أصداء

تبا لساسة تفرقهم المصالح و توحدهم الجرائم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

الديمقراطية بمفهومها الحديث، لم تظهر وتمارس، الا بعد نضوج المبادئ والمفاهيم الليبرالية التي جاءت على انقاض الانظمة الدينية (الثيوقراطية) والطائفية المستبدة التي كانت سائدة في القرون الوسطى. لقد تبلور الفكر الديمقراطي الليبرالي بعد صراع اجتماعي طويل ضد استبداد الكنيسة الكاثوليكية والاقطاع والنبلاء بقيادة مارتن لوثر الذي قاد حركة الاصلاح. وتجلت اسس هذا الفكر في نظريات العقد الاجتماعي التي كان من ابرز فلاسفتها، توماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو ومونتسكيو.

لقد حرص الفكر الليبرالي على تجسيد العلاقة العضوية بين مفهوم الدولة، وسيادة الامة وحقوق المواطنة. وانبثق تصور جديد للنظام السياسي، معياره سلطة مدنية تخدم مصالح المواطن الدنيوية وبصرف النظر عن طبيعة النسيح الاجتماعي ومدى الايمان والانتماء للاديان والمذاهب والاثنيات التي كانت السبب الرئيسي في تخلف اوربا في القرون الوسطى. واصبح النظام السياسي قابل للنقد والمراقبة، وان الطبقة الحاكمة مسؤولة امام الجماعة المحكومة (الشعب) عن تحقيق الحرية والعدالة والمشاركة في بناء النظام العام وارساء قواعد الامن والاستقرار للجميع، واعتماد مبدأ تداول السلطة سلميا، وضمان الحريات الفكرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وان المواطنة هي المعيار الرئيسي في التعاملات.

لاتختلف طبيعة النسيج الاجتماعي للشعب العراقي عن بقية شعوب الارض، بل هناك شعوب يتكون نسيجها من مكونات معقدة للغاية كالشعوب الامريكية والبريطانية والسويسرية وغيرها من الشعوب، ولكنها تعيش بسلام ووئام لتحقيق المصالح العليا للوطن، وتتضافر جميع الجهود لمكافحة الجريمة بشتى صورها في ظل نظام سياسي ديمقراطي ليبرالي يحقق العدالة والمساواة للجميع. بينما نرى، الشعب العراقي الذي تقوده عملية سياسية طائفية واثنية، يعيش حالة صراع عنيف بين مكوناته لتحقيق مصالح انانية ضيقة من اجل الانفراد بالسلطة وتصفية الخصوم. وبدون ادنى شك، فان الخلافات والتناقضات في الاراء والمعتقدات والمصالح بين الاديان والمذاهب والاثنيات، انعكست سلبيا في سلوك وممارسات اطراف العملية السياسية التي عمقت هذه الصراعات بين المواطنيين الى حد الاقتتال الطائفي والعرقي.

لقد تعددت صور الصراع على المصالح، واخذت اشكالا وابعادا مختلفة، ومنها مثلا، تفسير الدستور والقوانين، فنرى الاكراد يختزلون الدستور العراقي بالمادة (140) لغرض ضم اوسع ما يمكن من المدن والاراضي لاقليم كردستان دون الاكتراث للنصوص الدستورية الاخرى كحماية الحقوق والحريات العامة للمواطنين المخترقة والمهدورة. كما ان القوى السياسية الطائفية المرتبطة بايران تسعى جاهدة لتطبيق نصوص الدستور المتعلقة باجتثاث البعث على طائفة معينة وبغض النظر، فيما اذا كان الشخص مفصولا او مستبعدا من حزب البعث منذ عقود من الزمن، كما حصل للدكتور صالح المطلك والدكتور ظافر العاني واخرين غيرهم. وان التكالب على السلطة بشتى الوسائل، كما هو واضح من سلوك الاحزاب الطائفية، هو دليل اكيد لتصعيد صراع المصالح الى اعلى درجاته في تصفية الخصوم والانفراد بالسلطة التي لمسنا بعض مؤشراتها في عدم الالتزام باحكام المادة 64 من الدستور التي تعتبر الحكومة لتصريف الاعمال بمجرد انتهاء دورة مجلس النواب. ومن الواضح جدا ان عبارة "حل مجلس النواب" يعني انتهاء دوره باي شكل من الاشكال، مما يصبح وجود مجلس الوزراء بدون غطاء شرعي فلا يجوز ان يزاول اعماله الاعتيادية المنصوص عليها في الدستور.

ومن جانب اخر، ان هذه الاحزاب والقوى التي تفرقهم مصالحهم كما اوضحنا، نجدهم موحدين ازاء ارتكاب الجرائم بحق الشعب العراقي واموال الدولة.

فهم موحدون في خرق دستورهم وقوانينهم، وانتهاك احكام القانون الدولي الانساني والجنائي في انشاء محاكم خاصة لمحاكمة خصومهم السياسيين التي تفتقر لابسط المعايير الدولية، والاعتقالات والمداهمات وتفتيش المساكن بدون قرارات قضائية، وممارسة ابشع جرائم التعذيب بحق المتهمين، وسرقة ممتلكات المواطنيين والمال العام، وارتكاب جرائم التزوير والاحتيال، وارتكاب جرائم الفساد المالي والاداري والتشجيع على الرشوة بحماية مرتكبيها وتهريبهم خارج العراق، وتهجير الملايين من المواطنيين داخل وخارج العراق وحرمانهم من ابسط متطلبات العيش، وتشريع القوانيين بمنح انفسهم الامتيازات المذهلة على حساب الجياع الذين يعيشون على القمامة والعاطلين عن العمل والساكنين في الخيم وبيوت الصفيح، وارتكاب جرائم القتل على الهوية، والقتل خارج القضاء، وارتكاب جرائم المخدرات، وجرائم المتاجرة بالجنس، وازدياد وتيرة عقوبة الاعدام المحرمة دوليا نتيجة اعترافات منتزعة عن طريق التعذيب الهمجي. ولم تتحرك هذه القوى ضد مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية من قبل قوات الاحتلال كاستخدام اليورانيوم المخضب والفوسفات الابيض المحرمة دوليا التي سببت تشوهات خلقية واصابات بمرض السرطان تفوق في جسامتها الاضرار التي احدثتها القنابل النووية على هيروشيما وناغازاكي عام 1945 بحسب التقارير الدولية وما اثير مؤخرا من قبل وزير الدفاع البريطاني "ليام فوكس" امام مجلس العموم البريطاني، وغيرها من الجرائم التي ارتكبتها قوات الاحتلال والشركات الامنية الخاصة كشركة بلاك ووتر في ساحة النسور والفلوجة وابو غريب والنجف وغيرها من المدن.

ومما زاد الطين بلة، موقف القضاء العراقي المخجل. فبدلا من السعي الى تحقيق العدالة وتطبيق احكام الدستور والقوانيين بحيادية واستقلالية واحتواء الازمات والصراعات الطائفية والعرقية، فان موقف القضاء متفرجا على الاحداث والماسي، وازاء الجرائم المرتكبة بالرغم من كونها جرائم جنايات خطيرة تحتم على القضاء والادعاء العام من اتخاذ التعقيبات القانونية بحق مرتكبيها تحقيقا للعدالة والاستقرار وتطمينا للمواطن العراقي.

ولا ادري كيف يستطيع القاضي العراقي ان يكون مرتاح الضمير والبال بصدور قرارات الاعدام المحرمة دوليا بحق بعض الابرياء المنتزعة اعترافاتهم عن طريق التعذيب وفق احكام قانون مكافحة الارهاب رقم 13 لسنة 2005 الذي جاء بنصوص فضفاضة تتناقض مع مبدأ الشرعية "لا جريمة ولا عقوبة الا بنص"، بينما يقف مكتوف الايدي ازاء ابشع الجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية المرتكبة بحق المواطنيين العراقيين من قبل قوات الاحتلال والشركات الامنية (المرتزقة) والقوات الحكومية والمليشيات الطائفية والعنصرية..؟!

بل ان القضاء العراقي يساهم في تعزيز الانقسامات وتعميق التناقضات بين مصالح مكونات العملية السياسية، من خلال ابداء اراء واتخاذ قرارات ومواقف منحازة لبعض الاطراف. فالاجتهاد الذي اصدرته المحكمة الاتحادية العليا المخالف للقانون رقم 30 لسنة 2005 وللسوابق الدولية والمحلية ومتطلبات المنطق والعقل السليم، في سلب حق الكتلة الفائزة بالانتخابات باكثر المقاعد في تشكيل الحكومة، هو جهد يصب في تكريس الطائفية وبناء دولة ثيوقراطية دكتاتورية مستبدة. كما ان عدم دفع الهيئة التمييزية بعدم شرعية هيئة المسائلة والعدالة التي مارست صلاحيات بدون غطاء دستوري او قانوني، يصب بنفس الاتجاه.

في الواقع، يمر القضاء العراقي، للاسف الشديد، بمرحلة من التسلط الدكتاتوري والعبودية لم يسبق له مثيل في تأريخ العراق الحديث. سألت أحد كبار القضاة المعروف بكفاءته ونزاهته عن رأيه بواقع القضاء العراقي في ظل الاحتلال والتسلط الفردي على هذه المؤسسة الحيوية، وكان رده "الصمت المطبق"، وعندما كررت عليه السؤال، قال لي "امتنع عن الاجابة". هذا هو الواقع الذي يمر به العراق ومؤسساته وسلطته القضائية! قاضي له خدمة قضائية بحدود الاربعين سنة، لا يجرأ ان يعطي رأيه بالواقع الماساوي للقضاء، فكيف يستطيع هذا القاضي وغيره، ان يحقق العدالة..؟

اقول: ان العدالة في العراق في خبر كان في ظل ساسة يدعمهم القضاء، تفرقهم المصالح و توحدهم الجرائم.

وكما اوضحت في مستهل هذا المقال، ان العملية السياسية تفتقر لابسط الشروط والمقومات لممارسة الديمقراطية لانها تتناقض مع القيم والمبادئ الليبرالية التي تعتبر من المراحل المتقدمة لبناء الديمقراطية، ناهيكم من ان ولاءات الاحزاب والقوى السياسية للقائد الاوحد في الحزب الذي تسلم القيادة عن طريق الوراثة او السلطة والقوة والاستحواذ على المال، فهي لا تؤمن اصلا بالممارسة الديمقراطية مع ذاتها، فكيف لها ان تمارسها مع الاخرين (فاقد الشئ لا يعطيه).

ان استمرار الوضع السياسي الحالي في ظل جهاز قضائي غير محايد وغير كفوء، ستكون نتائجه كارثية على العراق (ارضا وشعبا)، وان هذه النتائج لا تتخطى احد احتماليين:

الاحتمال الاول: نشوب حرب اهلية طائفية اقليمية تكون ساحتها العراق، وقد تستمر لعقود من الزمن تحرق الاخضر واليابس على حد سواء.
الاحتمال الثاني: تسلط طائفة دينية سياسية على مقاليد السلطة، مما تؤسس لابشع واشرس دكتاتورية ثيوقراطية عرفها تأريخ العراق الحديث.

ان العراق يشكل بعدا استراتيجيا حيويا للعالم على جميع الاصعدة،السياسية والاقتصادية والامنية، وانه العمق الامني لحماية الدول العربية على وجه الخصوص. لذا على الدول العربية ان لا تترك الوضع في العراق ينحدر نحو الاسوأ، وعليها ان تتحرك بكل قوتها لانتشال الواقع المتهاوي. ان العراق يخضع لاحكام البند السابع من ميثاق الامم المتحدة، وان ما يجري في العراق من تناحر سياسي طائفي اثني للاستحواذ على السلطة يهدد السلم والامن الاقليمي والدولي، مما يلزم اصدار قرار من مجلس الامن الدولي بوضع العراق تحت الوصاية الدولية وتعطيل الدستور وحل العملية السياسية الحالية برمتها، وتشكيل حكومة انتقالية من التكنوقراط العراقيين المعروفيين بكفائتهم ونزاهتهم، ومنح هذه الحكومة جميع السلطات لتسيير شؤون البلاد على اسس سليمة بعيدة كل البعد عن تسييس الدين. وتعمل هذه الحكومة عل اصلاح المؤسسات الحيوية في الدولة، كالمؤسسات القضائية والعسكرية والامنية وجعلها في خدمة الوطن والمواطن، وبناء مجتمع مدني ومؤسساته لنشر الفكر والوعي الليبرالي الحر تمهيدا لانتخابات عامة تشترك فيها الاحزاب والقوى والشخصيات السياسية الوطنية التي لا تستخدم الدين او الطائفة للوصول الى السلطة. وتقوم الحكومة الانتقالية بتطبيق مشروع العدالة الانتقالية لتحقيق مصالحة وطنية حقيقة شاملة واحالة جميع مرتكبي الجرائم الى المحاكم المختصة لنيل جزائهم العادل ودفع التعويضات المجزية للمتضرريين.

ان استمرار تخاذل الدول العربية وخاصة المجاورة للعراق وعدم تحركها الجدي بالاتجاه المذكور سيلحق بها ضررا جسيما في تهديد امنها واستقرارها ومن ثم سوف لا ينفع الندم، لان احد الاحتمالين اعلاه سيتحقق.

قاضي عراقي سابق

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف