغير مباشرة، بتطوير منتجات الشركة وتشجيع عمالتها وإرضاء زبائنها، والتي ستؤدي بالثقة بها وزيادة ربحيتها بشكل غير مباشر. ويتوقع مارتين سوريل بولادة رأسمالية بوجه إنساني أكثر مسئولية من حطام هذه الأزمة، وذلك بتطوريها المسئولية الاجتماعية للشركات لحماية الإنسان والبيئة.
ويعتقد الدبلوماسي السنغافوري ووزير الخارجية السابق، كيشور مهبوباني، بأن تجربة السوق الحرة في شرق آسيا كانت هائلة، فأدت لزيادة إنتاجية العمالة، وطورت كفاءة الاستفادة من الموارد الطبيعية، وأثرت الاقتصاد، وأنقذت مئات الملايين من براثن الفقر. وتعلمت شعوب شرق آسيا من أزماتها المالية السابقة بأن تدخر لليوم الأسود، لتزداد مدخرات الصين المالية من 145 مليار في عام 1998 إلى اثنين تريليون في عام 2008، كما زادت مدخرات الهند من 27 مليار في عام 1998 إلى 315 مليار في عام 2008، وقد حمت هذه المدخرات المجتمعات الأسيوية من عواصف الأزمات. ويعلق البروفيسور مهبوباني على ذلك بقوله: " وحينما تنتهي العاصفة سيكتشف العالم بأن خير المؤمنين بالرأسمالية هم الأسيويون، وستكون رأسمالية أسيوية لا غربية، وستسيطر في مجتمع العولمة ليتوازن فيها اليد الخفية للسوق الحرة مع اليد المرئية لحكومات فاعلة. وبالطريقة الآسيوية، خطوتين إلى الأمام وخطوة للوراء، ستنهار تدريجيا جدران المتاجرة. وفي منتصف قرن الواحد والعشرين ستتجاوز التجارة بين الدول الآسيوية المناطق الأخرى في العالم، وبالرغم من ذلك فلن يلحن الأسيويون على إيديولوجية فضائل الرأسمالية الأسيوية، فهم حذرون من الإيديولوجيات بعد قرن من الخبرة، ويفضلون التعلم من برغماتية الخبرة العملية، وسينتبهون لنصيحة آدم سميث، بأن التعقل والحكمة هي أسمى الفضائل المفيدة للأفراد، والتي قد تكون مفيدة للأمم أيضا. "
وعلق البروفيسور ادمون فيلبس، الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل بقوله: "سنحتاج لإعادة التأهيل والتعليم لمعرفة فوائد الرأسمالية الفاعلة وأخطارها، كما ستحتاج بنيتها لإصلاحات جذرية، فهي ليست نظام سوق حرة منفلتة من سيطرة الدولة وقوانينها. وفي الحقيقة تقل جدارة أداء الأنظمة الرأسمالية حينما تنعدم حماية الدولة للمستثمرين والدائنين والشركات، ضد الاحتكار والمكر والاحتيال. وتفقد الحكومات الغير فاعلة دعمها السياسي لتسبب قلق اجتماعي بغياب إعاناتها المالية لضم الأقل حظا في اقتصاد تجارة المجتمع. ولا يضر بالرأسمالية نظام تأمين اجتماعي كبير وبضرائب عالية، ودخل شخصي وثراء منخفض. فالأنظمة الرأسمالية هي آلية لتنمية المعرفة الإبداعية ليستفيد منه العمل الحر لصناعة منتجات جديدة تزيد الدخل وترضي العمالة، كما تعرض الحيرة في اقتناص الفرص الفجائية لتحولات سريعة في الاقتصاد، والتي لا تعرف عنها الحكومات الكثير لكي تستثمر فيها، لذلك نحتاج لرأسمالية السوق لحل هذه المعضلة."
تلاحظ عزيزي القارئ بأن منظري الاقتصاد الرأسمالي يؤكدون على أهمية السوق المنضبطة والملتزمة بالأنظمة والقوانين، لتحمي المستثمرين من انفجار فقاعات اقتصادية متكررة، كما أن هناك حاجة لحكومة فاعلة، تناغم التعاون بين القطاعين الخاص والعام، لخلق شبكة حماية مجتمعية للرعاية الصحية والتعليم والتدريب وضمان تقاعد وتعطل، وللعمل على خفض نسب البطالة. ويبقى السؤال المحير: كيف ستطور الثورة التكنولوجية القادمة رأسمالية الألفية الثالثة؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات
شامل و نادر المثال
منير العبيدي -الموضوع شامل و نادر المثال . ففي الوقت الذي ينشغل فيه الجميع بتفاصيل عالمنا، أي بما هو فقط أمام العين تماما ، يشمل هذا المقال وضع عالمنا بنظرة ستراتيجية شاملة تتصاغر ازاءها الكثير من التفاصيل التي هي في نهاية المطاف متأثرة و خاضعة للتيارات الرئيسية في اقتصاد و فكر العالم .يعتبر الكثيرون ان البحث في الاتجاهات الاكثر عمومية لحركة كوكبنا الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية ترفعا عن واقعنا المحسوس و نوعا من البطر الفكري ، بينما العكس هو الصحيح حيث يبدو ان امعان النظر في صغائر الأمور مفصولة عن سياقها العام الاكثر حسما ، يحرف الأبصار عن التيارات العميقة ، حتى اذا ما رفع المدقق في الصغائر رأسه سيجد ان عالمنا لم يعد ذاك العالم . و اذا ما كان ذلك قابلا للتقريب من أية صورة شعرية ، فإن الأمر ليذكرني بقول لشاعر صديق : عند المغيب حاولت أن اشبر ظلي ففشلت ثم حاولت ففشلت ثم انتبهت فوجدت أن الشمس قد غابت.يلهينا الظل احيانا عن رؤية الشمس.