الشرق الأوسط بين عاطفة الأسى ودبلوماسية الأمل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
من مذكرة سفير عربي قي اليابان
كاتب غربي يتحدث عن نهاية التاريخ، ومفكر يناقش صراع الحضارات، وأمة تحاصر شعب وتجوع أطفاله والعالم يتفرج. ثقافة تحاول أن تحقق الديمقراطية من فوهة البندقية، ومقاومة تدمر بلادها وتقتل شيوخه وأطفاله وتنتحر، وأحياء المحرقة عمت قلوبهم المجروحة ونفوسهم المصدومة عن نكبة الآخرين. شعوب تصرخ بحرية الإنسان وقياداتها تحرق الأخضر واليابس، وحكومة تريد حل تحديات العولمة بصنع قنبلة نووية، فما الذي يحدث في عالم العولمة المعهودة؟ وما سبب كل هذا العنف واللاعقلانية؟ الم تنقل تكنولوجية القرن العشرين الإنسان إلى عصر التحضر؟ ألم تسمو العلوم بالعقل من عاطفة الأسى إلى منطق الأمل؟ أم فقد العقل توازنه بتكرار الأحزان والإذلال؟ وهل انتقل وباء الانفعال من البشر للدول؟ أليس من المفروض أن تكون الدبلوماسية قريبة من المنطق، وبعيدة عن الانفعال؟ وما هي النهاية؟ وما هو مستقبل قريتنا الكونية الصغيرة؟ فهل هناك أمل؟
يناقش البروفيسور الفرنسي، دومينيك مويسي، أستاذ العلاقات الدولية بالكلية الأوروبية، هذه الأسئلة في كتابه الجديد، جيوبوليتكس العاطفة: ثقافة الخوف والإذلال والأمل ودورها في تغير العالم. فيبدأ كتابه بمقدمة يقول فيها: في الرابع من نوفمبر عام 2008، راقبت مع ملايين البشر انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة. ليلة مليئة بدموع عاطفية، وكانت بالنسبة لي الرمز الأقوى، دموع السعادة المنهمرة على وجه القس الأمريكي الأسود، جسي جاكسون. وذكرتني تلك الدموع بذكرى، قبل عقدين من الزمن، عزف الموسيقار الروسي المنفي روستروبوفيتش، أمام جدار برلين المنهار، دموع النصر والوفاق، دموع التناغم مع العالم. دموع رسالتها، بأن رجال العالم ونساءه، يمكنهم تغير التاريخ للأفضل حينما تحركهم العواطف، العواطف الحكيمة. ولم يمضي شهرا، إلا وتشتعل عاطفة انفعالية، في مدينة رمزها الأمل، لتحول الإذلال لعنف إرهابي، وليتساءل أهالي موباي الهند: لماذا؟ فلم نؤدي أحدا! ليرد الإرهابي الأول: هل تذكرون مسجد باربي؟ المسجد الذي بناه أول إمبراطور مغولي في الهند، في القرن السادس، ودمره زمرة من المتطرفين الهندوس. وليتساءل الثاني: "هل تتذكرون جودرا؟" المدينة التي تمت فيها مجزرة ضد المسلمين. فتعبر هذه الحادثة عن رمز لقوة الإذلال البشري، التي تثير الانفعال العاطفي، لتسيطر على سلوك العنف، وحتى بعد قرون.
ويعتقد الكاتب بأنه لفهم، الجيوبوليتكس، السياسة الجغرافية لعالم اليوم، نحتاج لدمج وفهم عواطف الصراعات، التي هي كالكولسترول، تجمعها العواطف الجيدة والانفعالات السيئة، والحكمة في خلق التوازن بينهما، وبدون معرفة قوة العاطفة، التي تسيطر علينا أكثر مما نسيطر عليها، ليس من الممكن استقراء مستقبل التاريخ. ويناقش الكاتب ثلاثة انفعالات هي الخوف والأمل والذل، ويتساءل: ولماذا هذه الانفعالات؟ أليس الغضب واليأس والسخط والكراهية والحب والشرف والتضامن انفعالات مهمة؟ ويجيب: لسبب ارتباط الخوف والأمل والذل بالثقة، وهو العامل المحدد لتعامل الأمم مع تحدياتها. فالخوف دلالة لفقدان الثقة بالمستقبل، فحينما يسيطر الخوف على حياتنا، نكون قلقين من الحاضر، ونتوقع مستقبلا أكثر خطرا. ويعبر الأمل عن الثقة في المستقبل، والقناعة بأن اليوم أفضل من أمس، والغد أفضل من اليوم، بينما الذل، هو جراح الثقة بالمستقبل، غلطة الظروف السيئة، وحينما تتضاد أمجاد ماضينا مع إحباط حاضرنا يسود الذل. وتختصر معاني العواطف الثلاث في أن يعني الأمل: أريد أن أحقق الشيء، وأستطيع أن أحققه، وسأعمل على تحقيقه، ويعبر الذل عن: لا أستطيع أبدا أن أحقق شيئا ما، وقد أدمر من لا أستطيع الانضمام إليه لتحقيق ذلك الشيء، بينما يعني الخوف: ربي! لقد أصبح العالم مكان خطرا، وكيف يمكنني حماية نفسي منه؟ وتعبر هذه العواطف عن مدى ثقتنا بأنفسنا، فالثقة مهمة للأمة والحضارة والفرد، تساعدنا على تخطيط المستقبل، لنحقق قدراتنا، ونسمو بها. وتحدد ثقة الأمم بمستقبلها، معايير بسيطة، كالفوز بكأس العالم لكرة القدم أو بناء أعلى برج، أو بمؤشرات إحصائية كارتفاع نسب الاستثمار.
وهناك حاجة لمجابهة عواطفنا لفهم عالمنا المتغير، وذلك برسم خارطة عولمة عاطفية، وفهم التضخيم الإعلامي التي تواجهه، والذي يؤدي لتفاعل خطير بين العاطفة والإعلام، ويؤثر على السياسة الجغرافية، الجيوبوليتكس. فقد أصبح العالم، بفضل العولمة، أكثر تسطحا وانفعالا وعاطفة، كما اندمجت وتفاعلت أسواقه، وانتقلت الأموال والبضائع والتكنولجيات بحرية، ومكنت الشعوب والأمم. كما رافقت العولمة قوة انفعالية مدمرة، من الذين عانوا من وحشيتها القاسية، وتخلفوا عن ركب نظامها. وزاد التأثير الأمريكي بعد انهيار الإتحاد السوفيتي، وأدى لوحدة العالم الاقتصادية والثقافية، وبراية الأمريكية. فزادت المعارضة ضد العولمة وتعمقت بأزماتها المالية والاقتصادية، ورافقتها فشل الرأسمالية خلق المساواة والتجارة العادلة والتنمية المستدامة. ومع أن الثقافة الأمريكية غزت العالم بشكل غير مسبوق، ولكن تجاوزتها آسيا اقتصاديا، وستنتقل القوة الاقتصادية من الغرب الأمريكي إلى الصين والهند.
ويعتقد الكاتب بأنه لنستطيع استيعاب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني نحتاج لتفهم بعده العاطفي، وهو في الحقيقة صراع على الأرض والأمن والازدهار والسيادة، ولكنه مشحون بانفعالات بالغة. وقد عبر أحد الفلسطينيين عن ذلك بالقول: "كأنك ماشيا في طريق مدينتك التي ولدت فيها، وفجأة، تنفتح نافدة فوق رأسك، ويسقط إنسان فيسحقك وهو نازل على الأرض." وقد يبدو ذلك التعبير غريب لأحياء المحرقة، ولكن على الإسرائيليين فهم هذا الشعور، لكي يستطيعوا أن يتعاملوا معه بحكمة. ويبقى السؤال المحير: كيف نصالح بين شعبين يختلفان في بعدهما العاطفي، حينما تكون معجزة ولادة أحدهما هو نكبة للآخر، وحين يعتبر الإسرائيليين دولتهم ظاهرة شرعية لمواطنيتهم، يعتبرها العرب ظاهرة خطأ تاريخي للامبريالية الغربية؟ فهذه ظاهرة دولية تجمع بين عاطفة الذل والخوف، أمة يهودية ولدت من مأساة مطلقة وفريدة، وشعب فلسطيني سحق وأضطهد بضحية إسرائيلية عمت عن الإحساس بمعاناة الشعب الآخر، بسبب ضخامة جرحها الجسمي والنفسي. فليس هناك أزمة أكثر انفعالية، على المسرح العالمي، من هذه المأساة، والذي يسيطر عليها ذنب عالم أوربي غربي، متمزق بين ذكريات المعاداة للسامية، ومآسي الاستعمار. وإذا لم يخرج الغرب بنجاح من هذه الحلقة المفرغة من الإذلال والخوف، للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، التي يعاني منه العالم والذي تحول لحرب بين الغرب وبين الأصوليون العرب الإسلاميين، سيحكم الغرب على نفسه بالانحدار من مركز التاريخ لهامشه.
ويتساءل الكاتب عن الأمل، وما هو الحل؟ وهل فعلا هناك شيء موروث في الثقافة الإسلامية والمسيحية تجعل الصراع بينهما صراع حتمي؟ فثقافة الإذلال الإسلامية، التي شارك فيها الغرب، خلقت ورطة معقدة لقيادات الغرب. ونحتاج لرسم خارطة عاطفية لتميز خلاف هذا الصراع، والتميز الأول هو بين العرب والعالم الإسلامي، فإذا كانت ثقافة الإذلال لها معنى ستكون مرتبطة بالعالم العربي، فهناك قلب الصراع، وقمة الإذلال. ولكن من الصعب أن تفصل اليوم بين العالم العربي والعالم الإسلامي، وخاصة بعد أن ربطت حوادث الحادي عشر من سبتمبر الإرهاب بالإسلاميين، والذي أدى لاعتبار المسلمين الحرب على الإرهاب، ما هي إلا حرب على الإسلام. وحينما نتكلم عن الدين والإرهاب يجب إلا نربطه فقط بالإسلاميين، بل علينا تذكر "يجال امير" المتطرف اليهودي الذي اغتال إسحاق رابيين في عام 1995 "كأمر من الله." كما استخدام الإرهاب في الصراع الكاثوليكي البروتستانتي في التاريخ الايرلندي الحديث أيضا. ولنتذكر بأن حوادث الإرهاب بين الأصوليين في الغرب، خلق ثقافة خوف أوروبية وأمريكية، والتي تحتاج لبصيص من الأمل للسلام في منطقة الشرق الأوسط.
وعرض الكاتب سيناريو لثقافة الخوف في صراع الشرق الأوسط، وسيناريو آخر لثقافة الأمل، وربط سيناريو ثقافة الخوف بفكرة صراع هانتنجتون للحضارات، والذي يعتقد الكاتب بأنها سترجع العالم لمرحلة الهمجية، حياة العصور الوسطى الأوربية، بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية، حينما سيطر البرابرة، لتبدأ عصور العنف والفوضى والغوغاء، والتي استمرت لخمسة قرون. ويتساءل الكاتب لو أختار العالم هذه الثقافة وبدأ عصر الغوغاء، فما سيكون عمرها المستقبلي؟ ومتى سيسدل التاريخ ستاره عليها؟ ويعرض الكاتب سيناريو آخر للأمل بعد أن يقتنع الغرب للحاجة لسلام عادل وشامل في الشرق الأوسط، ويعمل على فرضه على جميع الأطراف. ويستقري الكاتب وصف نتائج هذا السلام عن بزوغ الأمل فيقول: "في نوفمبر عام 2025، في ميدان إسحاق رابيين بتل أبيب، يحتفل المواطنون وبحضور الأمم المتحدة وباقي دول العالم، الذكرى الخامسة لاتفاقية السلام، التي أنهت سبعة عقود من العنف والظلم وعدم الاستقرار، بعد أن اكتشف الإسرائيليون والفلسطينيون باحتياج كل منهم للآخر للوجود والبقاء. وقد لعبت الولايات المتحدة دورا هاما في السلام العالمي، حينما اعترفت بأنها ستبني اقتصادها وبنيتها التحتية من مواردها القليلة، بدل البحث عنها في الخارج بمغامرتها الاستعمارية. وبعد أن تخلصت من عقدة تصدير الديمقراطية، وتفرغت للمحافظة على البيئة، لتصبح دولة قائدة للتكنولوجية الخضراء، والتي أدت لتخلصها من أزمتها الاقتصادية، وخفض نسب البطالة، كما انفتحت على الثقافات الأخرى، فزاد السياح، وارتفعت الاستثمارات الأجنبية فيها، وأصبحت عضوا فاعلا في الساحة الدولية والأمم المتحدة. لتتحول الأمم المتحدة لمؤسسة تعلب دورها في التعامل مع التحديات العالمية، وتفهمت دورها كعضو مشارك لا مهيمن بين دول العالم للتعامل مع تحدياته.
ويختتم دومينيك كتابه بالقول: "نحتاج للتفاؤل والإحساس بالحزن، وتعتمد طريقتي لفهم التاريخ على الجمع بين التفاؤل، بقناعتي بأنه يجب ويمكن إصلاح العالم حتى ولو جزئيا، والوعي العميق بالطبيعة المأساوية للعملية التاريخية. فأنا واقعي في عالم المثاليين، ويراني البعض مثالي في عالم الواقعيين، وقد كان اهتمامي طوال حياتي المهنية لكيفية المصالحة بين الأخلاق والجيوبوليتكس. والذي دفعني للكتابة عن جيوبوليتكس العاطفة هو تاريخي الشخصي، كأبن يهودي لناجي المحرقة النازية، سجين الاوشوتز رقم 159721. فقد ولدت بعمق الإحساس بالحزن، ولكن خبرة والدي الذي نجا من المحرقة، تجمع بين الحظ والقوة والأمل، ورغبته في أن يشهد على ما واجهه، أعطاني الإحساس بالواجب. والسؤال الرئيسي الذي حيرني من حياة والدي، والذي أصارع عقود للإجابة علية: هل سيحقق العالم جزءا مما حققه والدي، تجاوز الخوف والإذلال، ليضيء طريق الأمل من جديد، وحتى في مواجهة مأساة؟ فلنجابه التحديات التي نواجهها اليوم، يحتاج عالمنا للأمل."
سفير مملكة البحرين في اليابان