فضاء الرأي

اقتصاد الطب بين الرعاية الصحية والمرضية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

من مفكرة سفير عربي في اليابان

طور التقدم العلمي والتكنولوجي في القرن العشرين الرعاية الصحية، فقلت الأمراض الوبائية وتحسنت علاجات الأمراض المزمنة اللاوبائية، مما أدى لخفض نسب وفيات الرضع، ورفع متوسط العمر، وزيادة نسب المسنين. فقد أرتفع متوسط العمر في دول الغرب لما يقارب الثمانين، وزاد نسب المسنين (أكثر من 65 سنة) لحوالي خمس السكان، ومن المتوقع في القرن الواحد والعشرين أن يرتفع متوسط العمر في هذه الدول إلى 95 سنة، ويزداد نسب المسنين فيها لحوالي 40%، وسيترافق ذلك بزيادة أمرض الشرايين والسرطانات، وارتفاع كلفة الرعاية الصحية، لتستنزف أكثر من ربع الناتج المحلي الإجمالي. وتحاول هذه الدول القيام بإصلاحات تزيد من تغطية الرعاية الصحية وتقلل الكلفة، كما بدأت دول منطقة الشرق الأوسط الاستفادة من تجربة الغرب لخصخصة رعايتها الصحية، لزيادة كفاءتها، وخفض كلفتها، ورفع المسئولية الحكومية عن تقديم خدماتها، لتتفرغ لتنظيمها، وتضمن توفرها بكفاءة عالية لجميع مواطنيها. ويبقى السؤال المحير هل فعلا ستحل الخصخصة التحديات الاقتصادية للرعاية الصحية؟ وهل هناك طريقة لإنجاح هذه المحاولة في الدول النامية؟
تتوجه دول منطقة الشرق الأوسط لخصخصة خدماتها الصحية كجزء من إصلاحاتها الاقتصادية، وهي تراقب بحذر التحديات الكبيرة التي تعاني منها الولايات المتحدة في ميزانية خدماتها الصحية، والتي تعتبر النموذج الرأسمالي للخصخصة، وخاصة بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، واختفاء نظرياته الاشتراكية. فقد تجاوزت تكلفة الرعاية الصحية في الولايات المتحدة 16% من إنتاجها المحلي الإجمالي، بالرغم من أن هناك أكثر من ستة وأربعين مليون مواطن لا يستطيعون تغطية كلفة التأمين الصحي الخاص، بالإضافة لعدم فعالية الرعاية الوقائية، حيث أن هناك تزايد كبير في نسب الأمراض المزمنة اللاوبائية بسبب البدانة وزيادة الوزن والتي تتجاوز 60% من السكان. وقد لفت نظري تعليق أحد مسئولي الرعاية الصحية الأولية في الولايات المتحدة لتلفزيون السي. إن. إن. بقوله: "ما يسمى بالرعاية الصحية في الولايات المتحدة ما هي في الحقيقة إلا رعاية مرضية، ولذلك يواجه الرئيس أوباما في إصلاحاته الصحية تحديات جمة." فما المقصود بالرعاية المرضية؟ وما هي رسالة هذا المسئول الأمريكي؟
يبدو لي بأن رسالة هذا المسئول الأمريكي مهمة جدا لدول الشرق الأوسط، التي تحاول أن تحقق إصلاحات ناجحة في خدماتها الصحية، والتي عليها أن تقرر نموذج الإصلاح المناسب لواقعها وظروفها، وخاصة بأن هناك نماذج مختلفة في الدول المتقدمة، والتي من أهمها نموذج الخدمات الصحية الحكومية المجانية في المملكة المتحدة، ونموذج الرعاية الصحية الشاملة بالتأمين الحكومي والخاص في فرنسا واليابان، ونموذج الرعاية "المرضية" بالتأمين الخاص في الولايات المتحدة. فيوفر النظام الصحي البريطاني رعاية وقائية متميزة، وخدمات علاجية مجانية جيدة، وتغطي مصاريفه من جمع الضرائب، وتكلف 8.5% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، والتي أدت لخفض وفيات الرضع إلى 5 لكل مائة ألف، وزيادة متوسط العمر إلى 79 سنة. وتعتبر الرعاية الصحية الفرنسية النموذج الأمثل حسب تقييم منظمة الصحة العالمية، حيث تعتبر الأولى في خدمات الرعاية الصحية الشاملة الوقائية والعلاجية، وتكلف 11% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وأدت لخفض نسبة وفيات الرضع إلى 3.8 لكل مائة ألف، ورفعت متوسط العمر إلى 80 سنة. وتتميز الرعاية الصحية الفرنسية بمشاركة متناغمة ومسئولة بين القطاع العام والخاص، فتوفر الدولة الرعاية الصحية الوقائية، وتضمن التأمين الصحي الشامل لمواطنيها، بينما تحتاج للقطاع الخاص في توفير الرعاية الصحية العلاجية، وتحت إشراف وقوانين الدولة. وتتميز الرعاية الصحية في اليابان باهتمامها بالوقاية، وتغطى تكلفة تأمينها الحكومي والخاص من ضرائب الرعاية الصحية، وبإشراف الدولة، وتقدر تكلفتها 8% من قيمة الناتج المحلي الإجمالي، وقد أدت لخفض نسبة الوفيات إلى 2.6 لكل مائة ألف، وزيادة متوسط العمر إلى 82 سنة.
وقد نحتاج لفهم التحديات المستقبلية لتكلفة الرعاية الصحية دراسة التجربة الأمريكية، والتي تعتمد أساسا على القطاع الخاص، وتعاني من ارتفاع كلفتها على اقتصاد الدولة. فتكلف إدارة التأمين الصحي الخاص 33 بنسا من كل دولار يصرف على الرعاية الصحية، وتزيد التعويضات الهائلة للأخطاء الطبية من هذه الكلفة، والتي تؤدي لممارسة الطب الدفاعي بزيادة الفحوصات المكلفة الغير ضرورية، لحماية الطبيب من الشكاوي القانونية، والتي تزيد من إجمالي كلفة الرعاية الصحية. كما تعاني الرعاية الصحية الوقائية والأولية الكثير من التحديات، حيث يركز التأمين الصحي الخاص، أساسا، على الرعاية المرضية في المستشفيات. وقد نجح الرئيس أوباما أن يدفع بالنواب لتمرير إصلاحاته الصحية من خلال مشروع للكونجرس، والذي اختلفت القوى السياسية حول أهدافه. فقد كان هدف الديمقراطيون من خلال هذا المشروع توفير الرعاية الصحية لملايين المواطنين المحرومين من التأمين الصحي الخاص، ووضع تشريعات تمنع شركات التأمين الصحي من الاحتكار والاستغلال، وعدم رفض تأمين المرضى المصابين بالأمراض المزمنة، بالإضافة إلى توفير تأمين صحي خاص من خلال ضمان حكومي لمن لا يستطيع تغطية تكلفة الـتأمين الصحي الخاص. بينما حاول الجمهوريون منع تدخل الحكومة في الرعاية الصحية، وطالبوا بزيادة المنافسة في سوق التأمين الصحي، لخفض الأسعار، وزيادة التغطية، والمحافظة على كفاءة الأداء، ورفضوا القيود التي تنظمها، والتي اعتبروها سببا لزيادة البيروقراطية الحكومية، كما أصروا على خفض ديون الدولة، بوقف زيادة الصرف على الرعاية الصحية. فمرة أخرى نرجع لصراع الأيديولوجيات، ففريق يؤمن بحكومة فاعلة، ورأسمالية ذو مسئولية مجتمعية، تجمع بين اليد الخفية لآدم سميث، واليد المرئية الملزمة للأنظمة والقوانين، بينما يعتقد الفريق الآخر برأسمالية السوق المتحررة من قيود أنظمة وقوانين الدولة، بل تعتبر الحكومة سبب مشاكل المجتمع، وليست وسيلة لحلها.
فباختصار شديد، تعاني الولايات المتحدة من تحديات تصاعد كلفة الرعاية الصحية، بسبب تحديات الرعاية الوقائية، وزيادة كلفة التشخيصات التكنولوجية والعلاجات الدوائية والجراحية، وارتفاع كلفة تأمين الأطباء على الأخطاء الطبية، وزيادة نسبة السرطانات وأمراض الشرايين، بسبب الخمول وزيادة الوزن وارتفاع متوسط العمر، بالإضافة لتكلفة مصاريف أدارة التأمين الصحي الخاص. والتحدي الكبير الذي تعاني منه هو أن التأمين الخاص حول الرعاية الصحية لتجارة السوق، وفي هذه التجارة تزداد الربحية كلما ارتفعت نسب الأمراض، وزاد عدد المرضى، لتصبح فكرة الوقاية خير من العلاج فكرة مفلسة لشركات الرعاية المرضية. فالوقاية تخفض نسب الأمراض، وخفض نسب الأمراض تترافق بقلة المرضى، وقلة المرضى تؤدي لقلة الربحية، وخسارة الشركات المالكة للمستشفيات. كما أن شركات الرعاية المرضية هي شركات مساهمة، ومساهموها يستثمرون أموالهم أيضا في شركات الكحول والتبغ والأغذية والحلويات والمطاعم، بالإضافة لمساهمتهم في شركات صناعة الأدوية والأجهزة الطبية، وشركات الدعاية والإعلام، التي تروج لهذه المنتجات، كما توفر البرامج التلفزيونية والدعايات الشيقة، والتي تشغل المواطن متوسط أربع ساعات يوميا بدون نشاط أو حركة، والتي تتعارض ربحيتها جميعا مع نظريات الوقاية الصحية. بل كلما زاد التدخين والشرب والأكل ومشاهدة التلفزيون، زادت البدانة والسرطانات وأمراض السكري والكولسترول وجلطة القلب والشلل الدماغي، لتزداد الحاجة للمستشفيات والأجهزة الطبية والأدوية، فترتفع ربحية مختلف هذه الشركات.
فتلاحظ عزيزي القارئ مدى ارتباط رأسمالية السوق الحرة "المنفلتة" بالربحية في الرعاية الصحية، والتي أدت لتحولها لرعاية مرضية، أي كلما زادت الأمراض كلما زادت الأرباح، بينما أصبحت فلسفة "أوقية وقاية خير من قنطار علاج" فلسفة بالية في هذه السوق. والمشكلة التي بدأ يعاني منها العالم، هو أن الكثير من الحكومات قامت مؤخرا بخصخصة الرعاية المرضية، لتتخلص من مسئوليتها المعقدة وتكلفتها الكبيرة، ولتتطور كفاءتها وأدائها، وتناست بأن هذه الخصخصة لا تغطي الرعاية الصحية الوقائية. ومع اختفاء الاهتمام بالرعاية الصحية الوقائية، ستزداد نسب الأمراض في المجتمع، وستتأخر تشخيصها وعلاجها، وبذلك ترتفع كلفة الرعاية المرضية، وسيتجنب محدودو الدخل مراجعة الأطباء مبكرا، ليتأخر التشخيص فتزداد مضاعفات الأمراض وتكلفة علاجها، ويبقى المواطنون، قليلو الدخل، محرومون من الرعاية الصحية، لتزداد الأمراض في المجتمع، وتنتشر عدواها، وتقل الإنتاجية ويتضرر الاقتصاد، فيزداد الفقر، ويترافق بزيادة الغضب والحقد بين أفراد الشعب، وترتفع نسب الأمراض النفسية، وتنتشر مظاهر العنف والجريمة، ليضطرب الأمن والاستقرار في المجتمع، ولتتضاعف كلفة معالجة هذه التحديات الكثيرة والخطيرة.
وقد تكون اليابان نموذجا شرقيا متميزا للرعاية الصحية الوقائية والعلاجية الشاملة، والتي يمكن الاستفادة منها في تطوير الرعاية الصحية في منطقة الشرق الأوسط. فقد بدأت تطوير رعايتها الصحية في عصر الإمبراطور الإصلاحي "ميجي" في منتصف القرن التاسع عشر، وحاولت الاستفادة من جميع تجارب الدول المتقدمة، فطورت رعاية المستشفيات من خلال نجاحات التجربة الألمانية، وطورت الطب الوقائي من خلال التجربة البريطانية، وطورت تكنولوجيتها الطبية من خلال التجربة الأمريكية. كما طورت سوق الرعاية الصحية بالجمع بين حرية السوق في تطوير تكنولوجيات الرعاية الصحية التشخيصية والدوائية والجراحية، وتوفير رعاية وقائية متميزة بالتعاون مع المواطنين والقطاع الخاص، بوضع أنظمة تقلل من نسب السكر والشحوم والسعرات الحرارية في الأطعمة، وتحدد حجم الوجبات المقدمة في المطاعم، ومحاولة خفض استهلاك الكحول، وخفض نسبة النيكوتين في التبغ، وزيادة كفاءة استخدام الطاقة القليلة التلوث، وتشجيع المواطنين على الحركة. كما اهتمت اليابان بتطوير رأسمالية بمسئولية اجتماعية، فوفرت لمواطنيها سوق منظمة بالقوانين والأنظمة، لكي يبدعوا في اختراعاتهم، ويصنعوها لمنتجات مربحة، ليحسنوا أوضاعهم المعيشية، ويطوروا اقتصاد بلادهم. وقد وعت اليابان لخطورة السوق الحرة "المنفلتة"، واحتمال فشل الكثير من المواطنين فيها، بفقد وظائفهم وعدم تمكنهم توفير الرعاية الصحية لعائلاتهم. لذلك حاولت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية أن توفر العمل الدائم لمواطنيها، مع التعليم والتدريب والرعاية الوقائية والعلاجية وتأمين التعطل والتقاعد، وذلك بالتعاون المتناغم بين القطاع العام والخاص. وقد أدى ذلك لخلق مجتمع وئام وسلام، ليتفرغ الجميع للعمل بتفاني وإخلاص لخدمة وطنهم وإمبراطورهم، وقد حولت هذه الرأسمالية المسئولة اليابان لمجتمع الطبقة الوسطى، فأنكمش تباين الثراء بين أفراد الشعب، ليرتفع متوسط دخلهم، ولتقل نسب الفقر والجريمة، وليؤدي كل ذلك لخفض نسب وفيات الرضع وزيادة متوسط العمر، والذي أدى لظهور تحديات جديدة للرعاية الصحية. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف