سؤال الحداثة: الاحتكاك والمواجهة بين الشرق والغرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمثل فتح نابليون لمصر عام 1798 بداية الاحتكاك بالغرب وبداية المواجهة بين الشرق والغرب بصورة عامة، وبين العرب وأوروبا بصورة خاصة، وكذلك بداية النهضة العربية ـ الاسلامية ونشوء الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية. وكانت اول ردة فعل عكسية على هذا الاحتكاك هي صدور كتاب عبد الرحمن الجبرتي (1754 ـ 1822 ) الموسوم " التقديس في زوال دولة الفرنسيس" حيث اطلق على الفرنسيين" بغزاة ارض الخلافة "، الذين تجاوزوا في ذلك ميادين الايمان والفكر وطرق العيش، ووصف "دولة الفرنسيس" بأنها دولة دهرية الحادية ومارقة عن الدين وبزوالها تعود الحياة الى الايمان والقداسة.
ولكن، بظهور رافع الطهطاوي تغيرت النظرة الى الغرب وأصبحت تطورية ومتجددة. فقد تأثر
الطهطاوي (1801 ـ1873) بإصلاحات محمد علي باشا، الذي عينه إماما لأولى البعثات المصرية التي ارسلها للتخصص في فرنسا. وقد اثار الغرب المتقدم انبهاره فكتب في " تلخيص الابريز في تلخيص باريس"ما يلي: " عرف الآخر الدنيا فعرف الدين، وعرفت أنا الدين فجهلت الدين والدنيا معا " و اقتنع بضرورة الاصلاح وتقليد الغرب، محاولا فهم وتحليل مفهوم الامة المصرية على ضوء تأثره بأفكار عصر التنوير الفرنسي، داعيا الى مشاركة الشعب في الحكم وتغيير القوانين والشرائع لأنها تتغير بتغير الظروف مثلما تتغير الظروف بالشرائع، مركزا على "روح الامة" و "روح الوطن" والتعرف على العالم الحديث من خلال العلوم والصنائع التي ولدها العقل البشري. كما طالب بتحسين الاوضاع الاقتصادية وضرورة تعليم البنات ضمن العائلة لتحسين مؤهلاتها، وتشجيع الاقبال على العلوم الحديثة لأنها علوم اسلامية اخذتها أوربا عن العرب.
ان نظرة الطهطاوي المتجددة تعطي للعقل سلطة عليا وللإنسان قيمة مطلقة، حيث اعتبر الشعب مصدر السلطة وجعل الولاء للوطن وحده، محاولا انتقاء العناصر الايجابية من الحداثة الاوربية لتحريك الاسلام الجامد والتأثير فيه ودفعه للتقدم، مع الحفاظ على هوية وخصوصية كلا الجانبين واستقلاليتهما الحضارية.
المشكلة هي ان قراءة الطهطاوي لباريس هي قراءة الأنا في مرآة الآخر، كما يقول حسن حنفي، وقراءة مصر في مرآة أوربا، وليس الذهاب الى باريس، بل العودة الى مصر. ولم تكن الغاية التعليم بل الافادة بالعلم".
ولكن السؤال الذي طرح انذاك هو: كيف يمكن للمسلمين ان يصبحوا جزءا من العالم الحديث دون ان يتخلوا عن دينهم؟
نحاول ان نجد الاجابة عند جمال الدين الافغاني ( 1839 ـ 1897). فقد اثار، توغل الجيوش الاوربية قلب الدولة العثمانية ( 1875 ـ 1878) ومعاهدة برلين وكذلك احتلال فرنسا لتونس وانكلترا لمصر، تساؤلات عديدة عنده وكشف في ذات الوقت، عن ضعف وتفكك الدولة العثمانية. ولذلك اوقف حياته للدفاع عن البلدان الاسلامية المهددة بخطر التوسع الاوربي ودعا المسلمين الى فهم الدين فهما صحيحا وإعادة بناء وحدة الامة وذلك عن طريق قطف ثمار العقل والعلم. مؤكدا في حواره مع الاديان عام (1884) على ان العلم والاسلام لا يتناقضان. كما دعا الى تعلم فنون اوربا المفيدة، التي تقوم على نظرة فكرية شاملة ونظام اجتماعي متكامل، في حين ان البلدان الاسلامية ضعيفة وذلك بسبب فساد المجتمع الاسلامي. كما سعى الى التغيير والتقدم ولكن ليس عن طريق تقليد الغرب، وانما تحقيق ما في الماضي من انتصارات. ولا يتم الاصلاح الحقيقي للاسلام إلا برجوع العلماء الى حقيقة الدين الاسلامي الذي يحمل في طياته رسالة عالمية. وفي باريس اصدر الافغاني مجلة " العروة الوثقى" ليخرج نظرية "الحمَية" او "التعصب" ليواجه بها اوربا. فبالحميَة والتعصب للأمة يمكن القيام بنهضة عامة وتشكيل وحدة تدفع عن الامة كل اعتداء اجنبي.
وقد انجذب الى افكار الافغاني الشيخ محمد عبده منطلقا مثل الافغاني، من مسألة الانحطاط الداخلي في المجتمع الاسلامي. غير ان عبده خالف استاذه الافغاني وذلك بعدم الرجوع الى الماضي، لان هناك حاجة الى التغيير والى البحث الذاتي، مع ربط هذا التغيير بمبادئ الاسلام. وكانت مهمته تحرر الفكر من قيود التقليد اولا وفهم الدين على طريقة السلف الصالح والرجوع الى الينابيع الاولى، وكان هدفه الاساس هو امكانية التوفيق بين الفكر الاسلامي وبين الفكر الحديث، واستبدال مفاهيم المصلحة بالمنفعة، والشورى بالديمقراطية، والاجتماع بالرأي العام، وبذلك اصبح الاسلام عنده مرادفا للتمدن.
ولا يحصر محمد عبده المجتمع الامثل بالشريعة، وانما بالعقل، وعلى المسلم الحقيقي ان يستعمل عقله في شؤون الدنيا والدين، وان لا يطبق عينيه على نور الحقيقة ويرفض النظر في البراهين العقلية. كما اكد ان من افسد الاسلام هم الحكام، الذين تطرفوا في التمسك بمظاهر الشريعة وبالطاعة العمياء للسلطة، وبذلك افسدوا العقيدة واخلوا بالتوازن بين العقل والوحي.
اما عبد الرحمن الكواكبي فقد تجاوز دعوة الاصلاح والليبرالية الى التحرر من النظام الاستبدادي وإقامة نظام "اشتراكي". ففي كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" بين فيه مكان الداء الدفين حتى يعرف الشرقيين انهم المستبدون لما هم فيه من تخلف وركود اجتماعي وثقافي. وفي كتابه الثاني "أم القرى" عالج فيه مواضيع اجتماعية وسياسية ربط فيها بين الاستبداد والركود والتخلف الاجتماعي، وقدم فيه مشروعا مبسطا لدولة اسلامية مثالية تقوم على مجلس شورى "ديمقراطي" كبديل للاستبدادية. كما ارجع الكواكبي اهم اسباب التأخر والتدهور والركود الى بنية السلطة الاستبدادية باعتبارها شكلا من اشكال الحكم التعسفية اللاعقلانية الذي وقع فيها الكواكبي ضحية من ضحاياها. فهو يقول بأن الاستبداد على طرفي نقيض من التقدم لانه ينتج علاقات اجتماعية وسياسية مستلبة. " فالاستبداد ليس الحرية والرشد والتقدم، وانما الجهل والرذيلة والجنون، وهو بهذا عدو الحق والحرية ". غير ان آراء الكواكبي بقيت نظرية وبعيدة عن أية ممارسة عملية في تربة ما زالت غير صالحة لتطبيق مثل هذه الآراء الجريئة.
الصراع بين التيارات
وقد نشب بين التيارين الديني والليبرالي صراع حول الاصلاح والتحديث والموقف من الحضارة الغربية ونظام الحكم الاستبدادي. وقد ظهر هذا الصراع في كتاب طه حسين "الشعر الجاهلي" وكتاب علي عبد الرازق "الاسلام وأصول الحكم " وفي المعركة الفكرية التي ارتبطت بقضية نظام الحكم والتحديث.
وكان طه حسين لا يستهدف نقد الماضي بقدر ما كان يستهدف نقد الحاضر والتشكيك بالماضي ومهاجمة الاعجاب الذاتي بالتراث. وقد آثار ردود فعل ومقاومة شديدة. كما وضع في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر" فلسفته الاجتماعية، التي دعا فيها الى اهتمام مصر بمستقبلها الحضاري، لان الحضارة هي غاية الحياة البشرية، والتي تعني سيطرة العقل على الطبيعة. ورأى بان اوربا الحديثة وصلت الى اعلى مراحل التقدم بعد ان تركت للعقل حريته من السيطرة على الطبيعة وحكم المجتمع، متأثرا بأفكار عصر التنوير الاوربية، داعيا الى ان تصبح مصر جزءا من اوربا وجزءا من العالم الحديث، وذلك باستيعاب مدنيتها ذاتها وحتى نكون اندادا لهم وشركاء في الحضارة، مؤكدا على ان تخلف مصر يعود الى الدولة العثمانية التي انزلت الخراب بها.
كما اثار كتاب علي عبد الرازق "الاسلام وأصول الحكم" الذي صدر عام 1925 قضية هامة هي نظام الحكم والدولة، مشيرا على ان الاسلام لم يقرر نظاما معينا للحكم ولم يفرض على المسلمين نظاما خاصا بهم. كما ان القرآن لم ينص على الخلافة ولم يحدد مهام الامام، والرسالة النبوية رسالة روحية وليست سياسية، بل وترك الحرية كاملة في تنظيم الدولة وفقا للأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية، وكذلك وفقا للتطور الاجتماعي ومقتضيات الزمن والعقل البشري.