فضاء الرأي

المثقف والقلم والحقيبة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

" بعد موتي، قد يذكرون في الصحف أنّي كنت كاتبا وقد نلت جائزة نوبل للآداب. و لكن إذا كان من الممكن أن يضيفوا إلى هذه المعلومة أنّي قد ساهمت بطريقة ما في تعزيز السلام على هذه الأرض، فأتمنى أن يوردوا هذه الجملة قبل خبر جائزة نوبل" (خوزيه ساراماغو)

كقنديل أضناه ليل، أو شمعة أذابت نفسها.. رحل الروائي البرتغالي خوزيه ساراماغو في الشهر الماضي بعد حياة "كهولة،" صاخبة بالإبداع، والمواقف الثقافية. أتت البداية الحقيقية لساراماغو في التأليف بعد أن جاوز الخامسة والخمسين من عمره. وقد أنجز قرابة ثلاثين عملاً بين رواية وشعر ومقالة ومسرح..
لعب هذا العجوز البرتغالي دور "المثقف الرسالي"، فهو لم يكن متميزاً فقط لأنه قدّم إلى الرواية وإلى الأدب صوتاً سردياً متميزاً، بل أيضاً لأنه كان ملتزماً كمثقف وروائي بقضايا تعتبر ملحّة لزمانه الذي يعيش فيه. لقد قدّم ساراماغو حسّا إنسانياً مرهفاً. صَدفة أذنه التقطت المطمور من الأصوات، وله خطو يتندَّى لا يباعد عن خطو الناس. كيف لا وهو الذي جعل محاضرته حين استلام جائزة "نوبل" تتركز حول الدروس التي تعلمها من أولئك البسطاء، الذين عاش وربَى معهم، وأصبحوا من بعد معلميه وملهميه..
البسطاء يتم نسيانهم بسهولة في هذا العالم المشغول بنفسه. لذا كتب ساراماغو روايته (الكهف) لينتقد هكذا عالم، تتجلى صورته عبر "عالم المادة" لا "عالم الإنسان". هذه الرواية تحكي حكاية "المركز" الذي يشبه "مول" تجاري ضخم يحقق للناس كل ما يريدون وليس لديهم أي حاجة لغيره، فيكون الأمر صعبا على عجوز منعزل، يزاول حرفةً يدوية، وبعضاً من عائلته في أن يتكيفوا كما الآخرين على نظام عيش مستحدث وصناعي. فقد تم نسيانه وأصبح على الهامش، وما من أحد يحتاج إلى بضاعته.
هذه إحدى المظاهر التي أُستلبت فيها إنسانية الإنسان، وتجلّت عبرها نضالية ساراماغو. اللوثة الرأسمالية، ومظاهر الاستهلاك الفارغة التي جعلت الإنسان لا يستشعر حياته إلا عبرها.. فالشركات والنظم الدعائية الجبارة قامت بنسخ وعي الإنسان، وسربت إليه وعياً جديداً، خلق منه كائناً نهماً وجائعاً إلى منتجاتها في كل موسم!. حين سُئل ساراماغو عن الأسباب التي دفعته لكتابة روايته (الكهف) قال: "في صحيفة اسبانية قرأت أن امرأة قد كتبت في وصيتها أنها أرادت أن يُذرى هشيمها حول مركز تسوق بعد أن تموت، لأنها قضت أسعد لحظات حياتها هناك..! هل يمكن أن يجعل التسوق أحداً سعيداً؟ هل يمكن أن يكون الاستهلاك سبباً للحياة؟!!"

نهاية المثقف التقليدي
في الفترة الماضية اطلعت على مقالات عربية متعددة كتبت عن ساراماغو بعد رحيله. احتفت هذه المقالات واهتمت بإبراز مواقفه النضالية اهتماما زاد عن الاهتمام بإبداعه. كان يسارياً ناضل ضد دكتاتورية (سالازار) البرتغالي، كما في روايته (سنة موت ريكاردو ريس)، وعدوا للخرافة والتسلط الديني كما في (الإنجيل بحسب يسوع المسيح)، وضد المظاهر السلبية للعولمة كما في (الكهف). وأيضاً، لا ننس موقفه ضد الكيان الإسرائيلي حين زار (رام الله) في العام 2002، وأعلن أن اسرائيل ليست إلا كياناً مشابهاً لألمانيا النازية.. لذا تعرض ساراماغو للحرب، وخاطر بسمعته مراراً بسبب نضاله من أجل مواقفه.
في نفس تلك الفترة قرأت كتاب علي حرب (أصنام النظرية وأطياف الحرية)، وهو الكتاب الذي حاول حرب من خلاله، مع كتابه الآخر (أوهام النخبة)، أن ينقد دور "المثقف البطل". وهو النقد الذي تجسد عبر نقده لمفكرين من الأبرز عالمياً (بورديو و تشومسكي)، والأول قد رحل قبل سنوات فيما الآخر لا يزال حياً. يجادل حرب في أن الدور الطوباوي للمثقف المناضل هو دور كلاسيكي قد ولّى زمنه. مناقشته تركزت في أن هؤلاء الرموز من المناضلين المثقفين يحتاجون إلى تجديد العدّة الفكرية التي لديهم من أجل تغيير الواقع، وتعرّف الواقع. يفترض حرب أن هذا النمط من المفكرين قد حمل أفكاراً ونافح عنها حتى أصبحت مقدسة، و"أصلاً ثابتاً" لا يتزحزح، بينما نحن نتواجد على أرض واقع متحرك ومحايث. ويرى حرب أنه ليس لأحد ولا لفئة أن يحتكر "حق الدفاع" عن الحقيقة والقيم العامة... من ناحية أنها قيم لا تخص المثقفين وحدهم، وإنما تعني كل الناس، وكل فرد من الممكن أن يكون "الفاعل الاجتماعي" فيها. من يتصدون للمهمة النضالية من المثقفين قد يجدون أنفسهم في لحظة وقد مارسوا "النجومية" و "النخبوية" و "حق الوصاية"... من ناحية أن "كل تنوير هو شكل من أشكال الاستيلاء". العالم غارق في ممارسات سلطوية، ولا ينقصه وجود سلطوية جديدة تسحب النار إلى قرصها بدعاوى النضال..!
من هنا كان لزوماً على الحركة الثقافية أن لا تقر على حال، وأن تجدد نفسها وأدوات النظر لديها كمسايرة لواقع متحرك. لذا رأى حرب نهاية الدور التقليدي للمثقف بعد قرن من ولادة المثقف بمفهومه الحديث، ويرى تجديد هذا الدور من ناحية أنه "في عصر المعلومة، لم نعد نحن رسل الحقيقة والهداية، بل مجرد وسطاء بين بعضنا البعض، أفراداً وجماعات أو حقولاً وقطاعات"(ص60).
مناقشة حرب هنا لا تخلو من وجاهة. فالمثقف قد يصبح بطلا وملهما ومتبوعا مما يجعله يقع في نفس الخطأ الذي يقوم بمحاربته. لكن في نفس الوقت لا يجب أن نغفل أن للمثقف الفرد دول بالغ الأهمية في المجتمع، ولابد أن نتوجس من أي محاولة لتقليل هذا الدور.

حيث لا بطل
دور "الفرد البطل" هو دور عاطفي ورمزي أكثر مما هو واقعي... لا أعتقد أن التاريخ تقوده أقدام الفرد البطل، كما قالت بذلك قناعات (العقاد) أو (توماس كارليل). لكن يبقى الأمر أن المثقف الفرد يلعب دورا له ضرورته.
"الثقف" يعني: الظفر. وفي صراع اليوم، صراع الأفكار والآراء والطبائع والنفوس يكون الظفر بالرأي الأنسب والأصلح من أهم الأمور. فحياة الأفراد والمجتمعات تحتاج إلى التيسير والتحفيز والتحريك.. وهذا أمر لا يتم إلا عبر النضيج من الآراء والمواقف. المثقف يدرك نسبية الآراء والحلول، فهو يثقف أكثر من رؤية وموقف، ويقف على أكثر من بعد.. رأيه يكون الأفضل لأنه يقيم ويوازن ويرى ويختار بطريقة متحررة، هي أفضل مما لدى سواه من أهل المفاهيم الناجزة، والمسارات المحددة.
"أصالة الموقف" هي أبرز خصائص المثقف. أي أنه تبعاً لثقافته ونظره المتكرر لا يكون أسيرا لتيار سائد، أو أفكار مسيطرة، أو نظر شعبي لا يُطاق له مخالفة. نعم، المثقف "فرد". لكن حين يرى الرأي ويقف الموقف فهو قد يكون ممثلاً ومجسداً لتيار كامل موجود في الواقع، وينتظر فرصته للظهور.. وبث هذا الدور الثقافي وتعميمه، هو أعظم خدمة يقدمها المثقف.
نتوجس أيضاً من تقليل دور المثقف في المجتمع، لأنه دور قليل بالفعل. وذلك عائد إلى المثقف نفسه.. حين يتماهي مع النسق والحكاية الرائجتان في السوق!!. كثير من المنظومات والمؤسسات لديها قدرة متطورة على حفر أخاديد ثقافية وانطباعية معينة.. فلا تملك الأذهان إلّا الاندغام مع هذه الرؤى "المريحة" لأنها درب قد حفر ومهد..
وكثير من المثقفين لديهم الحصيلة اللغوية، والمهارة الفكرية التي تبرر لهم سيرهم مع نسق مسيطر، حتى لو أن ذلك لا يعكس أو يوضح أًصالة موقفهم هم.. هذا لا يعني بالطبع وجوب "الضدية" والمخالفة من قبل المثقف.. فليس قَدر للمثقف أن يكون إما نسراً أو حمامة، ولكن المهم أن يكون للمثقف دور له أصالته الذاتية، بلا أي تبعية من أي نوع.. من هنا تأتي أهمية المثقف كفرد، فالمجتمع يكسب حين تنتشر بين أفراده أصالة الموقف، والقدرة المستمرة على الرؤية والنظر. من هنا تتبدى أهمية إضافة البعد الثقافي لكل شخصية، والبعد هذا لا نقصد به اتساع المعرفة أو كثرة قراءة الكتب.. وإنما سعة الأفق والانفتاح ووجود حركة عقلية حيّة ومتفاعلة لدى الفرد. فهذا هو المفهوم الأوسع لكلمة مثقف، من يستعمل هذه القدرات. نحن بحاجة إلى مشاريع السياسي المثقف، وإلى دراية الفقيه المثقف... وبلا بعد ثقافي قد يأتي الخطر من كل أحد. رجل التعليم الذي يصدر عن بُعد حدّي، ينسى هدف التعلم!.. ورجل الاقتصاد يتقلص فهمه إلى حدود "المنفعة" والربح..

أفضل قليلاً...
في القول المقتبس أعلى المقال. نجد أن أهم ما أراده ساراماغو هو أن يتذكر الناس أنه قد ساعد في أمر السلام على هذه الأرض. سمعت مثل هذا الكلام أيضاً من المؤرخ الأميركي، والمثقف المناضل "هوارد زن" الذي رحل هو أيضاً قبل بضعة أشهر. فعبر محاضرة مسجلة له، سأله أحد الطلبة: ما الذي يجب علينا فعله؟ فقال زن: أن نساعد في جعل العالم أفضل قليلاً.. فقط قليلاً.. ما أجمل هذا الدور، أن تساعد في جعل العالم أفضل قليلاً، بغض النظر عمن تكون، وعن دينك وجنسك ولونك..
تتجمل الحياة، لو أن المثقفين، الذين لديهم أفضل المزايا من لغة ومهارات فكرية، التفتوا دوماً للجوانب الإنسانية. يذكر ساراماغوس أنه قد افتتح مرحلة جديدة لحياته ككاتب منذ روايته (العمى)، أخذ يفصح عن همومه تجاه "البشرية". وربما لو لم يتم منه هذا التحول وهذا الالتفات لما اصطادته جائزة (نوبل)، التي تعتبر أعلى مرتبة للثناء على مستوى العالم (نالها عام 1998). ومثله أيضاً، الروائي التركي (أورهان باموق) الفائز بنفس الجائزة. يقول باموق عن نفسه أنه وفي منتصف الثمانينات كانت هناك لحظة أعتقد فيها أنه سيقضي بقية عمره بين الأدب والروايات اللذيذة. لكن حدث التحول لديه، وبعد عقدين من تلك اللحظة لم يعد هناك (تابو) في تركيا إلا وقد أدرجه باموق في أدبه وكتاباته.
أيضاً، شيخ الفلاسفة برتراند راسل، اعتقد أنه سيقضي حياته متلذذا بالرياضيات والمسائل الفلسفية المجردة.. لكن مشاهدة ضحايا الحروب، ونتاج الحرب العالمية الأولى، دفعه إلى التحول، والغوص عميقا -عبر عشرات الكتب والمحاضرات- مسائلا في الاجتماع والسياسة وفي كل فن يلاصق الإنسان وطبيعته.. وجنّد نفسه في سبيل السلام، وهو القائل "لا بد للعقل أن يسود، ولابد للحكمة أن تنتصر، ولا بد للتسامح أن يدك معاقل التعصب". وكان من آخر ما كتبه هذا الفيلسوف الملتزم، هو رسالة إلى المؤتمر البرلماني العالمي في فبراير 1970 يندّد فيها باسرائيل وما تفعله في الأراضي العربية (وما أشبه اليوم بالبارحة). هذا إذن ديدن الجائزة (من فرع الأدب).. مغازلة أدباء وفلاسفة لديهم الحس الذي جعلهم الأكثر "إفادة للبشرية". من راسل، وحتى الفائزون الجدد، الأديبة الألمانية "هيرتا مولر" التي كتبت كثيراً عن مشاكل الأقليات وحقوقها تحت أنظمة القمع في أوروبا الشرقية، والروائي الفرنسي "لوكليزيو" الذي تم طرده من تايلاند بعد أن تظاهر وناضل ضد الاستغلال الجنسي للأطفال هناك.
هناك حاجة إلى النموذج "السقراطي" للمثقف؛ من يفكر ويعيد التفكير، وينظر عبر أعين متجددة في كل مرة. وجود المثقف الذي يجترح مواقفه المميزة باعتبارات نوعية، هو فرصة للفرد العادي ليشاهد أمامه "مواقف مثقفة"، يتمكن من محاكاتها، فيكون بذلك لا مختطفاً، ولا مغيباً، بل حاضراً.. بنظره المستقل، ورؤيته المتجددة..

azizf303@gmail.com


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
الحقيقه لنا
بدر البدر -

شكراااااااااااااا لك على طرح للمقال عزيزي انت

الحقيقه لنا
بدر البدر -

شكراااااااااااااا لك على طرح للمقال عزيزي انت

هذه المرة
خالد عبدالله -

أيها المتألق في سماء الأدب والإبداع ..هذه المرة ..اللغة التي كتبت بها لغة خاصةلأهل التخصص وطردت المتطفلين مثلي .تحياتي لك ...

هذه المرة
خالد عبدالله -

أيها المتألق في سماء الأدب والإبداع ..هذه المرة ..اللغة التي كتبت بها لغة خاصةلأهل التخصص وطردت المتطفلين مثلي .تحياتي لك ...