كام كلمة بالمفتشر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لا أعرف أصل كلمة "المفتشر" هذه، لكنني أعرف معناها منذ الصغر بوضوح، فهي وصف للكلام الصريح الذي لا يراعي تحسبات أو حسابات في كشف الحقيقة عارية كما ولدتها أمها، وهي هكذا تعطي نفس المعنى الذي يقصده مصطلح معاصر يقول "هات من الآخر". والحقيقة أنني لا أخفي إعجابي بهذا المنهج، رغم ما قد يجره على صاحبه من بلاوي. فالمعتاد في بلادنا التي توطن فيها التدليس والتواطؤ أن نلف وندور حول الحقائق. نتحاشى مقدسات وثوابت ومسلمات، كما نتحاشى أن يصل إلى أطراف أهدابنا أي لوم أو مسئولية عما ينهال علينا من كوارث، لكي نظل دوماً في عيون أنفسنا أبرياء ومظلومين ومستهدفين من قوى شريرة. لهذا بالتحديد أحاول قدر استطاعتي أن يكون "كلامي بالمفتشر"، وأقدم عذري الدائم لكل من يجرحه هذا "المفتشر" أو يهز ثوابته المقدسة، وقد يصيبه بحالة هياج أو ارتباك، آملاً أن يؤدي لدى البعض لإحداث شروخ في جدران الزنازين والثلاجات المعتقلة أو المجمدة فيها عقولهم.
نتحدث جميعاً هذه الأيام عن الإصلاح في مصرنا، التي تدهور حالها مقارنة بأغلب شعوب ودول العالم، لتحتل في معظم قوائم مؤشرات التقدم الإنساني والاقتصادي المرتبة ما بعد المائة. . نشير جميعاً إلى مركز واحد للخلل في حياتنا، صارخين متشنجين منادين بإصلاحه، وهو بالتحديد النظام السياسي، باعتباره قمة الهرم الوطني. . نفعل ذلك استناداً إلى مقولة " تفسد السمكة من رأسها"، وهي مقولة تبدو صحيحة في الحالة المصرية بالتحديد. . فمنذ هبط العسكر بالباراشوت على مصر في يوليو 1952 "وجابوا عاليها واطيها" كما تمنى صلاح ذو الفقار في فيلم "رد قلبي"، بدأ فساد رأس السمكة يتسلل إلى سائر أنحاء جسدها. . لكن إذا كان الجسد قد فسد بالفعل، فهل من الصحيح أيضاً أن "إصلاح السمكة يبدأ من رأسها"؟
هل تستطيع أوليجاركية حاكمة مستنيرة، تحسين أحوال البلاد، بمعزل عن تحقق تغيير وإصلاح جذري لثقافة وأحوال شعب يربو حجمه على الثمانين مليوناً؟
وهل لو حاولت تلك الأوليجاركية البدء بالإصلاح من أعلى، كما سبق لمجموعة "المغامرين الأحرار" بدء الفساد والإفساد من أعلى، ترى هل تنجح في هذا النهج والمسعى؟
أم أن الإصلاح له خط واحد يتجه من أسفل إلى أعلى، فيما الفساد وحده هو الذي من الممكن أن يتجه من أعلى إلى أسفل؟!
الأغلب أن محاولة الإجابة على هذه التساؤلات بطريقة نظرية هي عبث لا طائل من ورائه، فمن الممكن أن نتجادل من الصباح حتى المساء، وكل طرف يتسلح بمقولات منطقية متعادلة القوة، فلا نصل إلى كلمة سواء نتيقن جميعاً من صحتها. . لهذا سوف نحاول تلمس الإجابة من تجربتي إصلاح حديثتين، أولهما لم يكتب لها حتى الآن تعدي طور الطفولة، والأخرى مازالت في طورها الجنيني، ورغم الفارق الظاهري إلى حد التضاد بين التجربتين، إلا أنهما تشتركان في التركيز على الإصلاح بدءاً من القمة:
التجربة الأولى هي الأقدم نسبياً والأقوى بمراحل، لأنها مساندة بالسلطة وأجهزتها وسطوتها، تلك التي بدأها الإصلاحيون فى الحزب الوطنى الديموقراطي، والذين حملوا راية "الفكر الجديد"، وبشَّرونا بأن هذا الفكر سيخلق خلال سنوات قليلة واقعاً مصرياً جديداً، يجعل من مصر كياناً معاصراً وحداثياً، قادراً على المنافسة بقوة في عصر العولمة المفتوح الأبواب، أو الذي أزيلت منه الأبواب والبوابات من الأساس.
بدأ ذلك فى عام ٢٠٠٢، بعد أن أنشأ السيد/ جمال مبارك الأمانة العامة للسياسات لتكون "بيتاً للفكر الجديد"، لتكون هذه الأمانة معقلاً للإصلاحيين فى الحزب، والذين رغم أنهم أقلية صغيرة فيها بحكم العدد، إلا أن وجود نجل رئيس الجمهورية في مركز دائرتهم، كان من المفترض أن يعطيهم تفوقاً في القوة والتأثير لا تدانيه أي قوى أخرى، هذا بالطبع بحسب تصوراتنا التقليدية، والتي تتخيل مقدرات الحياة المصرية كلها، عجينة لينة في قبضة رئيس جمهورية شمولية ومركزية التكوين.
نعم تقدم بعض من هؤلاء الإصلاحيين إلى مواقع السلطة التنفيذية، وحققوا قفزات إصلاحية اقتصادية، لا ينكرها إلا أهل الصياح والهتاف على الأرصفة، لكنها إذا ما قورنت بحجم المأمول عموماً، وبما ورد في أوراق السياسات التي تم تبشيرنا بفجرها بعد ذلك، فإن ما تحقق مقارنة بهذا المأمول لابد وأن يعده أشد المنصفين إخفاقاً.
كان هناك كذلك اتجاه حقيقي لإصلاح الحزب الحاكم وتحديثه، بضخ دماء جديدة وفكراً جديداً فيه، ولكن قوة هذا الاتجاه كانت أضعف من أن تواجه الهيكل التقليدى للحزب، وهو المؤسس ليس على أصحاب رؤى فكرية أو إصلاحية، ربما تختلف بقدر أو بآخر عن تيارنا الجديد، ولكن على أساس تجميع لأصحاب المصالح في التحالف مع السلطة على قمة الهرم السياسي، فيما هم أصحاب السلطة الحقيقية على الأرض في مختلف بقاع الوطن، سواء استمدوا سلطتهم من الأموال وارتباطات المصالح في أقاليمهم، أو على نفوذ العائلات والعصبيات المحلية، أو من سهولة انقياد الجماهير لكل مداهن وغوغائي ينجح في التلاعب بمشاعرها الطفولية أو نزعاتها الدينية.
تبدى فشل "تيار الفكر الجديد" في المواجهة مع القديم الراسخ واضحاً فى أول انتخابات برلمانية يصادفها، إذ خسر معظم مرشحيه أمام قوى الساحة التقليدية، والذين رفضوا الانصياع للترشيحات الحزبية وإخلاء الساحة لها كما تقتضي أصول الانتماء الحزبي، ليضطر الحزب بعد ذلك نتيجة لحصول مرشحي "الإخوان" على 88 مقعداً في المجلس الجديد، إلى ضمهم ثانية للحزب لتأمين أغلبية حاكمة، ليشكل هذا بداية انحسار لدور الإصلاحيين ورسالتهم، التي استندت إلى رؤية صفوة مستنيرة، ولم تجد لها في الشارع المصري وقراه ونجوعه، الأساس المتين لتشكل مسيرة وطنية قوية نحو التغيير الحقيقي، وليس مجرد تغيير الشخوص الحالية، بمن يحملون رؤى متخلفة ومتهوسة، كهؤلاء الذين تعمل حناجرهم في الصراخ الآن بكفاءة عالية!!
فعندما يحذر نائب إخواني وزارة التربية والتعليم المصرية من الإقدام على مراجعة المناهج الدينية بالتعاون مع وزارة الأوقاف، وذلك لتنقيتها من المواد التي تحض على العنف والتطرف، قائلاً أمام مجلس الشعب "إن تغيير المناهج الدراسية خط أحمر"، مضيفاً "نحن لا نعلم أبناءنا ثقافة المحبة وقبول الآخر يجب أن نعود أبناءنا على ثقافة الاستعداد وثقافة الاستنفار وثقافة الشدة على أعدائنا والرحمة على المسلمين.". . هل نستطيع على ضوء هذا أن نبرئ أنفسنا كشعب من مسئولية العجز عن تغيير الحالة الثقافية المتردية وحالة الاحتقان الديني، ونحن من أوصلنا مثل هذا النائب ليقف كالأسد في المجلس التشريعي يقاوم التحديث، الذي تسعى نحوه على استحياء الحكومة التي ننعتها بالمستبدة، فيما نطالبها في نفس الوقت بالمزيد من الديموقراطية؟!!
التجربة الأحدث في الإصلاح، والتي مازالت تطرح نفسها وآمالها علينا، هي تجربة د. البرادعي الواعدة. . لو تأملنا حالها على ضوء واقع الساحة أو الشارع المصري، يمكن أن نرصد العديد من الملامح السلبية، ترجع جميعها إلى أحوال هذه الساحة ذاتها، وليس إلى قوة خارجية قاهرة كبطش النظام الحاكم، كما كان كثيرون يتوقعون في البداية:
*حين وصل البرادعي أرض مصر بعد استدعاء شباب الفيسبوك له، لم يجد إصلاحيين حقيقيين يلتفون حوله، ليشكل مجموعة مستنيرة كتلك التي أتيح لنجل رئيس الجمهورية تشكيلها، وإنما كل ما وجد، أو كل من سارع لاختطافه، هم تقيحات الشارع السياسي المصري، والذين يشكلون الوجه الآخر من عملة السياسية المصرية المتهالكة والبائدة. . ليكون هذا إجهاضاً ناجزاً للمسيرة وهي في طورها الجنيني.
*رغم أنه من المبكر الآن الحكم على مدى قدرة حركة البرادعي على تحريك الأغلبية الصامتة في مصر، إلا أن ما ظهر حتى الآن من تباشير لا يوحي بالتفاؤل، ليس فقط لعيوب هيكلية قاتلة في تكوين ما يعرف بالجمعية الوطنية للتغيير، وفي خطابها الذي لا يُظَن أبداً أنه يمكن أن يحرك تلك القاعدة العريضة المستكينة أبداً، والتي لا تريد بالفعل غير الخبز (واللحم إن أمكن)، ولا مطامح لها في دستور يتيح تبادل سلطة، لأنها محكومة بسيكولوجية الرعية، ولا ترى نفسها إلا في دور المحكوم لا الحاكم. . ولكن أيضاً لانعدام الوعي السياسي في ظل سيادة الأمية، سواء أمية الأبجدية أو أمية الحاصلين على أعلى الشهادات الجامعية، ما يجعل محاولة استنفارها أشبه بالنقش على الماء، أو في أحسن الحالات نحتاً في صخور نارية!!
*نجد ما يسمى "الجبهة الشعبية لحماية مصر"، تتهم فى بيان لها د. البرادعى، بالدعوة لفتح محافل للبهائية والماسونية فى مصر، وتعلن أنها طلبت فتوى من الشيح يوسف البدرى حول رأى الدين فى من يدعو لفتح تلك المحافل، فأكد البدرى أن "الإسلام لا يقبل أن يرقع بمبادئ هدامة ولا دعاوى باطلة، وأن المروج لتلك الأحاديث خارج عن الإسلام ومرتد". . . كما اتهمت الجبهة فى بيانها البرادعى بأنه مدفوع بأجندة خارجية ومخطط "صهيونى"، عبر منظمات ومؤسسات عالمية تقف وراءه. . ثم نضيف إلى ذلك موقف القيادات العمالية من البرادعي، إثر ما صرح به حول وجوب إلغاء نسبة تخصيص 50% من مقاعد مجلس الشعب للعمال والفلاحين. . هؤلاء القيادات مهما كان رأينا فيهم أو تقييمنا لهم، هم الممسكين واقعياً بالساحة العمالية، خاصة وأن الانتخابات النقابية العمالية تجرى الآن بالفعل بنزاهة تامة وشفافية غير قابلة للطعن أو التشكيك كما يحدث في أي انتخابات أخرى. . هؤلاء هم من تنجبهم القاعدة الشعبية، أو بالأصح هم نتاج التربة المصرية. . هنا لا يجب أن ننسى أيضاً موقف قيادات الكنيسة القبطية الأرثوذكسية المتحالف مع نظام انتهى عمره الافتراضي، والمعادي للبرادعي ومسيرته، وهم من يقودون قطاعاً أو قطيعاً لا يستهان به من المصريين، يتميزون بالإيمان الراسخ بأن "ابن الطاعة تحل عليه البركة"، والطاعة هكذا لقداسة البابا المعظم وصحبه مرادفة للإيمان المسيحي، والخارج عن الطاعة والإيمان مصيره جهنم حيث الدود الذي لا يموت والنار التي لا تُطفأ!!
نرجع في النهاية إذن إلى "الكلام بالمفتشر"، وهو أن المشكلة والعقبة أمام تطور مصر ليس حكامها، وإنما ثقافة وطبيعة شعبها وأسلوب حياته وعلاقاته وعاداته وتقاليده. . نشير بالأصابع العشرة وليس بالسبابة فقط إلى هذا الاتجاه، لكي يعمل عليه كل مصلح حقيقي، هذا إن كان لنا من الإصلاح نصيب يتجاوز حدود الأحلام والأوهام!!
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
التعليقات
........................
فاشر المريض -الموضوع ولا إلو أي علاقة بالوضع العام.. قراءتك غير صحيحة لواقع مصر المعاصر..
الكابوس الجاثم
أبو القاسم -تحية وتقدير للكاتب المحترم الاستاذ كمال غبريال. تحليل صائب وتشخيص دقيق للغاية ينم عن إلمام بدقائق الامور التى اختلطت على الكثيرين بفعل التضليل والتخبط وايضا الطيبة الزائدة والبساطة المفرطة. الكثير منا انتهى الى انه مافيش فايدة وأيضا للاسف الى انشاله تتحرق. الأمل معقود على المفكرين القلائل ذوى الضمائر الحية أمثال سيادتك والمستشار سعيد العشماوى لتنويرنا لطريق الخلاص من هذا الكابوس الجاثم.
العب غيرها
سعودي -لا يستحي كثير من الكتاب من تيئيس الناس من الإصلاح و إمكان التغيير ، لو أن التغيير لم يأت بفائدة إلا إزالة الطغمة الحاكمة لكان هذا كافيا .
حكومه تبحث عن شعب
مجدون -بعد 30 سنه حكم صرح الريس المصري في التليفزيون الفرنسي بان الشعب المصري غير موْهل للديمقراطيه وصرح ايضا بعض المسئولين بانه ح يضرب الشعب بالجزمه واحدهم تمني ضرب الشعب بالرصاص !!! ويجزم الكاتب بان المشكله في الشعب وهنا اساله هل الحكومات تختار شعوبها ام العكس يمكن موضه جديده. لم يذكر الكاتب لماذا ارتمي الشعب في حضن الكنيسه والجامع .يا سيدي توجد فجوه بين الحكومه والشعب يسودها عدم الثقه وعدم الاحترام. وياريت يقولنا الكاتب ما هي نوعيه الشعب الذي يريده يكون صناعه صينيه او تايوانيه؟؟؟عندما تفشل حكومه التواصل مع الشعب او تفشل في حل مشاكله عليها الرحيل