العقل وسحر التربية (1)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من مفكرة سفير عربي في اليابان
لفت نظري مؤخرا كتاب ومقال، كتاب ملئ مكتبات طوكيو، للبروفيسور بروس بيري، عالم أمريكي متخصص في الأمراض النفسية عند الأطفال، ومقال بجريدة اليابان تايمز، للصحفي الياباني، هيروياسو تاكاياما، يناقش فيه مسلسل "خواطر"، الذي عرضه تلفزيون "الام بي سي" في شهر رمضان الماضي. وأرجو أن يسمح لي القارئ العزيز أن أعرض أحد مرضى البروفيسور بيري، الذي وصفه في كتابه، الولد الذي ربي ككلب، قبل أن أعرض مقال الصحفي الياباني، هيروياسو تاكاياما، وبعدها نناقش الأفكار التي عرضها البروفيسور بيري، في كتابه الجديد، ولدنا للحب.
عرض البروفيسور بروس بري، في كتابه، الولد الذي ربي ككلب، حالة طفل فقال: "قابلت جستون لأول مرة في عام 1995، حينما كان في السادسة من عمره، بوحدة العناية القصوى، حيث دعيت من أطباء القسم، لمنع طفل من إلقاء البراز والطعام على الممرضات. فرأيت طفلا نحيفا جدا، في حفاظه مهلهلة ومليئة، يتهزهز ويئن، في سرير يشبه قفص كلب، متسخ ببرازه، والطعام متناثر على وجهه، وكان يقاوم كل فحص، وينبح كالكلب على الممرضات، ويلقيهم بالطعام، وقد أدخل للمستشفى لعلاج التهاب رئوي شديد. وقد تركت الأم الغير متزوجة، والبالغة الخامسة عشر من عمرها، طفلها عند جدته، وهو في الشهر الثاني. وكانت الجدة مريضة وبدينة جدا، فقام صديقا لها برعايته، وحينما توفت الجدة، والطفل في الحادية عشر شهرا من عمره، بقى الطفل الرضيع مع صديق جدته، البالغ ستين عاما، وهو لم يعرف مهنة غير تربية الكلاب. فلم تكن لهذا الرجل خبرة في التعامل مع الرضيع، والذي كان يصرخ طوال الوقت، بعد أن فقد والدته وجدته، فقام الرجل بالاتصال بإدارة رعاية الطفولة، فوعدوه خيرا، وطلبوا منه أن يبقي الطفل معه، حتى يحصلوا له على مؤسسة ترعاه، ولكن لم يعودوا الاتصال به. فبقى الطفل الرضيع مع الرجل العجوز، فتركه في قفص مع كلابه، وكان يطعمه بانتظام، ويخرجه مع كلابه للنزه، ولكن لم يكلمه أو يلعب معه. فتربى الطفل خمس سنوات في القفص مع الكلاب، وكبر ولم يتكلم، ولم يفهم لغة البشر، بل كان يعوي ويمشي على أطرافه الأربعة. وبينت الفحوصات الطبية ضمور شديد في المخ، وبدون أية أمراض وراثية أو مكتسبة."
وكتب الصحفي الياباني، هيروياسو تاكاياما، بصحيفة اليابان تايمز، الصادرة في الثامن عشر مايو الماضي، مقال عن زيادة اهتمام العرب بالتجربة اليابانية، والذي تتضح من الشهرة التي حققها مسلسل "خواطر" الذي عرضه تلفزيون "الام بي سي" في شهر رمضان الماضي. وقد شمل هذا المسلسل حلقة للكاميرا الخفية، صورت طفل ياباني مع والديه، يلتقطون حقيبة نقود ضائعة في الشارع، ويأخذونه لصندوق الشرطة. وقد علق مقدم البرنامج، الأستاذ أحمد الشقيري، على تلك الحادثة بقوله: "لقد اندهشت، اخذوا الحقيبة الملقاة في الشارع، وبها سبعة آلاف ين، وأعطوها للشرطي. لا يمكن أن يصدق ما يحدث في المجتمع الياباني، يلتزم المواطنون بإشارات المرور، وينظف صاحب الكلب براز كلبه في وسط الشارع، ويحافظ طلاب الابتدائية على نظافة صفوفهم. فيبدو لي بأن هناك الكثير الذي يمكننا أن نتعلمه من المجتمع الياباني، كاحترام الآخرين، والاهتمام بالرتابة والنظافة." ويعتقد بعض العرب بأن المفاهيم الغربية للفردية الشخصية، والأفكار اللبرالية عن مساواة المرأة، لا تناسب قيم وتقاليد مجتمعهم، بينما ينظرون بإعجاب للتجربة اليابانية بتطوير الحداثة مع المحافظة على تقاليد المجتمع. كما علق مواطن ياباني يعيش في منطقة الخليج على المسلسل بقوله: "تنظر المنطقة لليابان كبلد حققت الحداثة وحافظت في نفس الوقت على قيمها وتقاليدها، وتعتبرها نموذج مختلف عن أوروبا والولايات المتحدة لتحقيق التنمية."
لقد حققت اليابان حداثتها بعد أن تفهمت بأن المواطن الياباني هو موردها الطبيعي والأساسي، وبأن تطور عقلة يحتاج لسحر تربية متميزة، لتعتمد علية لبناء يابان الجديدة بعد دمار الحرب. فلذلك اهتمت بتربيته وتعليمه، لتطوير ذكاءه الذهني، لحل المعضلات الرياضية والعلمية والحياتية، وذكاءه الاجتماعي، لتحسين مهارات التواصل بثقافات عالم العولمة الجديد، وذكاءه العاطفي، لخلق حكمة السيطرة على الانفعالات العاطفية وتوجيهها في قنواتها المنتجة. بالإضافة لاهتمام اليابان بذكاء الطفل الروحي، لفهم ماديات هذا الكون وروحانياته الإلهية، لمعرفة موقعه ومسئولياته فيه والغاية منها، وخلق التناغم الروحي مع الثقافات الدينية الأخرى، وذكاءه البيئي، لاحترام الطبيعة، وتجنب تلويثها، وحكمة التعامل مع مواردها الطبيعية، وكفاءة استخدام طاقتها. وتبدأ هذه التهيئة في اليابان بعد الولادة، ففي السنة الأولى تتفرغ الأم لتربية طفلها حتى أن يدخل الحضانة، لتبدأ بعدها الدولة المشاركة بدورها مع العائلة في تهيئة أجيالها القادمة.
ويتعلم الطفل الياباني في الحضانة والمدرسة أخلاقيات السلوك، باحترام الآخرين، والتعاون معهم بتناغم جميل، مع تقدير الوقت وقدسية العمل، كما يتعلم مهارات أدب الكلام. وتعتمد مهارة المخاطبة في اليابان على احترام الوقت، لتؤكدها المقولة المشهورة، الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وعلى قلة الكلام وتركيزه، والتي تعبر عنها المقولات: خير الكلام ما قل ودل، وإن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، ولسانك حصانك إن صنته صانك، وإن خنته خانك. وتجمع بلاغة التعبير، حسن المخاطبة، ومهارة لغة الصمت. ويتعلم الطفل الياباني التركيز على السمع، للاستفادة، وقلة الكلام، للحفاظ على الوقت، وتقليل فرص الخلاف. ويدرب الطالب، منذ الصغر، على مسئولية العمل واحترامه، وذلك بمحافظته على نظافة المدرسة، وكنس صفوفها، وتنظيف حماماتها، وزرع حدائقها، ورعاية حيواناتها.
وتطور المدرسة اليابانية أحاسيس الطفل الروحية، بتعلم احترام جميع الثقافات والأديان، والتدرب على تذوق الشعر والموسيقى، وزيارة المعابد والمتاحف. وحينما يكمل الطالب المرحلة المتوسطة، يتعرف على مهاراته الخاصة، من خلال استبيان يبين إمكاناته الشخصية والذهنية، يساعده في اختيار اختصاصه المستقبلي. ويتوجه ما يقارب الثلث من طلبة المدارس المتوسطة للمعاهد التكنولوجية والزراعية، بينما يكمل الباقي الدراسة الثانوية. ويتقدم الطلبة بعد النجاح في الثانوية لامتحان عام يقيم إمكانياتهم اللغوية، وقدرات حلهم للمعضلات العلمية والاجتماعية، ليحدد دراجات هذا الامتحان، الكليات التي سيلتحقوا بها. ويعيش الطفل الياباني تناغم روحي جميل في مجتمعه، حيث يحتفل بولادة الطفل في معابد الشنتو، والزواج بالطريقة المسيحية، والدفن على الطريقة البوذية. ويخلق التعليم الياباني التوازن بين ولاء المواطنة الصالحة والكفاءة، وذلك بالتركيز على احترام الإمبراطور، وحب الوطن، والالتزام بالدستور، وتطوير السلوك الشخصي والأخلاقي، ومهارات حل المعضلات الحياتية.
تلاحظ عزيزي القارئ مثليين متضادين لتطوير العقل البشري وتنميته، طفل تهمله أمه ودولته، فيفقد رعاية الأم وحنانها، وتربية حضانات الدولة ومدارسها، ويعيش بين الكلاب، وطفل آخر، يعيش بين أحضان والدته، وبرعاية حكومته ودولته، ويبقى السؤال: متى يكمل نمو العقل البشري تطوره؟ وما أهمية البيئة المحيطة في نموه؟ وهل لهذه البيئة تأثير على جينات مورثات الخلايا العصبية؟ وما تأثير بيئة التطرف والعنف، والصراعات الطائفية والمذهبية، على نمو عقول هؤلاء الأطفال؟ وهل سيؤدي ذلك مع الزمن لتغير عقلية الأمة، وسلوكها، وذكائها، وتناغم عملها، وإنتاجيتها، وأمنها، وسلامها؟ ولنا لقاء.
سفير مملكة البحرين في اليابان
التعليقات
اليابان
خطّاب حسين -تحية للكاتب الكريم.أعتقد ان تغير الجينات يحتاج الى وقت طويل من خلال تراكم الطفرات التي تساعد على التكيف و اختفاء الصفات التي تعيق التكيف. ولمن هناك نوع من الأنتخاب الطبيعي السلوكي وليس الجيني بمعنى أن السلوكيات المتناقضة مع البيئة العنيفة هي التي تسود فيما تضمحل السلوكيات غير المنسجمة مع العنف عن طريق الهجرةاو عن طريق الأنزواءو التخفّي.بمعنى ان البيئة العنيفة ستنتج حتماً اناس عنيفين حتى لولم تتغيّر جيناتهم.بمناسبة ذكر اليابان لدي هنا في السويد أصدقاء يابانيين.. وهم مرتاحين جداً لأنهم تركوا اليابان!! وحسب ما يقولون ان الشخص الياباني مستنفذ من قبل تقاليد العمل الصارمةمن جهة ومن قبل التقاليد الأجتماعية الصارمة أيضاً..ان الشخص الياباني يحمل كل الصفات المطلوبة للأنسان العصري ولكنه غير سعيد.والذي يعيش في مجتمع أوربي يعتبر سعيداًبالنسبة لأغلب اليابانيين. مع وافر تقديري.