أصداء

ياالله.. كم كانت أمرأة عظيمة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كالخنجر تطعنني ذكراها المستقرة أبداً في مكان ما من مساحة الضمير الذي يشعر بمعاناة الأنسان والوجع من أجله... كالعذاب السرمدي تتوجع روحي بحكايتها ومنظرها وبؤسها... وأتساءل مع كل لحظة عذاب: لماذا ياإلهي كل كل هذا الشقاء للأنسان اذا كانت قدرتك اللامتناهية بأمكانها ان تجعله يعيش حياة خالية من الشر والمعاناة والحرمان؟

أحداث الحكاية يعود تاريخها الى قبل أكثر من 40 عاما حينما كنت صغيرا أعيش مع عائلتي في العراق في حي شعبي للفقراء أغلب بيوته من الأكواخ والطين وسعف النخيل... كنا جميعا سكان ذاك الحي يطحننا الفقر، وكانت حالة الفقر الجماعي تلك تخفف عنا بعض الشيء الشعور بأستهداف الأقدار لنا وحدنا وتجعلنا نخدر الوعي بأوهام وتطمينات جاهزة صنعها لنا رجال الدين واصحاب الخطب الأخلاقية المثالية، والأثرياء الذين يريدون إبعاد حسد وكلام الناس عنهم، ومن يطلع على المقولات الدينية والأخلاقية والشعبية التي تمتدح الفقر وتتغنى به وتمجده... يظن ان قوانين الحياة والمنطق كلها خاطئة بخصوص أهمية الرفاهية والوفرة والمال وتأمين الحاجات الضرورية للأنسان، فالمواعظ والحكم الأخلاقية والدينية التي تتحدث عن مزايا ومكانة الفقراء لدى الله.. نموذج فظيع للديماغوجية والهذيان وخداع الذات والآخرين.

كانت أمراة متزوجة ولديها أطفال، وزوجها مصاب بمرض مزمن قاهر أجلسه في البيت، وفي دولة كالعراق لايوجد شيء أسمه الضمان الأجتماعي، ولاتوجد مؤسسات أجتماعية أو دينية أهلية تقوم بواجبها الأنساني نحو المحتاجين، فأصبحت تلك العائلة في ورطة ومأزق وحاجة أكثر من ضرورية الى لقمة العيش، وكان لابد من العثور على حل، وجاء الحل بأن تعمل المرأة داخل البيت في صناعة ( الزبلان والحصران من خوص النخيل ) وللقاريء العربي أوضح: ان هذه الصناعة عبارة عن عمل أشبه بشنطة التسوق من الخوص تسمى ( زبيل ) وايضا عمل سجادة من الخوص يطلق عليها ( حصير ) وتذهب بها المرأة الى السوق وتعرضها في الشارع لتبيعها!

كنت أرى عذاباتها وهي تحمل منتوجاتها منتظرة على قارعة الطريق ان يرق لها قلب أحد سواق سيارات الأجرة ويقبل بنقلها، فرغم انها كانت تدفع أجور الرحلة من الحي الى المدينة لسائق السيارة إلا ان معظمهم يرفضون نقلها وينزعجون من حجم منتوجها الذي يأخذ حيزاً في السيارة.. لغاية هذه اللحظة لاأستطيع تخيل وحشية سائق السيارة الذي يرفض مساعدة أمرأة عظيمة تريد نقل بضاعتها الى المدينة وبيعها وتوفير لقمة العيش الى أطفالها، ولعل هذا أحد الأدلة التي تؤكد أن غالبية البشر في كل مكان وزمان هم أشرار!

وفي المدينة تبدأ رحلة الذل والمهانة... فعادة النساء الفقيرات من أمثالها يعرضن بضاعتهن في الشارع امام حركة الناس وينتظرن بيعها في مقامرة ربما لاتنجح ولاتباع البضاعة وتضطر الى العودة بها مجددا الى البيت وتحمل إذلال سواق سيارات الأجرة لها، وفي الشارع يبدأ فصل جديد من الجحيم مع أصحاب المحلات المطلة عليه الذين يقومون بكل وحشية وخسة ودناءة بشتم النساء اللائي يفترشن الشارع وطردهن بحجة ان وجودهن يضايق محلاتهم... وهذا دليل آخر على ان غالبية البشر أشرار دائما!

حينما كنا نلعب في شوارع الحي.. كان أبنها الكبير يقف يتفرج علينا منكسرا يسحقه الفقر والحرمان... فهو لايستطيع شراء طائرة ورقية بسعر 5 فلوس، وفي وقتها كان الفلس الواحد أصغر عملة عراقية مما يعني انه لايملك ثاني أصغر عملة، وكان دائما يردد أمامنا ان مبلغ 5 الفلوس يفضل ان يشتري به رغيف خبز لعائلته... يالجحيم الانسان الذي من دون ذنب يجد نفسه ولد في مكان تعيس وعائلة معدمة فقيرة... فيدفع ثمن قدر أو صدفة هو لم يخترها ولايريدها فتصبح حياته ألعوبة تافهة بيد ظروف لعينة فُرضت عليه، ويتحول الى كرة تتقاذفها أمواج الأحداث والأقدار وفي النهاية يحسب عليه عمرا وحياة ويُحمل المسؤولية ويحاسب من قبل المجتمع والدين والقانون!

توفى الأب المريض وظلت المرأة تعمل بشرف وشجاعة، كنت في بعض الأحيان أشاهد أبنها صديق طفولتنا وقد أصبح موظفا بعد ان نجحت أمه في دفعه الى اكمال دراسته... كنت أنظر اليه بصمت، وأتذكر فصوله حياته وأتساءل: هل يتخيل ان محطات حياته وعائلته تستقر في ذاكرة وضمائر الذين عاش معهم، وأعيد السؤال على نفسي: من يدري نحن كذلك فصول حياتنا منثورة ومزروعة في ذاكرة من عاش معنا.

kodhayer1961@yahoo.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تراجيديا
Niro الاصـــــــلي -

قصة حزينة ودراما تتكرر مع كل انسان وفي كل بقاع العالم توجد آلاف الصور منها وعلى مر العصور كان اغلب البشر يعانون من البؤس والشقاء اما الرفاهية فكانت ولا تزال من نصيب القلة لنقل المحظوظة فلم ولن تكون هنالك عدالة بين الفقر والغنى ولن نجد المدينة الفاضلة الا في الكتب والروايات...اعجبتني الكلمة الاخيرة جدا في هذا المقال لانها عميقة المعنى .....واخيرا اقتبس جملة من رواية الساعة الخامسة والعشرون لكونستانتان جيورجيو يقول فيها انه لا توجد عدالة في تاريخ البشرية وهي ليست سوى ترف الازمنة الهادئة ان وجدت

تراجيديا
Niro الاصـــــــلي -

قصة حزينة ودراما تتكرر مع كل انسان وفي كل بقاع العالم توجد آلاف الصور منها وعلى مر العصور كان اغلب البشر يعانون من البؤس والشقاء اما الرفاهية فكانت ولا تزال من نصيب القلة لنقل المحظوظة فلم ولن تكون هنالك عدالة بين الفقر والغنى ولن نجد المدينة الفاضلة الا في الكتب والروايات...اعجبتني الكلمة الاخيرة جدا في هذا المقال لانها عميقة المعنى .....واخيرا اقتبس جملة من رواية الساعة الخامسة والعشرون لكونستانتان جيورجيو يقول فيها انه لا توجد عدالة في تاريخ البشرية وهي ليست سوى ترف الازمنة الهادئة ان وجدت

لأ لخلق الأشرار
Ana -

أنا لا أريد أن أكون فقيرا,ولا أريد بل لا استطيع التفكير بأن أعبد ذلك الأله الذي يخلق الفقراء والأشرار,والعذاب والمعانات للبشر.أما كلام رجال الدين فلا قيمة له مطلقا

لأ لخلق الأشرار
Ana -

أنا لا أريد أن أكون فقيرا,ولا أريد بل لا استطيع التفكير بأن أعبد ذلك الأله الذي يخلق الفقراء والأشرار,والعذاب والمعانات للبشر.أما كلام رجال الدين فلا قيمة له مطلقا

ضمان الاجتماعي
صلاح الدين الكردي -

قصة حزينة اذا حقيقية! كانت الحكومة العراقية في ذلك الوقت بالذات مشغولة بشراء الاسلحة لضرب كرد العزل و المدنيين في الشمال!!! الله في عون الفقراء اينما كانوا وشكراً لايلاف الحبيبة وقرائها الاعزاء.

مغالطة بالتحليل
د.آدم -

يخطىء من يصور ويحلل بان الله تعالى المسؤول عن انتاج طبقة من البشر يقاسون الم العوز والفقر وتصوير البعض من رجال الدين بان الفقر محبب للباري بعمومه وصدق امير المؤمنين علي ابن ابي طالب ع حين قال {لو كان الفقر رجلا لقتلته بيدي } فان هذا القول من تحبيب حالة الفقر للبشر وانتهاك كرامتهم بشتى صورها ولكن المسؤول الاول والاكبر لحالة الفقر للبشر هو نتيجة اعمال وجشع الانسان لاخيه وانتهاك حقوقه ؟ وكم نتمنى من سياسي العراق الجدد ان يعوا حالة العوز للمواطن العراقي الذي وهبه الله تعالى بثروة يحسد عليها حتى في ارقى الدول بالعالم لكن نتيجته يعيش بالعراق مانسبته 40 بالمائة هم تحت دون الفقر وهي احصائية وزارة التخطيط العراقي بالمناسبة