أصداء

اللاعنف في فكر المهاتما غاندي (2)

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

"اللاعنف شَريعةُ جِنسنا بينما العنف شريعة البهائم، وشريعة الروح الغافية في قلب العنيف الذي لا يعرف سوى قانون القوّة الجسديّة. لكن كرامة الإنسان تَتطلَّبُ طاعة قانونٍ أسمى هو قوّة الرّوح "
غاندي

يرتكز فكر المهاتما غاندي حول اللاعنف بوصفه نظامًا كونيًا طبيعيا، على رؤية استقاها من تعاليمه المنبثقة عن هندوسيّة متفتحة لا تتعارض مع بقية الأديان والنحل، وتتمحور

اللاعنف في فكر المهاتما غاندي

رؤيته على مرتكزات الحكمة التي اكتسبها من بذور الفلسفة الهندية القديمة والأسس الأخلاقية الموجودة في ديانات الهند الكبرى، لذلك نجد أنه رجل اجتمعت فيه صفات السياسية والمرشد الروحي، فأعمل الروح في السياسية كما جعل من العمل السياسي والمقاومة السلمية جزء لا يتجزأ عن عمل الروح.

المنطلقات الأخلاقية و" الميتولوجيّة" لمفهوم اللاعنف عند غاندي

bull;أولا: مفهوم الحقيقة ساتياغراها satyāgraha:

" الدين"( الدهارما) من وجهة نظره يسمو فوق كل المسميات:" دعوني أشرح لكم ما أعنيه بالدين: إنه قطعًا ليس الديانة الهندوسية التي أقدِّرها حتمًا أكثر من باقي الديانات، بل الدين هو ما يسمو فوق الهندوسية، فيغير طبيعة كلّ شخص، ويربطه بشكل لا ينفصم بالحقيقة التي يَطَّهر المرء من خلالها. إنه العنصر الراسخ في الطبيعة البشرية التي لا تبخل بأيّ ثمن كي تبلغ كامل تحققها، ولا تدع للنفس مجالا للراحة حتى تتعرف إلى نفسها، فتعرف خالقها، وتُقدِّر حقيقة التطابق بين الخالق وبين الذات "
والاستعانة بقوّة الحقيقة هي أصل منبثق من قوة الروح وساتياغراها satyāgraha (ساتيا:"حقيقة" واغراها: "قبض")؛ وهذا المصطلح باللغة السنسكريتية يعني "الاستمساك بالحقيقة" وهو ما ترجمه غاندي بـ"القوة النابعة من الروح" إنها النداء الملحّ للحقيقة في خدمة الأرض.
إن اللاعنف الكامن في قلب الحقيقية من شأنه أن يُطلق طاقة روحيَّة ترغم "الخصم" على مراجعة ذاته ومساءلة نفسه، إذ ليس ثَمة مطلب بإلحاق الهزيمة به ولا كراهية تجاهه، إنها استراتيجية تستهدف قلب الانسان عبر الوثوق بالضمير الموجود عنده قطعًا بوصفه انسانا، مما يحقق الهدف بتحقيق العدالة وقهر الشرّ الذي هو أحد ضحاياه أيضًا.

ان الشخص اللاعنفي ( الساتياغراهي ) ينتهج نهجًا وجوديًّا ويمارس ضربًا من ضروب الحياة الروحية المتبلورة بشكل عملي، فهو ليس إذاعانًا أو جُبنًا، إنها القوة الآتية من الإرادة التي لا تُقهر: الإرادة بعدم القتل ومواجهة الموت دون الرغبة في الانتقام.

فالحقيقة بنظر غاندي "لم تكن مطلقًا مجردًا مبهمًا، بل مبدأ ينبغي اكتشافه اختباريًا في كل حالة على حدة. الحقيقة، في خبرته، هي الغاية واللاعنف هو وسيلتها. من هنا فقد اهتم بصفة خاصة بالوسائل المستعمَلة لبلوغ الغاية، مؤكدًا أن الوسائل تصنع الغاية بالضرورة. لذا يتخذ اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضه، منها الصوم، والمقاطعة، والاعتصام، والعصيان المدني، والترحيب بالسجن إذ حصل، ورباطة الجأش أمام الموت"

bull;ثانيا: مفهوم اللاأذى أو اللاعنف: آهيمسا ahimsā

لعل عقيدة الآهيمسا من أبرز مساهمات الهندوسية في ثقافة الهند وأكثرها تميّزًا، لأنها أعطت خصوصية حضارية إنسانية لهذا البلد. وعلى الرغم من أن جذورها تعود الى أكثر من ثلاثة آلاف عام، إلا أنها مازالت حيّة وقادرة على الاستجابة للمؤثرات والتحديات الى يومنا هذا، والسبب يعود الى انّها عقيدة قابلة للتطور حسب الظروف.
يقول غاندي:" الآهيمسا هي أساس البحث عن الحقيقة، ويزداد يقيني كلّ يوم من عدم جدوى هذا البحث مالم تكن الآهيمسا قاعدته، لأنّه إن كان صحيحًا جدًّا مقاومة ومهاجمة نظامٍ ما، فإن مقاومة أو مهاجمة صاحبه يساوي مقاومة الذات ومهاجمتها وجميعنا أبناء نفس الخالق، ما يعني أن القوى الإلهية التي في داخلنا لا متناهية، والاستخفاف بكائن بشري واحد يعادل الاستخفاف بهذه القوى الإلهية، ويعني بالتالي الإساءة ليس فقط إلى هذا الكائن بل إلى العالم بأسره "

ومفهوم أهيمسا ahimsā (أ: أداة نفي، وهيمسا: أذى) عند غاندي، هو أساس قانون الحياة كونه يحمي الوجود عبر كفّ الأذى عن كلّ الكائنات ونشر الرحمة و المحبة، بل إنّ حماية البيئة الطبيعية والعناية بالحيوان وسائر مكونات الكون تدخل في هذا المفهوم أيضًا، إنها وحدة مسؤولية الكائنات الانسانية تجاه الكائنات الأخرى والكون. وحده اللاعنف، بنظر غاندي، قادر على استعادة الحقيقة. وقد كتب بهذا الصدد: "ساتياغراها ليس العصيان المدني حصرًا، بل سعي هادئ لا يقاوَم إلى الحقيقة."

والحقيقة، في خبرته، هي الغاية واللاعنف هو وسيلتها. من هنا فقد اهتم بصفة خاصة بالوسائل المستعمَلة لبلوغ الغاية، مؤكدًا أن الوسائل تصنع الغاية بالضرورة.

bull;ثالثا: مفهوم اللاتملك أباريغراها:

إن مفهوم اللاتملك من أكثر الأمور محوريّةً في بنية اللاعنف كونه يعني نكرانًا تامًّا وكاملا للذات و استخدام الجسد في الخدمة، إنها حالة ذهنية تؤمّن للإنسان الراحة والسعادة عبر التحرر التام من الخوف، وتعني أن يكون الانسان مستعدًّا لتقبل الموت والتنكر لجسده من أجل خدمة الإنسانية، لذلك فإن مفهوم اللاتملك (أباريغراها) يرتبط ارتباطا وثيقًا بفلسفة " الياجنا "(التضحية ).

ويرى غاندي ان "الحق في الحياة مشتق من إنكار الذات. حيث لا يقال ( عندما يفعل الجميع ما عليهم سأفعل ما عليّ) بل يُقال ( لا تهتم بما يفعله الآخرون، بل افعل انت ما عليك ودع له الباقي )"
ويتساءل غاندي:" لماذا علينا جميعًا اقتناء الممتلكات؟ لماذا لا يجب علينا، جميعنا، وبعد فترة من الزمن، تجريد أنفسنا من كل الممتلكات؟"
فالله لم يخلق أكثر مما نحتاج إليه لتلبية احتياجاتنا الآنية، لذلك فحين يتملك الفرد أكثر مما يحتاج إليه يفتقر جيرانه!
"لهذا تُعلمنا الأوبانيشاد " أن نتخلّى عن تعلقنا بالأشياء التي نستمتع بها" ما يعني، أنه يجب علينا التعامل معها ليس كمالكين لها كمؤتَمَنين عليها."

فاللاتملك يحرر الانسان الخوف من الخسارة إذ لا نملك شيئا كي نخسره، "وهكذا نكتشف أنّ كلّ مخاوفنا هي من صنع مخيلاتنا، ما يعني أن الخوف لن يبقى له مكان في قلوبنا حين نلقي جانبًا تمسّكنا بالثروة من أجل العائلة، من أجل الجسد... ( استمتع بالأشياء الأرضية عبر تخليك عنها ) وهو تعليم نبيل، في هذه الحالة، يصبح كل من الثروة والعائلة والجسد سواسية؛ وعلينا فقط تغيير سلوكنا تجاهها، لأنها جميعها ليست لنا بل لله، لأننا لا نملك شيئًا في هذا العالم ".

خلاصة
يقول الباحث اللاعنفي ديميتري أفييرينوس: "منزلة غاندي تقوم أساسًا على أنَّه حَقّق معادلةً كانت ممكنة في التاريخ القديم وتكاد تصير متعذرة اليوم: الجمع بين مقاميّ الحكيم والمرشد الروحي، من ناحية، والرائي السياسي الملهَم، من ناحية ثانية. الرائي هنا هو الإنسان القادر فعلاً على استشراف حركة المجتمع وحركة التاريخ، وفهم كيف يستطيع المساهمة في صنعها وفي توجيه الأحدث عن وعي، رغم ضآلة قدرة الإنسان ودوره في هذا الشيء، بمعنى آخر، مع حفاظه على تواضع كبير بالنسبة للفعل الذي يساهم فيه. كان غاندي نبيًا اجتهد طوال حياته في بلوغ مثال الحقيقة واختباره، هذا المثال انكشف له عبر هندوسية منفتحة على الأديان والملل كافة. وكان لا يني يصرُّ أنه رجل خبرة روحية أصلاً، وليس رجل سياسة. كان يقول: "أنا مثالي عملي"، "أحاول أن أُدخِل الدين في مجال السياسة". - ليس المقصود بالدين الدين وفق مفهوم المؤسسة، بل الدين كخبرة حيّة، كاختبار روحي شخصي-. لكنه، مع ذلك، كان رجل الأفعال بقدر ما كان رجل التأمل.
وهذه الثنوية التي تمكَّن من اجتراح معجزة اختزالها إلى وحدة تستند إلى كشفين حاسمين من الكشوف التي رسمت مسار حياته الداخلية: الكشف الأول، - وصديقنا جان ماري مولَّر تحدث عن هذا الكشف في العام الماضي -، هو "الله هو الحقيقة"؛ والكشف الثاني الأعمق: "الحقيقة هي الله". فالكشف الأول ينفي الحقيقة من العالم إلى المطلق، المتعالي على العالم، بينما الكشف الثاني يعيد الله إلى دروب الحياة اليومية، مثلما يمكن للمرء أن يغرف من ماء الغانج المقدس براحتي يديه، أو أن يعرف بتذوُّقه حبة رز واحدة فيما إذا كان الرز كلُّه ناضجًا أم لا" هذا الكلام لـ (راماكرشنا)، وهو أحد حكماء الهندوس الكبار.
لقد جمع المهاتما في مذهبه الحياتي بين المنظورين الإسلامي، حيث يجمع الله بين صفتي الحق والعدل، والمسيحي، حيث يمكن للألوهة أن تتجسَّد في حياة إنسان فرد. فمن يصبح الحقُّ والعدلُ قوامَ حياته يتألَّه؛ وعلى التبادل، من يتوق إلى التألُّه، مخلصًا للحكمة الأزلية، حيث "لا وجود إلا لله، ولا لشيء سواه" (غاندي، الهند الفتاة)، يجب أن يعمل بموجب الحق (= العدل) وأن يسري في شرايينه شوقٌ لافح إلى إحقاقه."

مقالات ذات صلة:
اللاعنف في فكر المهاتما غاندي (1)

http://marwa-kreidieh.maktoobblog.com/

ــــــــ

الدهارما: الدين شريعة الكائن الأوحد.
الهند الفتاة، في 12 مايو 1920 ص 2.
المهاتما غاندي، قصة تجاربي مع الحقيقية، ترجمة منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت لبنان.
المهاتما غاندي: كتابات وأقوال، ترجمة أكرم انطاكي وتدقيق هفال يوسف، معابر للنشر، الطبعة الأولى 2009 سوريا، دمشق.
ديميتري أفييرينوس: غاندي بين القداسة والسياسية، في محاضرة ألقاها يوم 11 تموز 2009 خلال ورشة عمل:" اللاعنف وضبط النفس ".
آهيمسا: مبدأ اللاأذى - كفّ الأذى، أو اللاعنف، وهو يشير الى تجلي المحبة في أشكال الحياة.
المهاتما غاندي: " قصة تجاربي مع الحقيقة "، مرجع سابق، ص 203.
هاريجان، السادس من مارس 1937، ص 27.
الهند الفتاة، 3 يوليو 1924 ص 221
الأوبانيشاد: موضوعات الفلسفة الهندية القديمة وقد نبعت منها منظومة فيدانتا الفلسفية.
الماهاتما غاندي، كتابات و خطابات، ص 130.
المهاتما غاندي المرجع السابق نفسه.
لا يسعني الوقوف عند الخلفية الأخلاقية لغاندي دون العودة حتما الى كتابات الصديق الخبير ديميتري أفييرينوس، الذي كرَّس جلّ وقته لترجمة التراث الروحي الهندي ومراجعته وتدقيقه، علاوة على بلورة اسس العمل اللاعنفي، لذلك فإنّي سأورد جزءا من ترجماته ومقالاته ومحاضراته، التي حرصت على عدم التدخل في صياغتها عمدًا كيّ لا أشوّه المعنى.
ديميتري أفييرينوس: غاندي بين القداسة والسياسة - مرجع سابق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Ghandi
Salem -

Humanity did produce so many influential People some time in good causes and some times in bad once.Gandhi is the Leader in modern history to practice and preach peace in the same time he actually show it to us can be done.He managed to declare independence from Briton with firing any bullets.This is the spiritual person people should followNot People who preaches hatred and violenceHis legacy will lives on as long as the humanity shall exist

Ghandi
Salem -

Humanity did produce so many influential People some time in good causes and some times in bad once.Gandhi is the Leader in modern history to practice and preach peace in the same time he actually show it to us can be done.He managed to declare independence from Briton with firing any bullets.This is the spiritual person people should followNot People who preaches hatred and violenceHis legacy will lives on as long as the humanity shall exist

غاندي مات
عصفور كناري -

لا اعتراض على غاندي كشخصية انسانية فريدة من نوعها و مؤثرة لابعد الحدود .... الاعتراض هو على ميراثه و مبدأه الذي يتميز بالذل و الخنوع للمعتدي و عدم الرد عليه بالمثل بدعوى نبذ العنف !! عالم غاندي عالم مثالي لا وجود له على ارض الواقع و الدليل على ذلك هو ما حدث لغاندي نفسه(اغتاله هندوسي متعصب) و ما حدث للهند من بعده (انقسمت الى 3 دول تحاربت فيما بينها) ... مما يدل على ان مبادئ غاندي لا تعيش بنفسها و ليس لديها قوة كامنة تمكنها من الاستمرارية بعد رحيل راعيها (كمبدأ الرد بالمثل على سبيل المثال, و هو مبدا خالد لا يحتاج لراعي أو محفز)... مثالية غاندي هي المشكلة و ليست الحل , و مبادئه مرتبطة بوجوده على قيد الحياة ... و حدثت احداث عنف بين الهنود (مسلمين و هندوس) في حياة غاندي , و كانت دائما ما تتوقف اكراما له فقط لما له من محبة و تقديس في قلوب الهنود لا اتباعا لمبادئه بنبذ العنف و هنا المشكلة , فالمبادئ المثالية ترحل مع اصحابها و لا يكتب لها البقاء من بعدهم و لذلك فهي غير قابلة للتطبيق ... و ما ليس قابلا للتطبيق فلا يستحق منا ان نضيع وقتنا في الحديث عنه مهما كان جميلا و رومانسيا .... غاندي مات و مبادئه ماتت معه !

.........
AMAR -

خالف شروط النشر

غاندي مات
عصفور كناري -

لا اعتراض على غاندي كشخصية انسانية فريدة من نوعها و مؤثرة لابعد الحدود .... الاعتراض هو على ميراثه و مبدأه الذي يتميز بالذل و الخنوع للمعتدي و عدم الرد عليه بالمثل بدعوى نبذ العنف !! عالم غاندي عالم مثالي لا وجود له على ارض الواقع و الدليل على ذلك هو ما حدث لغاندي نفسه(اغتاله هندوسي متعصب) و ما حدث للهند من بعده (انقسمت الى 3 دول تحاربت فيما بينها) ... مما يدل على ان مبادئ غاندي لا تعيش بنفسها و ليس لديها قوة كامنة تمكنها من الاستمرارية بعد رحيل راعيها (كمبدأ الرد بالمثل على سبيل المثال, و هو مبدا خالد لا يحتاج لراعي أو محفز)... مثالية غاندي هي المشكلة و ليست الحل , و مبادئه مرتبطة بوجوده على قيد الحياة ... و حدثت احداث عنف بين الهنود (مسلمين و هندوس) في حياة غاندي , و كانت دائما ما تتوقف اكراما له فقط لما له من محبة و تقديس في قلوب الهنود لا اتباعا لمبادئه بنبذ العنف و هنا المشكلة , فالمبادئ المثالية ترحل مع اصحابها و لا يكتب لها البقاء من بعدهم و لذلك فهي غير قابلة للتطبيق ... و ما ليس قابلا للتطبيق فلا يستحق منا ان نضيع وقتنا في الحديث عنه مهما كان جميلا و رومانسيا .... غاندي مات و مبادئه ماتت معه !

هذا عن اللاعنف
متضرر من لصه -

وما رأيك بالسرقه سرقة افكار الاخرين ورسومهم

اصرار رائع
sama -

يعجبني هذا الاصرار من الكاتبة على انسانية لا سوق لها اليوم، وحيادية الطرح وسعة الاطلاع انه بحث رائع لغزارة معلوماته

هذا عن اللاعنف
متضرر من لصه -

وما رأيك بالسرقه سرقة افكار الاخرين ورسومهم