تفكيك اللاهوت السياسي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انصبت فلسفة دريدا على تفكيك ما يسميه باللاهوت السياسي، وفضح العلاقة السرية بين الاستعمار وعنف الكتابة منذ كتابه " الجراماتولوجيا "، ونقد المركزية الغربية ومختلف الثنائيات الميتافيزيقية، غير أنه عمد إلي المباشرة بعد 11 سبتمبر 2001 في كتابيه: "سياسات الصداقة " و" مارقون ".
فقد لاحظ دريدا أنه رغم تأكيد أرسطو علي تماثل الأدوار داخل كل من " العائلة " و" السياسة "، حيث تتداخل مفاهيم: المواطن والصديق والأخ، فإن أرسطو أقتصر كلامه علي الرجال دون النساء، والرجال الطيبون (الأخيار) فقط، وكأنه ينفي أية امكانية للاتصال أوالتواصل بين الجنسين، ويستبعد كل دور للمرأة في المجال السياسي، وهو ما يشير إلي التمركز حول الذات (الذكورية) تحديدا، وغياب " المساواة " الفعلية داخل الديموقراطية اليونانية.
ويبدو أن تاريخ الفكر السياسي في أوروبا يرتبط أساسا بالتحولات داخل هذه " البنية الذكورية " للعائلة، وبالتحديد تبادل الأدوار بين " الأب " و" الاخ "، فالعصر الذهبي للعائلة ونظام " الأبوة " مر بمرحلتين، الأولي في العصر اليوناني القديم والثانية في العصور الوسطي الدينية. وهناك وشائج قربي بين معني " الأبوة " ودلالة " الوطن " منذ القدم. فاللفظة اليونانية الدالة على " الوطن " هي (Patris)، ومعناها " أرض الآباء "، وتقع في الكتاب الخامس من " الإلياذة "، حيث يقول " بناداروس لاينياس ": " عندما أعود إلى بلدي ثانية القي بصري على أرض مولدي وزوجتي وبيتي المرتفع... "، كما لاحظ " يوهان هويزنجا ". أما نظام " الأخوة " فقد ظهر في اليونان القديم أولا، ثم عاد مرة أخري في عصر النهضة الأوروبية، مع انتعاش النزعة القومية التي قضت علي وحدة العالم المسيحي في أوروبا، وعلي النظام الأبوي (البابا - الملك) في العصور الوسطي الدينية.
" فالأخوة كانت بمثابة الحلم الدائم بزوال النظام الأبوي، ووفاة الأب ونهاية سلطته، بل ان الأخوة كانوا دائما علي استعداد للتعاون (والتآمر) من أجل التخلص من هذا الأب المتسلط، كما يؤكد " دريدا " مستلهما " فرويد "، الذي نشر في عام 1913 سلسلة من المقالات عن " الطوطم والتابو "، حاول فيها إثبات وجود تشابه بين حياة الإنسان البدائي النفسية والمصابين بأمراض نفسية. ورأي أن الأب هو أساس " عقدة أوديب " في هذه الأسطورة اليونانية. فقد صوّر الأب البدائي علـى أنـه إنسان عنيف، شديد الغيرة، يحتفظ لنفسه بكل نساء القبيلة، ويطرد أبناءه عندما يصبحون في سن الشباب. فما كان من هؤلاء الأخوة المطرودين الذين عانوا من القمع الجنسي، إلا أن تجمعوا وقرروا محاربة التسلط الأبوي، فقتلوا والدهم وأكلوه (يعتبر فرويد أنه خلال عملية الابتلاع حقق الأبناء تماثلهم مع والدهم بإمتلاك كل منهم جزءا من قوته). بعدما تخلصوا منه وحققوا تماثلهم معه، شعروا بعقدة الذنب، وبالرغبـة فـي التكفير عن خطأهم، فاتخذوا قرارا بمنع قتـل الأب فــي القبيلة (الطوطم) ومنع قيام علاقات جنسية مع نساء الأب (المحرّم).
كما لعبت فكرة " الأخوة " دورا مهما في ميلاد الحداثة الغربية، وأصبحت أحد مبادئ الثورة الفرنسية عام 1789: الحرية، المساواة، الإخاء. كما قادت فكرة " المساواة " إلي القضاء علي التفرقة بين الجنسين، بين الغني والفقير، بين الحاكم والمحكوم..... إلي آخره.
بيد ان الاعتراف (بالأخ) كآخر يختلف عن " الذات "، وليس كشبيه لها أو (كنسخة من الذات)، كان يتطلب أولا (نقد الحداثة) والتحرر من الأنانية الطفلية، حسب تعبير دريدا، والتخلي عن التمركز حول الذات، والابتعاد عن هذا الأخ الآخر مسافة مناسبة، وهذا الابتعاد وتلك المسافة هي نوع من احترام خصوصيته وحريته، وهذا هو أهم خصائص ما بعد الحداثة، وما بعد الحداثة السياسية بصفة خاصة، لذا يجب أن نأخذ تحذيرات دريدا علي محمل الجد حين يؤكد علي أن الأخوة العالمية في الديموقراطية القادمة تتجه نحو (التماثل) لا (الاختلاف) واحترام (آخرية) الآخر، وهو يعيد هنا طرح السؤال الأهم في مطلع الألفية الثالثة، علي لسان رسل جاكوبي في كتابه " نهاية اليوتوبيا "، يقول: لم يسأل أحد أو يسائل نفسه: ماقدر التعدد والاختلاف داخل التعددية والاختلاف؟... ماذا تعني كلمات مثل " تعدد" و"تنوع" و"اختلاف" أساسا؟... أية ديموقراطية قادمة بالضيط؟... هل الإلحاح علي التعددية والاختلاف اليوم هو بهدف " تقسيم " العالم إلي أقليات واثنيات وهويات وثقافات متصارعة، أم من أجل دمج العالم وتنميطه من خلال لعبة الديموقراطية العالمية؟
.