فضاء الرأي

حركات الاصلاح الديني والتحديث الاقتصادي في أوربا

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الحركة البروتستانتية
ان الاحداث والتحولات الجديدة التي شهدتها اوربا بعد انهيار علاقات الانتاج الاقطاعية والصراع العنيف بين الدولة والكنيسة كان لها اثرا كبيرا في التفكير الفلسفي والنقد الاجتماعي والسياسي والتحديث الاقتصادي. وكانت اولى الحركات الاصلاحية التي اطاحت بسلطة الكنيسة والكهانة مدعومة من قبل الدولة القومية الجديدة هي الحركة البروتستانتية بقيادة مارتن لوثر(1483-1546) التي قامت وسط اوربا، والحركة الطهرية التي قامت في بريطانيا والأراضي المنخفضة.
والحقيقة فان الدول القومية الجديدة والملوك والأمراء الجدد كانوا يتطلعون الى يوم خلاصهم وتحررهم من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية وأبوتها بسبب ما فرضته عليهم من ضرائب مالية عالية وواجبات كثيرة. وقد بدأ مارتن لوثر بدعوته لإصلاح الدين المسيحي بهجوم شديد على الكنيسة ورجال الدين الذين ادخلوا المفاسد الى الدين المسيحي الاصيل. وكانت حركة الاصلاح الديني في الواقع تعبيرا عن مرحلة الانتقال الى المجتمع البرجوازي الجديد. وقد ساعد الازدهار الاقتصادي في اوربا ووفرة الانتاج وتزايد العمليات التجارية على تطور وسائل النقل والمواصلات البرية والبحرية وازدياد التخصص وتقسيم العمل وسرعة دورة رأس المال الى تراكم الثروة، التي مهدت الطريق الى تشكيل بدايات النظام الرأسمالي.
وكان الملوك والأمراء اندفعوا الى مساندة حركة لوثر الاصلاحية وبخاصة ملك المانيا فريدرك الكبير وذلك بسبب ان الحركة البروتستانتية كانت قد دعت الى مساندة الدولة القومية وشجعت على التجارة والصناعة والتحرر من علاقات الانتاج الاقطاعية القديمة وأعطت في الاخير قيمة جديدة للعمل الدنيوي.

الحركة الكالفينية
وقد اعقبت حركة لوثر الاصلاحية حركة كالفن(1509-1564) الذي اضاف الى آراء لوثر اراء جديدة بدعوته الى المساهمة الفعالة في الحياة الاقتصادية، الى جانب دعوته الى حياة الزهد والتنسك والادخار، كما اباح كالفن مبدأ الربا على الاموال والقروض.
ان اباحة كالفن لمبدأ الربا كون نظرة جديدة الى الحياة الاقتصادية ودفعت رجال الاعمال الى مزيد من النشاط الاقتصادي الدءوب وتراكم الثروات من جهة، الى جانب التنسك والاقتصاد في المعيشة والزهد في الحياة اليومية.
لقد اثار هذا النشاط الاقتصادي الدءوب والاقتصاد في المعيشة والادخار ارتفاع في مستوى الانتاج والتوزيع والتبادل فازدادت النقود وتوسعت المشاريع الاقتصادية الحرة التي ساعدت بدورها على تراكم الثروات وتكوين رؤوس الاموال.
وكان مارتن لوثر دعا مسيحيي المانيا عام 1520 الى مناهضة البابوية والكهانة، لان الله والروح القدس يقفان دوما ضد من نصبوا انفسهم وسطاء بين الله والرعية، فالله لا يسمح لأي انسان ابدا ان يتحكم بالآخرين، اما انقاذ البشر فلا يتم إلا بالإيمان، لان صوت الرب هو وحده الذي يدخل قلوب وضمائر الناس. ومن هنا نفهم لماذا لم يسمح مارتن لوثر لأي انسان بان يسأله ما الذي ينبغي ان يفعله، لان على الانسان ان ينظر الى ما يفعله في الحياة الدنيا، بما يعتقد وما يريد ان يقوم به او يرغب فيه قائلا: "انا لا استطيع تقديم أية مشورة، كما لا استطيع ان ارسم الطريق" (من رسالة لوثر الى يوحنا 20-5-1539). وبهذا وضع لوثر المسؤولية في عنق الانسان، لان "كل فرد مسئول عن نفسه".
تقوم فلسفة لوثر على " الارادة الإلهية" التي حددت مسبقا قيمة الانسان وطبيعة عمله، فّ "الايمان هو كل عمل ايجابي نافع" وهو ما يؤكد عليه الكتاب المقدس.
وقد دعا لوثر الى ان يفكر المؤمنون تفكيرا منطقيا وان يسلكوا سلوكا عقلانيا وان يرفضوا الاعتقاد بالسحر والخرافة. ويسخر من الذين يعتقدون بان الكنيسة تمتلك قوى سحرية. كما وقف امام الاعتقاد بالخلاص عن طريق رحمة السماء. فالعناية الإلهية تتجه نحو الارض، والله هو الذي يمنح الشرعية للنظام الاجتماعي على الارض وليس الكهنة والرهبان.
وكان لوثر اول من بدأ الكتابة باللغة الأم وليس اللغة اللاتينية، كما كانت في الكنائس والجامعات، وأول من كسر الطوق فكتب خطبه باللغة الالمانية.
ان منظومة القيم التي نادى بها لوثر، غيرت مجرى التاريخ الاقتصادي والاجتماعي في اوربا وقامت الى جانب الايمان بالإرادة الالهية، على السيطرة على الذات وانظباط النفس والتحكم بها، لان السلوك الاخلاقي الرشيد ينبغي ان يلتزم بطهارة النفس التي هي طريق الخلاص وعلى البروتستانتي المؤمن ان يتبع مشيئة الرب باعتبارها واجبا دينيا مقدسا، وان الطهارة الروحية التي يمكن ان يتقرب بها الانسان الى الله تكمن في العمل والمثابرة وبدون كلل او تذمر، لان العمل عند الله هو الخدمة التي يمكن ان يقدمها البروتستانتي الى الرب".اما الخلاص المنشود فيتمثل بالنجاح في العمل، لأنه امتياز من الرب ونعمة إلهية منه، فيما الاسراف في الاموال من دون سبب يعتبر خطيئة لا تغتفر.
هذه القيم شكلت الذهنية الاخلاقية التي دعا اليها لوثر ومن بعده كالفن، الذي اضاف اليها وطورها بحيث اصبحت "روحا " للنظام الرأسمالي في اوربا، وبهذه الذهنية ايضا وضع لوثر المبادئ الأولية "لعقلانية" أوربية حملت فيما بعد، رؤية جديدة للعالم، حيث قدمت "الكتاب المقدس" بشكل عقلاني جديد، ناهض الشعوذة والأباطيل التي دخلت الى " المسيحية الاصلية".
وكانت الحركة البروتستانتية ظهرت اولا في هولندا والمانيا ثم في اسكوتلندا وبريطانيا ثانيا، ومنها انتقلت الى امريكا بعد ظهور الحركة الكالفينية. وحسب ماكس فيبر، فان السلوك العقلاني الرشيد كان عاملا مهما استطاعت اوربا بموجبه ان تصل الى ما احرزته من تقدم اقتصادي و" خصوصية"، لان "روح الرأسمالية" لا يمكن فهمها إلا بوصفها جزءا من تطور العقلانية الاوربية ونموها، والتي يمكن استنتاجها من موقفها من الحياة المهنية ونظرتها الى العمل الذي يرتبط بانشغال الانسان الدائم في كسب الربح، بحيث اصبح الربح والسعي المتواصل الى تراكم الثروة هو الغاية القصوى في حياة البروتستانتي، اذ الحياة لا تعرف إلا بالعمل الدءوب والانجاز، والقلق المستمر للوصول الى اقصى حد من الربح وفي اقصر وقت ممكن، وهذا يتطلب كفاءة متناهية وسلوكا عقلانيا يقيم الاشياء بحسابات تجارية وتنبؤات بتصرفات الآخرين، مثلما يقوم على اقصى تقديم على اقصى تقدير من الدقة والصدق والاستقامة في العمل وكذلك الابتكار والتلاؤم مع الظروف المستجدة، بحيث تصبح قيم الربح لا جشعا، على حد تعبير فيبر، فالجشع امر غير عقلي، وهو صفة المجتمعات المتخلفة. اما الجشع من اجل هدف عملي، كتجميع الثروة ومراكمتها تراكما افضل عن طريق العمل العقلاني الرشيد، فهو هدف اخلاقي. بهذه الذهنية، كما يقول ماكس فيبر، استطاعت اوربا ان تحرز تقدما اقتصاديا وتطورا مستمرا في المشروع الرأسمالي الحر.

الصراع بين العلم والكنيسة
اما على المستوى الفكري والثقافي فقد افرز الصراع بين العلم والكنيسة حركة تحرر وانعتاق من سلطة الكنيسة وأفكارها الكهنوتية. وظهر هذا التحرر بوضوح في وضع اراء ومبادئ المنطق الارسطي الشكلي موضع النقد والتجريح، بعد ان كان المخالف لآراء الكنيسة ومنطق ارسطو، يعتبر ملحدا وزنديقا. كما بدأ العلماء بتحكيم العقل فيما يعرض لهم من مسائل، واخذوا ينظرون الى الامور نظرة اكثر واقعية وموضوعية. وهكذا بدأ العلماء يستخدمون الملاحظة العلمية ويجرون التجارب العلمية الدقيقة لقياس صحة المعلومات وموضوعيتها. وكان من اهم العلماء الذين ارسوا دعائم التفكير العلمي هو روجر بيكون(1214-1294) الذي دعا الى استخدام الملاحظة العلمية عن طريق وضع الفروض للوصول الى الحقائق العلمية. وقد اكد بيكون على ثلاثة طرق يمكن ان توصل العلماء الى المعرفة العلمية: -
اولا: يمكن الاخذ بأقوال رجال الدين اذا تم التحقق من صدقها وقبولها بالعقل.
ثانيا: انه ليس للاستدلال القياسي من قيمة علمية مهما بدت نتائجه محتملة للصدق ما لم يتم التحقق من صدق هذه النتائج.
وثالثا فان التجربة العلمية تكفي نفسها بنفسها.
اما ليوناردو دافنشي فقد نادى بضرورة الحذر من الخيال الذي لا يعتمد على الملاحظة الدقيقة وأكد على ضرورة الاعتماد على التجربة في البحوث العلمية لأنها تؤدي الى نتائج دقيقة. ثم جاء كتاب سرفانتس "دون كيشوت " لينتقد فيه عادات وتقاليد العصور الوسطى ويسخر من النبلاء والأمراء الاقطاعيين.
ومع ان اغلب الآراء والمبادئ العلمية التي ظهرت في هذه المرحلة لم تطبق في الواقع ولم تستخدم في العلوم، لان اغلب هؤلاء العلماء والمفكرين ظلوا متأرجحين بين منهج القياس ومنهج الاستقراء، فقد انفصل العلم والمعرفة عن الكنيسة وتغيرت النظرة التشاؤمية التي طبعت الفكر الاجتماعي في العصور الوسطى الى نظرة تفاؤلية، وازدهرت الحياة العقلية والفكرية وتطورت العلوم والفنون والآداب وكونت بداية لنهضة أوربية واسعة سميت فيما بعد بعصر النهضة.
ومنذ ذلك الوقت بدأت القطيعة بين العلم والكنيسة وأخذت النظرة التشاؤمية، التي طبعت الفكر الاجتماعي والفلسفي في العصور الوسطى، بالتغير والتحول تدريجيا الى نظرة تفاؤلية.
كما ساعدت الحركة الانسانية في الآداب والفنون على نمو النظرة التفاؤلية التي اهتمت بالجوانب الفكرية والفلسفية ومثلت نزعة انثروبولوجية تؤكد على ان الانسان هو معيار كل شيء، وان الطبيعة البشرية هي مصدر القيم. وبذلك مثلت الحركة الانسانية تمردا فكريا ودعوة ضد قمع حرية الانسان وإرادته ورفضا لقيم وتقاليد العصور الوسطى وروحها التشاؤمية، وبذلك اصبح النقد يعني عملية اصدار الاحكام الصحيحة التي تستند على معلومات حقيقية تتعلق بالتحقق من النصوص الكلاسيكية وبخاصة الكتب المقدسة.
ومن الناحية العلمية فقد عززت ثورة كوبر نيكوس وما اعقبها من اكتشافات علمية الصورة الجامدة للعصور الوسطى وتغيير صورة العصر التي تمثلت في اكتشافه بان الارض هي كوكب يدور حول الشمس مثل الكواكب الاخرى، وهذا يتنافى مع ما كان سائدا من اعتقاد من ان الارض هي مركز الكون وان الكواكب تدور حولها.
ان خطورة هذه النظرية لا تكمن في كونها مجرد افكار علمية جديدة فحسب، بل في احداثها صدمة قوية لإنسان ذلك العصر، فأدارت رأسه وقلبت تفكيره ومعتقداته وجعلته يشك في ما حوله. كما احدث كبلر وغاليلو في ابحاثهم العلمية في الفلك ونيوتن في الجاذبية، ثورة علمية كبيرة. كما استطاع بيكون التعبير عن هذه الثورة بمنهج بحث علمي عبر عن روح العصر والنهضة العلمية التي احدثت انقلابا فكريا في نظرة الانسان الى الطبيعة والكون والمجتمع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
nero
nero -

الاصلاح الديني والتحديث الاقتصادي في أوربا تقودها المجلات الاجتماعيه و المجلات المهنيه مثال مجله عن الكمبيوتر خليجيه كانت تعلم فى باب البرامج و باب اخر تعطى فكره عن احدث برامج و تشغيلها و ليس تعليمها

nero
nero -

الاصلاح الديني والتحديث الاقتصادي في أوربا تقودها المجلات الاجتماعيه و المجلات المهنيه مثال مجله عن الكمبيوتر خليجيه كانت تعلم فى باب البرامج و باب اخر تعطى فكره عن احدث برامج و تشغيلها و ليس تعليمها