الشاعر محمد حسيب القاضي: راحل جديد من منفى قريب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يغادرون منافيهم القريبة والبعيدة، ذات اللكنة العربية والغربية، وهم يحملون معهم حلما واحدا بتنويعات مختلفة متقاربة، حلم العودة أو دفن الجثمان في تلك البقعة التي ولدوا فيها عام... وغادروها عام 1948. لكنها تظلّ مجرد أحلام.. أحلام الغياب أو أحلام اليقظة لا فرق، فبعض هذه الأحلام تداهم أصحابها ولا يقظة بعدها، كما حصل مع الصديق الشاعر الفلسطيني محمد حسيب القاضي الذي كان راحلا جديدا، مساء الجمعة الثلاثين من أبريل 2010، من منفى قريب (القاهرة) لموطن أحلامه مدينة يافا التي ولد فيها عام 1935، اي يرحل عنها بعد خمسة وسبعين عاما من ولادته فيها، وبعد إثنين وستين عاما من فراقه القسري لها بسبب نكبة أو هزيمة أو تهجير أو تشريد لا فرق، المهم أنه غادرها رغم أنها لم تغادره، إذ بقي طوال ما لايقل عن نصف قرن يكتبها شعرا وأناشيد ثورية، كانت من أشهر الأناشيد في زمن الثورة الحقيقية قبل أن يستولي عليها اللصوص والمرتزقة ويحيلوها إلى شركات ومصالح شخصية. في ذلك الزمن النقي من لم يسمع ويسجل وينشد ويردد النشيد الذي كتبه الراحل محمد حسيب القاضي:
بإيدي رشاشي... وبدي أضلني ماشي
وأرضنا المحتلة... ما بترجع بلا شي
وبدي أضلني ماشي... وبدي أضلني ماشي
رشاشي ورصاصي... طريق الخلاص
واللي بيوقف سيري... بنطلقه بالراس
وبدي أضلني ماشي... وبدي أضلني ماشي
رشاشي رفيقي... أخويا وصديقي
لغوتنا مفهومة... بينجدني بالضيق
وبدي أضلني ماشي... وبدي أضلني ماشي
رشاشي عاكتافي.... فرشتي ولحافي
وطول ما احنا سوية... عمرنا ما نخاف
وبدي أضلني ماشي... وبدي أضلني ماشي
(وطول ما إحنا سوية)!!! هل كان يتنبأ الفقيد الراحل قبل خمسة وأربعين عاما بأنه سيأتي انقلاب حماس العسكري واستيلاؤها على قطاع غزة عام 2007 كي يحدث هذا الانقسام، ويصبح الفلسطينيون (ما إحنا سوية)؟. وطالما لم يحقق الفلسطينيون نتيجة على الأرض (طول ما إحنا سوية)، فلنا أن نتخيل النتائج الكارثية التي بدأت طلائعها وهم (ما إحنا سوية)، حيث إمارة حماس الظلامية في القطاع، ودويلة عباس الكرتونية الورقية في الضفة، هذا الانقلاب الذي ألجأه للعودة للإقامة في القاهرة العاصمة التي كثيرا ما أقام فيها، ومن تلك المرات بعد اعتقاله من قوات الاحتلال الإسرائيلي عقب نكسة وهزيمة 1967.
بدايات معرفة وثيقة
عرفت الشاعر الراحل في بداية الستينيات من القرن الماضي، عندما قدمت إلى القاهرة عام 1961 من مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين للدراسة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. وأسس آنذاك عام 1963 الراحلان أيضا الأستاذان زهير الريس و محمد زكي آل رضوان في مدينة غزة جريدة (أخبار فلسطين)، وكان الراحل الجديد الشاعر محمد حسيب القاضي أحد أعضاء هيئة تحريرها، و ممن أذكر منهم الأستاذ اسامة شراب، والروائي المقيم في أستراليا الآن عبد الكريم السبعاوي، وكان الفنان الراحل أيضا إسماعيل شموط هو المخرج الفني للجريدة، التي نالت شهرة ورواجا سريعا في قطاع غزة، خاصة بعد دخول الصحفيين المصريين مصطفى وعلي أمين صاحبا جريدة "أخبار اليوم " المصرية شريكين في الجريدة، لتصدر بالتعاون مع أخبار اليوم المصرية، مما ساعد على تطويرها بسرعة كبيرة وتوزيعها في القطاع و مصر وعدة دول عربية. وكنّا نكتب للجريدة ونرسل مقالاتنا إما لعنوانها بالبريد في غزة أو عبر أخبار اليوم المصرية، وقد فتحت باب الكتابة والحضور للعديد من الأقلام الناشئة من سكان القطاع الذين أصبح أغلبهم أسماء معروفة في عالم الأدب والنقد والسياسة.
تعرفت آنذاك في القاهرة على الشاعر الراحل محمد حسيب القاضي بعد الاحتلال الإسرائيلي للقطاع عام 1967 واعتقاله عدة مرات، ثم مغادرته للقاهرة حيث تقابلنا وتعارفنا في إذاعة صوت فلسطين التي كانت تبث من إذاعة صوت العرب (أحمد سعيد) الشهيرة آنذاك. ثم أبعدتنا الغربة ومنافيها وأصبح من الصعب أن تجد طريقا للتواصل مع من تعرفهم وتحبهم، فكانت لقاؤتنا عبر الصحف والورق، نقرأ لبعض ونراسل بعض بالبريد أو عبر الصحف التي نكتب فيها، والتقيته للمرة الأخيرة في عام 2001 أثناء زيارتي للضفة والقطاع للمشاركة في مؤتمر أدبي لجامعة القدس العربية، وكم كان مؤلما أن تعبر العديد من الحواجز وأنواع التفتيش وصولا لمخيم رفح الذي نشأت وتعلمت فيه منذ نكبة الهجرة والتشريد.
شاعر بعيد عن الأضواء
كان الراحل الشاعر محمد حسيب القاضي رغم غزارة انتاجه الشعري وكتاباته النقدية واناشيده الثورية المشهورة، لا يحب الأضواء الإعلامية بعكس غالبية الكتاب والمثقفين، لذلك ورغم حضوره الأدبي في أغلب المحافل الأدبية والفنية الفلسطينية تحديدا، إلا أنه لم ينل حقه من التركيز الإعلامي على انتاجه، رغم أهمية القول أن العديد من الدراسات والكتابات نشرت عن انتاجه الشعري تحديدا. كان كالعديد من المبدعين الفلسطينيين قد تجول في أكثر من منفى، فمن القاهرة إلى قبرص وتونس واليمن والجزائر، وغزة ثم القاهرة ومنها إلى منفاه الأخير بعيدا عن يافا مسقط رأسه التي لم تفارقه يوما، وكان كلما التقينا يحدثنا عما يتذكره من تلك اليافا من أهم المدن الفلسطينية المحتلة.
إنّ ما يحتاج للتركيز النقدي عليه هو مسرحياته الشعرية: دولة أيوب، 1997 مع أهمية ربطها موقفا وابداعا مع ديوانه الصادر قبلها عام 1983 بعنوان " أربعاء أيوب " وما لهذا الأربعاء من حضور في التراث الشعبي الفلسطيني. المفارقة المهمة هي حضور أربعاء ايوب هذا في الوجدان الفلسطيني المسيحي والمسلم، إذ يحتفل به الجميع صباح الأربعاء الذي يسبق عيد الفصح المجيد. وما زلت أتذكر طفولتي وشبابي في مخيم رفح للاجئين الفلسطينيين بقطاع غزة، عندما كنّا نخرج صباح هذا الأربعاء بالآلآف أطفالا وشبابا ورجالا ونساءا إلى شاطىء البحر، وهناك يتجمهر البشر يحمل كل واحد منهم جروحه وآلامه طالبا الشفاء عبر الاستحمام في البحر، وذلك جريا على تقليد النبي أيوب كما تقول الأسطورة أو السيرة، ذلك النبي الذي أصبح مثالا للصبر (صبر أيوب)، صاحب المرض العضال الذي ألمّ به عشرات السنين، وتحملت معه زوجته الألم وصبرت طويلا منتظرة شفاءه الذي كان ذلك الصباح بعد استحمامه في ماء البحر. التعلق بهذه الإسطورة أو السيرة التي وردت في القرآن الكريم والإنجيل، جعل سكان كل منطقة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط في جانبه العربي، يعتقدون أن النبي أيوب استحم ونال الشفاء على شاطئهم هذا. وضمن ذكر مسرحيات محمد حسيب القاضي الشعرية، لا يمكن نسيان مسرحيته "شمهورش " 2001. طبعا دون نسيان أهمية دواوينه الشعرية الخمسة عشر منذ أولها " فصول الهجرة الأربعة " 1974 إلى آخرها " السدى قاطرة.. قطرة " 2002.
هو شاعر طالعلك ياعدوي طالع
محمد حسيب القاضي الراحل الحاضر، هو كاتب أنشوردة الزمن الثوري الأصيل قبل سرقته ومصادرته من اللصوص والخونة، هو الذي كتب، ينشد، يحرض، قائلا:
طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع
بسلاحي وايماني طالع
طالعلك يا عدوي طالع
حربنا حرب الشوارع طالعلك يا عدوي
طالعلك يا عدوي
طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع
من كل حيطة وبيت طايحين
بالسطاطير وبالسكاكين
من كل حيطة وبيت طايحين
بالسطاطير وبالسكانين
بالسطاطير وبالسكانين
وبقانبلنا اليدوية
وبقنابلنا اليدوية
اعلنا الحرب الشعبية
إلى آخر هذه الأنشودة التي يحفظها الأطفال والشباب والنساء والرجال، أيضا في ذلك الزمن النقي الطاهر.
أين السلطة الفلسطينية من هذا الغياب؟
الحزن الذي يغمرنا بسبب هذا الرحيل ومن سبقوه ومن سيلحقوه، يطرح سؤالا على مسؤولي الثقافة في السلطة الفلسطينية (إن وجدت الثقافة والسلطة): ماذا فعلت وتفعل السلطة إزاء أسر هؤلاء الراحلين الغائبين بعد أن تركوا أعمالا إبداعية وأدبية وتاريخية ستبقي القضية حية في الوجدان والضمير والعقل مهما طال الرحيل والتشرد؟. هل سألت السلطة أو أحد أجهزتها المسماة " ثقافية" كيف تعيش عائلات الراحلين أو إعادة نشر انتاجهم أمثال: توفيق المبيض وأحمد عمر شاهين وشفيق الحوت، وهذه الأسماء الراحلة ممن أعرف شخصيا، وغيرهم كثيرون لا يمكن نسيان إبداعهم وحضورهم... فهل هناك من يسمع أم علينا التسلح بصبر أيوب إن أمكن؟.
محمد حسيب القاضي.. سأظل أفتقدك طالما شعرك لا يمكنني نسيانه.. ومن ينسى قولك أيها الغائب الحاضر:
لا هم طيور أبابيل
ولا هو من أي سجيل
إنما هو مما تفتت من صخرة الحزن بين الحنايا
وما خبأته مرايا رمادهم الحي من جمر عنقائهم
وهاهم يرون اشتعال ملامحهم في المرايا
فلا هم طيور أبابيل
ولا هو من أي سجّيل
إنهم بشر
ومعجزة الله في يدهم حجر
الراحل الحاضر محمد حسيب القاضي..حزني عليك مضاعف، لأنني أمضيت أكثر من أربعين يوما في القاهرة الشهور الثلاثة الماضية، ولم أقابلك لأنني لم أكن أعرف أنك عدت للإقامة في القاهرة، ولم يخبرني أحد ممن قابلت بذلك.. وداعا أيها الراحل الحاضر.
ahmad.164@live.com
التعليقات
شكر
علي ابو خطاب -تحية لكل على مقال الوفاء للراحل
شكر
علي ابو خطاب -تحية لكل على مقال الوفاء للراحل
مقاله موثره
هاني عبود -مقال رائع وقوي رحم الله الشاعر العظيم
****
Majida katela -د. أحمد تحياتي.. لله البقاء ..ولكم السلوان .. لا يموت من يعطي أرضه عمره .. ولا يموت من يحمل بندقية في يد حره ولا يموت من يصنع بالدما فجرا ... لا يموت من يفتح من جرحه شباك لتمر العاصفة.. لا يموت إلا من ضل الطريق ووقف بوجه العاصفةكريشة ولم يعمل بالوصية وخان الأخ والرفيق وباع الثورة.. لثروة... الشاعرحسيب القاضي .. الثروة... مات موتاً جميلاً وهو يزجي لنا بأشعاره الخالدة ..لم ينل أحداً منه .. سنة الموت لا تقاوم ... مات كما تموت الطيور المهاجرة..مكفناً بآلام المنفى وقسوته.. قليلون الذين يموتون ولا بموتون بعد الموت تخلدهم ما أبدع القلم والكلمة...