الانترنت وحكمة العقل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
تتوفر خدمة الانترنت في 91% من المنازل اليابانية وفي 99% من شركاتها، وقد بدأ علماء اليابان يدرسون الـتأثيرات الذهنية والنفسية لهذه التكنولوجية على عقول وثقافة الأجيال القادمة. وقد ناقش فلاسفة الغرب دور الآلة في التطور الحضاري والذكاء المجتمعي، فرآها توماس فيبلن: "قوة ذاتية، خارجة عن إرادة الإنسان، لتغير التاريخ،" وعبر عنها كارل ماركس: "مطحنة هوائية أعطت المجتمع سيد الإقطاع، ومطحنة بخارية خلقت مجتمع الرأسمالية الصناعية." بينما تحول الإنسان، في نظر رالف والدو، "لجهاز جنسي للعالم الآلي،" وأعتقد ماكلوهان بأن: "دورنا الأساسي كبشر أن ننتج آلات، حتى تضطر التكنولوجيا التناسل لوحدها وتستغني عنا." واعتقد ديفد سارنوف بأن: "قوة التكنولوجيا في يد مستخدميها، فالآلة وسيلة لتحقق أهداف البشر، وليس لها أهداف ذاتية، ونستطيع تطويعها كما نشاء." ويبقى السؤال المحير: هل يغير الانترنت عقولنا؟ وهل تمتد تغيراته لوظائف المخ وبنيته؟ وهل يؤدي للإدمان؟ وما تأثيراته على ثقافة المجتمع وحكمته؟
يناقش الكاتب الأمريكي، نيكولاس كار، في كتابه الجديد، الضحل، التأثيرات الوظيفية والهيكلية لتكنولوجية الانترنت على العقل البشري. فقد بينت إحصاءات عام 2009 بأن المواطن الأمريكي يقضي متوسط ثمانية ساعات في اليوم أمام شاشات التلفزيون والكومبيوتر والتلفون، بينما قدرت مدة قراءة الكتابة المطبوعة في الأسبوع، لمن يزيد عمره على 14 سنة، حوالي 143 دقيقة، وانخفضت بين الكهول (25 وحتى 34 سنة) إلى 49 دقيقة. وتغيرت أنماط الكتابة، فمثلا في اليابان، قامت النساء بتأليف قصص على شبكات التلفون النقال، ليعلق عليها ويشارك في تكملة حبكتها الدرامية الكثيرون، ولتتحول لمسلسلات روائية تلفونية يقرأها الملايين، وطبعتها دور النشر، لتباع ملايين النسخ منها في المكتبات اليابانية. وقد علق على انتشار ثقافة الانترنت البروفيسور مايكل ميرزنيش، المتخصص في دراسة التغيرات العصبية باستخدام الانترنت، فقال: "فحينما تؤدي الثقافة للتغيرات في الطريقة التي نستخدم فيها عقولنا اليوم، ستخلق عقول مختلفة."
وقد قام البروفيسور جاري سيمول، بدراسة تأثيرات الانترنت على المخ، وذلك بفحص مقطعي وظيفي لمخ 24 متطوع، وهم يتصفحون الانترنت والغوغل. فاكتشف نشاط غير عادي في القسم الأمامي من المخ، بسبب تشكل شبكات عصبية جديدة، وقد برزت هذه التغيرات بعد خمسة أيام من التدريب على الانترنت، وعلق البروفيسور على ذلك بقوله: "فخمس ساعات على الانترنت، تغير شبكات عقول المبتدئين، فإذا كانت عقولنا حساسة لساعات من التعرض للانترنت، فما الذي سيحدث حينما نضيع سنوات طويلة على صفحات الانترنت؟" كما أكتشف البروفيسور اختلاف نوعية هذه النشاطات في مراكز المخ بين قراءة الكتابة المطبوعة وقراءة صفحات الانترنت. فترافقت قراءة الكتاب المطبوع بنشاطات بمراكز اللغة، والذاكرة، والنظر، وقلت هذه النشاطات في مراكز حل المعضلات، وإصدار القرارات، بينما زاد النشاط في جميع هذه المراكز (اللغة والذاكرة والنظر وحل المعضلات واصدر القرارات) باستخدام الانترنت والغوغل. ويعتقد البروفيسور بأن زيادة نشاط العديد من المراكز العصبية يقلل التركيز ويصعب القراءة العميقة، بسبب تعدد المهام بين الحاجة لتقييم الربط الالكتروني وتحديد الاختيار، وضرورة استمرار التناسق الذهني لإصدار قرارات التحكم.
وتبين أبحاث البروفيسور ستيفن جونسون بأن: قراءة الكتب المطبوعة، تخفض أثارة إحساساتنا وتقلل اضطراب انتباهنا، لتحول القراءة لنوع من التفكير العميق، ليصبح ذهن القارئ ذهن هادئ، وليس كذهن مستخدم الانترنت الهائج، "وحينما نتحدث عن إثارة الخلايا العصبية، فمن الخطأ أن نتصور بأن زيادة الإثارة هي الأفضل." كما توضح دراسات البروفيسور جون سويلر بأن: القراءة المطبوعة تقوي الذاكرة الدائمة، بينما يتعامل الانترنت مع الذاكرة التشغيلية المؤقتة، والتي تختفي معلوماتها بسرعة، فلا نستطيع ترجمة المعلومات لخطة، لتعاني قدرتنا على التعلم ويصبح إدراكنا وفهمنا سطحي. وحينما تتشبع ذاكرتنا التشغيلية المؤقتة، يصعب علينا التمييز بين المعلومات الأساسية والأخبار السطحية، فنصبح مستهلكين للمعلومة، وبدون ذهن يستوعبها. ويتساءل البروفيسور نيلسون: "كيف يقرءون متصفحو الانترنت؟" ويعقب البروفيسور بالجواب: "أنهم لا يقرءون." فقد اكتشفت الدراسات بأن متوسط مدة النظر في الصفحات الالكترونية تتراوح بين 19 و 27 ثانية، "فيحاول متصفحو الانترنت أن يجمعوا المعلومات بسرعة بتحريك العين والأصبع." كما بينت دراسة للمكتبات المتخصصة، بأن قارئ الكتب على صفحات الانترنت، ينتقل من كتاب لآخر، بمعدل قراءة صفحة أو صفحتين، ويعلق نيكولاس كار على ذلك بقوله: فمن الواضح بأنهم لا يقرءون على صفحات الانترنت بالطريقة التقليدية، بل بدأت تتبلور طريقة جديدة للقراءة، قراءة أفقية من العنوان، وحتى صفحة المحتوى، وإلى الخلاصة، فيركضون وراء الربحية المعلوماتية السريعة، ويتجنبون القراءة العميقة، فقد فقدوا الصبر على القراءة. فمع أن سرعة البحث والتنقل بين صفحة وأخرى مهمة، ولكن أصبح التزلج على الصفحات الطريقة الجديدة للقراءة، فانعدمت القدرة على قراءة الكتب المطبوعة، وتحولنا من غارسي المعلومة الشخصية، لصيادي ومجمعي معطيات الغابة الالكترونية. وكلما زادت السرعة في العمل على الانترنت، قلت قدرة التفكير وأنخفض استخدام المنطق في حل المعضلات، ليتحول البحث عن حلول للتعامل مع تحديات حياتنا، لركض سطحي سريع لحل المشكلة. وبدل دراسة تحديات المعضلة، وغرسها بأفكار جديدة مبدعة، ضعنا في غابات الانترنت، فكما قالها فلاسفة الرومان: تكون في كل مكان، يعني بأن تكون في لا مكان.
لقد طور الانترنت قدرات ذكاءنا المرئي والفضائي، وأضعف قدرات عمق التفكير والكسب الذهني للمعلومة والتحليل الاستقرائي والتفكير النقدي والتخيل والتأمل، كما غيرت "لدانة" المخ شبكات التواصل بين خلايانا العصبية فقوت قدرة المسح والتزلج على صفحات الانترنت، وأضعفت قدرة التركيز والتفكير العميق. وقد أكدت الأبحاث بأن متصفحو الانترنت فقدوا قدرة الانتباه، وعوضوه، بإثارة عابرة، وضعف السيطرة على ذاكرة التشغيل، وقلة التركيز، ومع أنه أتاح سرعة الوصول للمعلومة، ولكنه أضعف القدرة على عمق المعرفة، المهمة لتطوير الذكاء المبدع. ففي الفترة (1999-2008) التي انتشر فيها بشكل واسع الانترنت في المجتمع الأمريكي، انخفضت، علامات امتحانات الرياضيات في المدارس الثانوية من 49.2 إلى 48.8، والقراءة النقدية من 48.3 إلى 46.7، والمهارات الكتابية من 49.2 إلى 45.8. وتساءل نيكولاس كار: "فكيف يمكن لشعب أن يكون أكثر ذكاء وإبداعا، حينما يكون ضعيف في لغته، ولم تكثر قاعدة معلوماته العامة، ولم تزد قدرته على حل المعضلات الرياضية؟"
وقد يتساءل البعض كيف يمكن أن يؤدي الانترنت للإدمان؟ لنتذكر بأن آليات البحث تعتمد أرباحها على الدعايات، وقد اتفقت مع شركات الدعاية بتحديد نسب الربحية بعدد النقرات على الموقع، فمن صالح هذه الشركات أن "يتزلج" قارئ الانترنت على سطح الصفحة، وينتقل بسرعة لصفحة أخرى، بل ترتب هذه الشركات الصفحات بطريقة تقلل الرغبة في القراءة العميقة، وتشجع القراءة السطحية السريعة، والقفز من موقع لأخر، وبشكل مدمن. ونتذكر عزيزي القارئ بأن المخ يتكون من مليارات الخلايا العصبية، والتي تنسق عملها من خلال تريليونات من الشبكات العصبية، وقد اكتشف البروفيسور اريك كندل بأنه بزيادة الخبرة، وتكرار حفظ المعلومة، يزداد عدد هذه الشبكات العصبية لتتركز المعلومة في الذاكرة الدائمة، بينما تبقى معلومات الانترنت في الذاكرة التشغيلية المؤقتة، والتي تترافق بالتقوية المؤقتة لوظيفة الشبكات العصبية، بدون زيادة عددها. كما بينت الأبحاث التغيرات الذرية في الشبكات العصبية، فتنتقل الإحساسات والأوامر والمعلومات عن طريق مادة الجلومات، والذي ينظم إفرازها مادة السريتونين، بينما تؤدي مادة الدوبامين لترسيخ الذاكرة، وذلك بتنشيط صنع الخلية العصبية بروتينات خاصة لتشكل شبكات جديدة.
وينهي نيكولاس كار كتابه بالقول: "نحتاج لتطوير عملية التفكير، لتعلم السيطرة على الوعي لاختيار ما نريد الانتباه له لتشكيل معنى للخبرات التي نعيشها، ويختلف ذلك عن تواصل الانترنت الميكانيكي، الذي يضعف القدرات العقلية ويؤخر ثقافة التواصل البشرية. فالثقافة ليست أرقام تكنولوجية، ولتبقى ثقافة حية، تحتاج صقلها بالتفاعل مع الطبيعة، وترسيخها وتجديدها في العقول جيل بعد الآخر، وحينما ننقل الذاكرة البشرية لبنك معلومات آلي خارجي، نهدد، التميز الفردي، والعمق الثقافي المجتمعي، لتذبل الحضارة، وكلما زاد اعتمادنا على الكومبيوتر والانترنت لفهم العالم الذي يحيط بنا، كلما تسطح ذكائنا العقلي، وفقدنا توازن الذهن وحكمة العقل." ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان