"الأكسودس" ودبلوماسية الإعلام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لم تختلف الصحف اليابانية عن مثيلاتها في دول العالم بنشر حوارات وتحليلات متباينة حول طريقة تعامل البحرية الإسرائيلية مع "الفلوتيلا"، في نهاية شهر مايو الماضي. فلنرجع الذاكرة بهذه الحادثة، لتاريخ الحرب العالمية الثانية، وسفينة "الإكسودس" التي سافرت من فرنسا متجهة إلى فلسطين، وبها مهاجرين يهود، ناجين من المحرقة النازية، لفهم ما وراء هذه المحاولة الذكية لرفع الحصار، والتي نستها الدولة العبرية. وخير ما قرأت من نقاشات في الصحافة العالمية، هو تحليل كتبه المفكر الإستراتيجي الأمريكي جورج فريدمان في صحيفة، ستراتفورت الإلكترونية.
في الثلاثين من شهر مايو الماضي، اعترضت البحرية الإسرائيلية سفينة تابعة لمنظمة مدنية تركية تنقل مساعدات إنسانية لغزة، وطلبت منها التوجه للموانئ الإسرائيلية. وقد رفضت المنظمة التركية الطلب الإسرائيلي، وأصرت على التوجه نحو غزة، فنزل جنود البحرية الإسرائيلية على متن السفينة، لتنتهي بمواجهة حادة وجرح وقتل العديد من المسافرين والجنود. وقد اتهم نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، داني أيلون، البعثة، بمحاولتها استفزاز الإسرائيليين. "وطبعا هذه حقيقة مؤكدة، فقد صممت البعثة لأن تؤكد للعالم بأن الإسرائيليين وحوش لاعقلانيين، وتمنت أن تستفز إسرائيل لتصرف متطرف، لينفر المجتمع الدولي منها، ويدفعوا بإسفين بين العلاقات الأمريكية الإسرائيلية، بالإضافة إشعال أزمة سياسية في إسرائيل." ومن المفروض أن تتجنب إسرائيل السقوط في شبكة الاستفزاز هذه، وتمنع الصدى السياسي لها، وبالعكس قررت أن تبرز عضلاتها، لاعتقادها بأن التنازل سيجلي الضعف، ويشجع سفن أخرى للإبحار لغزة.
لقد نشر ليون اورس، في الخمسينيات، كتاب بعنوان، "الإكسودس"، وتعني الهجرة، يعالج قصة أثار الصهاينة فيها شعوب العالم ضد البريطانيين، في الحرب العالمية الثانية، حينما حاولت بريطانيا السيطرة على الهجرة اليهودية لفلسطين، وكانت توقف المهاجرين وتنقلهم لمعسكراتها في قبرص. فقام الصهاينة بتخطيط حملة دعائية ضد البريطانيين، بتصوير أعلامي واسع لهروب مجموعة من الأطفال اليهود في سفينة سميت "بالإكسودس"، وحينما أوقفت الحربية البريطانية السفينة ورجعتها لمعسكراتها في قبرص، قام الأطفال بالإضراب عن الطعام، وكان قصد الصهاينة من ذلك، إبراز البريطانيين كوحش يكملون مآسي النازية، ليقتلوا الأطفال جوعا. وقد فرضت هذه الرواية الإعلامية على البريطانيين السماح للسفينة للرجوع لفلسطين، ولمراجعة بريطانيا سياسات الهجرة، كما أدت لتنازلها عن انتداب فلسطين، وتحويل مسئوليتها للأمم المتحدة.
لقد كان الهدف الصهيوني من سفينة الهجرة، هي صورة دعائية لحرب بريطانيا ضد اليهود، لخلق تعاطف الشعب البريطاني وباقي شعوب العالم لقضيتهم، وربط ما عانوه من المحرقة النازية، بما يعانونه من عذاب المعسكرات البريطانية. وبأن نضال اليهود، ما هو إلا جزء من النضال القومي ضد السياسات البريطانية النازية، للمحافظة على إمبراطوريتهم العظمى. وصورت اليهود بأنهم يناضلون ضد الإمبريالية، ويحاربون البريطانيين كما حاربوهم الأمريكيون من قبل. وكانت هذه الإستراتيجية بارعة، فبالتركيز على اليهود كضحايا، والبريطانيين كنازيين، فقد حدد الصهاينة المعركة بأنها ضد البريطانيين والعرب، كلاعبين دور المرحلة الثانية من المحرقة النازية، كما صوروا البريطانيين بأنهم مساندون للعرب لأسباب اقتصادية وإمبريالية، وبدون أي اعتبار لأحياء المحرقة. ولم يكن الهدف في ذلك الوقت تشويه سمعة العرب، بل تشويه سمعة البريطانيين، وتصوير اليهود كالمجموعات القومية المناضلة الأخرى، سواء في الهند أو مصر، ثائرون على الاستعمار البريطاني. ولم يكن من المهم صحة أو كذب هذه الصورة، فلم تكن القضية الفلسطينية مفهومة للعالم، كما لم تكن موضوع مباشر مقلق لمصالحهم، "بل كان هدف الصهاينة تشكيل إدراك شعوب العالم، وبمحدودة الرغبة، لفهم القضية بطريقة تملئ الصهيونية فراغاتها بروايتهم، وقد نجحوا."
ويرجع نجاح سفينة الهجرة لواقعية سياسية، وهي إنه حينما تكون المعلومة محدودة، والرغبة لمعرفة الوقائع المعقدة معدومة، يمكن أن يشكل الرأي العام من يستطيع أن يخلق الصورة الأقوى، وعادة تتبع الحكومات شعوبها في القضايا الغير أساسية، فبتشكيل معارك الإدراك الشعبي، من الممكن أن تدفع الحكومات لتغير مواقفها، وبهذه الطريقة نجح الصهاينة في تشكيل القرارات الحكومية في كثير من دول العالم. فلم تكن مهمة صحة الرواية أو كذبها، بل كان المهم القدرة على التعرف على الضحية والمعتدي، بحيث يمكن دفع الرأي العام لحكومة لندن، والحكومات الأخرى التي لم تكن متورطة مباشرة في القضية الفلسطينية، أن تتخذ موقفا سياسيا في صالح الصهاينة. ومن هنا نحتاج النظر للسفن التركية، ومن خلال نفس الزاوية.
لقد كرر الفلسطينيون بأنهم ضحايا الاحتلال الإسرائيلي، وبأن إسرائيل اختراع الإمبريالية البريطانية والأمريكية. ولم يركزوا منذ عام 1967 على الوجود الإسرائيلي، بقدر تركيزهم على معاناة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. ومنذ خلاف حماس وفتح، وحرب غزة، كان التركيز على مواطني غزة، كصورة لضحايا العنف الإسرائيلي، فحاولت حملتهم الإعلامية بتشكيل إدراك عالمي، بتصوير الفلسطينيين ضحايا العنف الإسرائيلي. "وبقدر ما نجحت الحملة الدعائية السلمية، لم تثمر محاولات العنف ضد إسرائيل، بالطريقة التي تمت بها، من اختطاف الطائرات، وقذف الأطفال للحجارة، والقنابل الانتحارية، والتي تعارضت مع حملتهم الدعائية الناجحة." فقد استفادت إسرائيل من ذلك العنف لاتهام الفلسطينيين باللاإنسانية، بل استخدمته عذرا لفرض الحصار على غزة. ومع أن الفلسطينيون استطاعوا أن يشوهوا صورة إسرائيل أمام الرأي العام العالمي، ولكنهم أعطوا الإسرائيليين الفرصة لقلب الطاولة عليهم، وهنا تأتي أزمة السفن التركية.
فقد حاولت السفن التركية أن تنسخ صورة سفينة "الإكسودس" اليهودية، أو بالأحرى أن تبرز صورة عولمة لإسرائيل، بنفس الطريقة التي حاول الصهاينة أن يصوروا العالم عن أنفسهم. وتصوير الصهاينة لمشكلتهم، ليست بمستوى معضلة غزة، بل هي أكبر مما يحاول الفلسطينيون تصويرها، ولكنها كالصورة الصهيونية لعام 1947، التي لم تكن دراسة تحليلية للأزمة، بل سلاح سياسي صمم لتعريف الإدراك بالأزمة. فلم تصمم السفن التركية لنقل رسالة أخلاقية، بل صمتت لتحقيق انشقاق بين إسرائيل والحكومات الغربية، وذلك بتغير الرأي العام الغربي ضد إسرائيل، بالإضافة لخلق أزمة في إسرائيل. "ولا شك من المهم لإسرائيل أن تنجح في تصوير أزمة السفن التركية بتطرف جهادي، ومهما تكن النتائج، فقد خلقت هذه الأزمة صورة لإسرائيل مدمرة لمصالحها السياسية، وستزداد عزلتها دوليا بزيادة الضغط على علاقاتها مع أوروبا والولايات المتحدة."
ففي الدول الغربية يكون السياسيون عادة حساسون جدا للرأي العام، ومن الصعب أن نتصور اليوم رأي شعبي يعتبر إسرائيل ضحية، فقد فضل الرأي العام الغربي، أن تسمح إسرائيل بوصول السفن التركية لغزة، وتجنب المواجهة الدموية. وسيشعل أعداء إسرائيل الأزمة، وذلك باتهامها بمفاضلة العنف الدموي على الحلول السلمية، ليتحول الرأي العام الغربي ضدها، ولتنجرف القيادات الغربية مع رأي شعوبها ضد إسرائيل. كما أساءت هذه الأزمة للعلاقة الإستراتيجية بين إسرائيل وتركيا، والتي هي حليف تاريخي لها في العالم الإسلامي، وتتعاون معها عسكريا منذ فترة طويلة، وتشتري منها أسلحة بمليارات الدولارات. وتحاول الحكومة التركية التخلص من هذه العلاقة المحرجة لها في العالم الإسلامي، ولكنها تواجه مقاومة كبيرة من الجيش التركي والعلمانيين، وقد يسهل التصرف الإسرائيلي الأخير على الحكومة التركية محاولة قطع علاقاتها، والتي تجدها خطوة ضرورية لسمعة انقره.
وبما أن سكان إسرائيل لا يزيدون عن سكان مدينة هوستون، بولاية تكساس الأمريكية، فهي صغيرة لتحمل عزلة دولية، ويعني ذلك بأن هذه الأزمة لها تبعات سياسية جغرافية. ويكون الرأي العام عادة مؤثر، حينما تكون هناك قضية غير أساسية لمصلحة الأمة، فإسرائيل ليست مهمة لمصالح الأمم الأخرى، وبخلق تعاطف عام ضد إسرائيل، ستتشكل العلاقات المستقبلية لدول أساسية مرتبطة بالمصالح الإسرائيلية. وقد نلاحظ مستقبلا بأنه بتغيير الرأي العام الأمريكي، سيفتح الطريق لعلاقة أمريكية إسرائيلية مختلفة ومضرة لإسرائيل. وقد يصرخ الإسرائيليون بالظلم ضدهم، فمثل البريطانيون سيفكرون في صحة منطقية كل طرف، ولكن ستكون الحقيقة في المنطق الذي سيستمع له الرأي العام الغربي.
والحروب الإعلامية، كمعارك الدبابات وضرب الطائرات، لا علاقة لها بالعدل، بل مرتبطة بالسيطرة على إدراك الرأي العام، واستخدام ذلك بذكاء لتشكيل السياسة الخارجية العالمية. وسيكون السؤال المهم في قضية السفن التركية: هل كان هناك داعي للقتل؟ ولا شك بأن هذه الأزمة ستشعل عاصفة نارية دوليا، وأكيدا ستقطع تركيا بعض تعاونها مع إسرائيل، وسيزداد الرأي العام في أوروبا صلابة ضدها، كما قد يتحول الرأي العام الأمريكي لموقف جديد، "طاعون على كلا البيتين". ومع أن التفاعل الدولي ممكن تنبؤه، ولكن يبقى السؤال: هل ستؤدي هذه التطورات لأزمة سياسية في داخل إسرائيل؟
والحقيقة كلما زادت إسرائيل إصرارها وتطرفها، كلما حققت السفن التركية أهدافها بنجاح، وكما يعرفه الصهاينة من خبرتهم في عام 1947، والذي بدأ يتعلمه الفلسطينيون منهم، يحتاج عادة السيطرة على الرأي العام الحذاقة، ورواية مختارة، والاستخفاف بعقول الآخرين. وكما يعرف الإسرائيليون بأن خسارة المعركة ستكون كارثية، فكلفت بريطانيا الانتداب وسمحت لإسرائيل بالبقاء، واليوم أعدائها يقلبون الطاولة عليها، وقد نجحت محاولتهم، فهي مؤثرة أكثر من قنابلهم الانتحارية وانتفاضتهم، في تحدي الإدراك والرأي العام ضد صالح إسرائيل، وستغير الجيوبوليتكس، إذا تجنب الفلسطينيون أساليبهم القديمة. وتقع إسرائيل الآن في مياه مجهولة، ولا تعرف كيف تتعامل مع هذه الأزمة، وليس واضح كيف سيستفيد الفلسطينيون منها أيضا، ومع ذلك فالمعركة صعب السيطرة عليها، وقد تأتي المرحلة القادمة المطالبة لمقاطعة إسرائيل. كما ستكون التهديدات الإسرائيلية ضد إيران لها معنى آخر، والصورة التي رسمتها إسرائيل لإيران ستكون أقل إقناعا للعالم، وسيؤدي كل ذلك لأزمة سياسية إسرائيلية، فلو بقت الحكومة الحالية ستنغلق في حرية التصرف مع عزلة دولية، ولو سقطت ستدخل إسرائيل في مرحلة محلية مجهولة، وفي الحالتين حققت السفن التركية إستراتيجيتها المرسومة، فدفعت بالبحرية الإسرائيلية لضربة عنف ضد بلادها، لتنتهي ضربة العنف هذه في قلب إسرائيل. ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان