التحليل القانوني لمعاهدة ستارت الجديدة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تعد مسالة تقييد استخدام السلاح النووي من الأمور ذات الاهتمام القانوني والسياسي المشترك نظرا لما تمثله هذه الأسلحة من أهمية في ميدان الحروب وتشكل الاسلحة النووية احد البرامج التي تنظر إليها الدول والمنظمات الدولية على أنها سلاح فعال يخدم مالكيه قد يستخدم ضد سلامة وسيادة الدول، وشكلت الاسلحة النووية مرحلة حرجة في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حين بدأت الحرب الباردة بين المعسكر الشرقي والغربي، وظلت الأسلحة النووية وكيفية تقييد استخدامها محل اهتمام الفكر القانوني الذي حاول أن يصل إلى مرحلة التقييد بواسطة الاتفاقيات والمعاهدات الدولية واتجهت الجهود القانونية الدولية نحو هذا التقييد من خلال اتفاقية حظر استخدام وإنتاج وتخزين الاسلحة البيولوجية عام 1972 ومعاهدة سالت الأولى1972 ومعاهدة سالت الثانية عام 1979 ومعاهدة بانكوك1995 ومعاهدة بليندابا 1996 ومعاهدة الحظر الشامل للتجارب الذرية عام 1996 وغيرها من المعاهدات ذات الطابع ألاتفاقي الدولي واغلب هذه المعاهدات والاتفاقيات كانت شارعه التي وقع عليها عدد كبير من الدول من اجل التخلص من خطورة الاسلحة واستخداماتها بصيغ قانونية ولأهداف قانونية كذلك،لذاك فان تلك المعاهدات أوجدت صيغة جديدة للتعامل الدولي مع خطر السلاح النووي من خلال مبد ضبط السلاح او ما يعرف (Arms Control ) حيث يشمل الجهود التي تنظم التسلح من اجل جعل وقوع الحرب اقل احتمالا والتخفيف من أثارها في حالة وقوعها أو هو تحديد بعض أنواع الاسلحة وتخفيض استخدامها بالقدر الممكن والحد الأدنى المتفق عليه قانونا، ومن المعلوم ان الفترات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية كانت ذات خطر نووي بامتياز بين المعسكر الشرقي والغربي إلى فترة انهيار الاتحاد السوفيتي حيث تشكلت عدة اتفاقيات ومعاهدات قبل وبعد انهيار القطب الثاني كان أخرها المعاهدة التي يطلق عليها ستارت الجديدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية وهي أخر المعاهدات الدولية التي توصل إليها الطرفان بعد أن بدأت العلاقة بينهما بالتوتر الذي صاحب الدرع الصاروخي والذي اثأر أزمة دولية بين الطرفين.
لابد من الإشارة قبل تناول التحليل القانوني للمعاهدة الموقعة بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية مؤخرا، إلى رؤية تاريخية من خلال المراحل التاريخية للعلاقة بين هاتين القوتين ونجد أن بداية التأزم في تلك العلاقة بدأت في عام 1945 ففي تلك الفترة الزمنية أي في نهاية الحرب العالمية الثانية امتلكت الولايات المتحدة السلاح النووي، لكن سرعان مابدا الاتحاد السوفيتي في السعي للحصول عليه وتم فعلا حصوله على السلاح النووي في عام 1949.وهنا بدت ملامح النزاع النووي غير المباشر بينهما،حيث انتهت الحرب العالمية الثانية لتبدأ الحرب الباردةCold War) ) بين القوتين الأمريكية والسوفيتية. ثم بدأت تتشكل الأزمات الدولية في ظل غياب للفاعلية القانونية لاتخاذ الإجراءات القانونية من خلال منظمة الأمم المتحدة United Nations)) وعدم قدرتها على ممارسة دورها المطلوب في تلك الفترة المهمة،وكان ابرز هذه الأزمات هي ثورة كوبا عام 1959 والتي أوصلت إلى الحكم نظام متفقا من الناحية الفكرية والسياسية مع الاتحاد السوفيتي( السابق) كذلك قيام الولايات المتحدة الأمريكية بنشر الصواريخ المتوسطة المدى في تركيا، الأمر الذي شكل خطرا مباشرا على المدن الواقعة في غرب الاتحاد السوفيتي وأدى إلى وجود أزمة حقيقية مع فرضية التسابق في التسلح وإتباع سياسة الاحتواء تجاه الاتحاد السوفيتي
في العام 1962 تأزمت العلاقة بين القوتين في ظل مايعرف بأزمة الكاريبي او أزمة الصواريخ الكوبية (the Cuban Missile Crisis)عام 1962 والتي تعد من أكثر الإحداث أهمية في ظل الحرب الباردة حيث كان العالم على وشك وقوع حرب عالمية ثالثة.
وبدأت الأزمة في بداية تشرين الأول عام 1962حين اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية في كوبا الصواريخ المتوسطة المدى السوفيتية الصنع من طراز "أر-12" و"أر-14". وعلى اثر ذلك الاكتشاف وبالتحديد في 22 تشرين الأول من العام نفسه توجه الرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي في كلمة وجهها إلى الشعب الأمريكي،أعلن فيها وجود السلاح الهجومي السوفيتي في كوبا، وقامت الولايات المتحدة على اثر ذلك بفرض الحصار على كوبا عقوبة على التصرف الذي قامت به كوبا تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من أن الجانبين وجدا حلاً وسطاً وافق الاتحاد السوفيتي بموجبه على سحب الصواريخ من كوبا مقابل سحب الصواريخ الأمريكية من تركيا، فقد بينت هذه الأزمة التي استمرت قرابة 38 يوما، مستوى العلاقات ومدى إمكانية إقامة حرب عالمية جديدة وغدا انفراج الأزمة الدولية بين القوتين غير محسوم في تاريخ الحرب الباردة
هذا ماأدى إلى تصاعد خيارات إقامة الحرب اقرب إلى فرصة إقامة السلم والأمن الدوليين وفقا لميثاق الأمم المتحدة(1945) الذي كانت القوتين طرفا أساسيا في تشريعه والتوقيع عليه.
في الفترة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة اتجهت السياسة الأمريكية نحو عقد المعاهدات الدولية ( الثنائية) بينها وبين روسيا الاتحادية والتي تهدف إلى التخفيف من الأسلحة النووية والتخلص من تركة الحرب الباردة والاطمئنان على كميات الأسلحة الموجودة لدى الروس وقد عقدت أولى هذه المعاهدات وهي معاهدة ((START 1 ) ويطلق عليها " معاهدة خفض وتحديد الأسلحة الهجومية للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي" عام 1991 والتي وقعت بين الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب من جهة وبين الرئيس السوفيتي السابق ميخائيل غورباتشوف من جهة أخرى.
أسهمت قضية الدرع الصاروخي الأمريكي في تعزيز التوترات بين الطرفين الروسي والأمريكي من خلال التعزيز الأمريكي لموقفها في المنطقة لاسيما بعد موافقة بولندا على نصب الدرع الصاروخي لديها بحلول عامي 2011-2012 وهذا العمل جزء من الاستراتيجة الأمريكية في المناطق السوفيتية السابقة، فلقد اتجهت السياسة الأمريكية في بعض الأحيان إلى أتباع سياسة تفضيلية من خلال التقارب الأمريكي مع بعض الدول الاشتراكية والتي كانت تقع ضمن دولة الاتحاد السوفيتي (السابق) وتحسين علاقاتها معها وتشجيعها على القيام بإصلاحات جديدة كالانتخابات الحرة،وإقامة المؤسسات الدستورية، وتعزيز البنية النحتية، ونشر الديمقراطية وفق (المنظور الغربي الأمريكي).
في نيسان من العام 2010 وقعت الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية اتفاقية ستارت الجديدة أو New start) ) وقعها بالأحرف الأولى كل من الرئيس الأمريكي اوباما والرئيس الروسي مدفيديف. وتأتي هذه المعاهدة لتضع حلا ضمنيا لعدم خوض الحرب وبالتالي فهي احد دلائل عودة الحرب الباردة مرة أخرى بين الطرفين لأنهما يدركان اهمية الثقل الاستراتيجي لمخزوناتهما النووية ومدى كفائتة وبالتالي وجد الطرفين أن توقيع المعاهدة سوف يساعد على التقليل من فرص التوتر، كما كان الحال فترة الحرب الباردة والتي شهدت اتفاقيات جماعية أو ثنائية بين الأطراف التي حاولت التقليل من فرص إقامة الحروب بين الإطراف التي وقعت على ميثاق الأمم المتحدة وأصبحت عضوا في منظمة تقوم على السلم والأمن الدوليين لذلك ومن ناحية قانونية سوف نسلط الضوء على تعريف هذه الاتفاقية وطبيعتها القانونية.
الطبيعة القانونية للمعاهدة New Start
تدعى المعاهدة الجديدة رسميا بمعاهدة "التقليص وتقييد الأسلحة الإستراتيجية الهجومية بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية". وقد تم وضعها بناء على البيانات الروسية الأمريكية المشتركة والوثائق الخاصة بتقليص الأسلحة الإستراتيجية الهجومية التي جاءت محصلة للمحادثات بين الرئيسين الروسي والأمريكي في 1 ابريل/نيسان عام 2009 في لندن وفي 6 تموز عام 2009 في موسكو، ووقع الرئيسان الأمريكي والروسي على المعاهدة بالأحرف الأولى في براغ بعد مفاوضات شاقة استمرت أشهرا طويلة في جنيف، ويقصد بالتوقيع بالأحرف الأولى أن المعاهدة أصبحت نهائية بعد ن يتمك تحقيق شرط نفاذها وهو العودة إلى السلطة التشريعية إلى كل من الدولتين الامريكة والروسية وبالتالي فان عودة الرئيس الأمريكي إلى الكونكرس وعودة الرئيس الروسي إلى مجلس الدوما من اجل التصديق على هذه المعاهدة من اجل نفاذها وتنفيذها وتحقق أثارها القانونية
إن هذه المعاهدة عبارة عن مجموعة من الوثائق ذات الطابع القانوني وفق أحكام القانون الدولي تضم ما يزيد عن 160 صفحة تحتوي على المعاهدة نفسها بموادها والبروتوكول الذي يحدد طريقة تنفيذها، وكذلك الملحقات بالبروتوكول. ويعتبر البروتوكول والملحقات جزءا لا يتجزأ من المعاهدة لا يقل أهمية عن المعاهدة من حيث صفته القانونية.
وتقضي أحكام المعاهدة بان يقلص الجانبان أسلحتهما الإستراتيجية الهجومية ويقيدها كيلا تزيد كمياتها الإجمالية بعد مرور 7 سنوات من سريان مفعول المعاهدة عما يلي:
أولا: 700 قطعة من الصواريخ البالستية المنشورة العابرة للقارات، والصواريخ البالستية المنصوبة في الغواصات والقاذفات الثقيلة
ثانيا 1550 قطعة من الرؤوس القتالية لها
ثالثا: 800 قطعة من المنصات المنشورة وغير المنشورة للصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المنصوبة في الغواصات والقاذفات الثقيلة.
إذن فان الكمية الإجمالية للرؤوس القتالية تقل بنسبة 74% عن الحد الأقصى المحدد للرؤوس الإستراتيجية المنشورة بموجب معاهدة /ستارت - 1/ ( 6 آلاف رأس).
كما إنها تقل بنسبة 30%عما هو محدد في معاهدة موسكو لتقليص القدرات الإستراتيجية الهجومية. أما كمية الحاملات المنشورة فتقل بمقدار يزيد مرتين عما هو عليه في معاهدة /ستارت - 1/ التي بلغ سقفها 1600 حاملة.
وبالنسبة إلى كيفية التنفيذ وتطبيق المعاهدة الجديدة فقد نصت بنود المعاهدة على فرض رقابة شديدة على الغواصات والقاذفات التي تمت إعادة تجهيزها لتحمل أسلحة تقليدية، مما يقدم ضمانات حول عدم استخدامها بمثابة حاملة للسلاح النووي. ويسري مفعول المعاهدة الجديدة على المنظومات الإستراتيجية الأمريكية سواء أكانت قيد الاستخدام أم توقف استخدامها في الجيش ومن بينها الصاروخان " أم اكس بيسكيبير" و "مينيتمن - بي" البالستيان وكذلك الأسلحة الإستراتيجية الهجومية غير النووية في حال تصميمها وتصنيعها.
خلافا لمعاهدة /ستارت - 1/ فانه يحق لكلا الجانبين أن يحدد بشكل مستقل بنية قواته الإستراتيجية ضمن الحد الأقصى من الكميات التي حددتها المعاهدة.
مدة المعاهدة: تحدد مدة المعاهدة بعشر سنوات اعتبارا من تاريخ دخولها حيز التنفيذ وهي قابلة للتجديد لمدة أقصاها خمس سنوات. وينص احد البنود على إمكانية انسحاب إي من الطرفين من المعاهدة.
إن التحليل القانوني للمعاهدة يبين مدى الاهتمام الذي أبدته كل من القوتين تجاه تعزيز جهودهما في سبيل إنجاح وإنقاذ السلم والأمن الدوليين وتغليب القانون الدولي على المصالح على الرغم من عدم خلو المعاهدة من مصالح للطرفين باعتبارها أنموذجا قانونيا جديدا أو معاهدة سلام شاملة بين الطرفين لم تقتصر على السلام النووي بل هي من الناحية الضمنية معاهدة تتضمن اتفاقا شاملا على الوصول إلى نقطة مشتركة في تغليب العلاقة القانونية على علاقة الخصومات والخطابات غير المجدية، لان المعاهدة عالجت مسالة نووية ولكنها استطاعت أن تقرب وجهات النظر للوصول إلى معاهدة ثنائية وفق أحكام القانون الدولي، ومع هذا فإننا لابد أن نشير ومن الناحية القانونية إن المعاهدة وان تم توقيعها الاانها لاتعد نافذة بل معلقة على شرط وهو ( تصديق السلطة المختصة ) لكلا الدولتين ومع التصديق من مجلس الكونكرس الأمريكي ومجلس الدوما الروسي تصبح المعاهدة نافذة من تاريخ توقيع الرئيسين عليها وتصبح معاهدة ستارت الأولى لاغيه بموجب المعاهدة الجديدة.
أهميتها الدولية والإقليمية
تعطي المعاهدة ستارت الجديدة، بعدا دوليا وإقليميا ينبع من أهميتها فضلا عن العلاقات الروسية الأمريكية سوف تدخل تطورا جديدا من التعاون الدولي في ظل أزمة دولية سبقت هذه المعاهدة، ولذلك فان أهمية المعاهدة دولية وإقليمية أيضا
يلاحظ أن اهمية المعاهدة تتناسب مع الوضع الاستراتيجي العام في العالم، وترفع مستوى الثقة ليس بين روسيا والولايات المتحدة فقط، وإنما بشكل أوسع بين الدول النووية وغير النووية الأطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية. فهي تعطي أولوية التعامل من خلال ماتسجله من ثقة في ظل وجود اتفاق قانوني بين الدول الموقعة وحتى غير الموقعة، وهذا يعني أن أثارها تمتد إلى غير موقعيها من حيث اعتبارها خطوة متقدمة للتعاون الدولي في ظل القانون الدولي وتشجع الدول على العمل وفق القانون الدولي وفي ظل التطورات القانونية الدولية،وهذه المعاهدة كما يصفها البعض "المعاهدة تعد انطلاقة كبيرة في العلاقات الروسية الأمريكية خاصة عقب ما شهدته علاقة البلدين من برود بعد حرب جورجيا، اليوم نحن بصدد تطور كبير في العلاقات، وبصدد ومسار جديد يسمح بالتحرك قدما في مختلف الملفات الرئيسية..."ومما يؤكد هذه الحقيقة فقد أبدت منظمة الأمم المتحدة ترحيبا رسميا بعقد هذه المعاهدة الدولية ( الثنائية) حيث عبر أمين عام الأمم المتحدة بان كي مون عن الترحيب بتوقيع اتفاقية ستارت الجديدة باعتبارها معلما هاما في الجهود الدولية الرامية إلى تعزيز نزع السلاح النووي وتحقيق عالم خال من الأسلحة النووية. كما أعرب عن اعتقاده بأن هذا الانجاز الهام سيساعد على خلق أجواء إيجابية للمؤتمر المقبل للدول الإطراف في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية".وأعرب السيد بان كي مون عن أمله في أن يواصل الاتحاد الروسي والولايات المتحدة جهودهما في متابعة تخفيض وإزالة كافة الأسلحة.
إن هذا التطور القانوني في الحد من الاسلحة النووية في ظل القانون الدولي ومن خلال المعاهدات الدولية يسمح للدول العمل ليس على أساس النزاع الدولي بل على أساس التعاون الدولي مع الاحتفاظ بقدر معين من تلك الاسلحة بما يهيئ مجلا واسعا للتعاون بصيغة أفضل.
مركز الدراسات الإقليمية
جامعة الموصل